من خير الكلام


آخر 10 مشاركات
هلا بالجميع (الكاتـب : دغيفل - - الوقت: 20:59 - التاريخ: 14-11-2023)           »          اصعب سؤال (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 14:50 - التاريخ: 26-06-2020)           »          وريثة الغيم (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 10:37 - التاريخ: 21-03-2020)           »          الظِل.......! (الكاتـب : كريم العفيدلي - - الوقت: 23:00 - التاريخ: 26-01-2020)           »          آفـآ وآلله يـآمـجـرآك (الكاتـب : ناعم العنزي - - الوقت: 10:12 - التاريخ: 23-01-2020)           »          ثـقـوب (الكاتـب : عائشة الثبيتي - - الوقت: 10:25 - التاريخ: 17-12-2019)           »          ~{عجباً لك تدللني}~ (الكاتـب : شيخه المرضي - - الوقت: 23:39 - التاريخ: 26-11-2019)           »          تاهت خطاويه (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 08:55 - التاريخ: 14-11-2019)           »          خزامك وشيحك (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 22:43 - التاريخ: 08-11-2019)           »          موسم الصمان (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 14:58 - التاريخ: 08-11-2019)


 
العودة   شعبيات > > ذاكرة العرب
تحديث هذه الصفحة مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!
 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 16-05-2007, 22:53   #1
سرد الرواة
Guest
 

مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!




نمر بالكثير من الكتابات القصصية, التي تحمل أبعادًا إنسانيّة مؤثّرة.
نمر بالكثير الذي يعبّرعن لحظاتنا التي نعيشها بدقةٍ متناهيةٍ, تكاد توحي بأنها مكتوبة من أجلنا.
ومن أجلنا أيضًا..
كانت هذه النافذة التي ترنو إلى إشراقاتٍ, تعيد تفاصيل الشعور القلبيّ المحض, الذي ينتابنا عند القراءة الأولى.
وإلى مواقف حميميّةٍ, تعيد الأشياء التي نطالعها عند كلّ حنينٍ وشوق.!
هذه النافذة أشبه بالدليل إلى أجمل المختارات التي تهتم بأدب القصص العربية والعالمية المترجمة.

*
"أن نبدأ، هذا كل ماهناك.".!

  اضافة رد مع اقتباس
قديم 16-05-2007, 22:58   #2
سرد الرواة
Guest
 

رد : مـخـتـارات قصصـية (بصوتٍ عالٍ).!



السكير الأول: المشنوق

ـ ميشيل ترامبليه* ـ

يشنق في بلادي، من يقتل جاره. هذه بلاهة، ولكن الأمر كذلك.
أما أنا فأعمل خفيراً على المشنوقين. عندما يموت المشنوق في السجن الذي أعمل فيه، فإنهم لا يفكونه، في الحال، عن المشنقة، بل يدعونه معلقاً طوال الليل، وأنا، خفير المشنوقين، أحرسه حتى شروق الشمس.
لا يطلب مني البكاء، ولكني أبكي على الرغم من ذلك.
كنت أستشف جيداً بأن هذا المشنوق لن يكون مشنوقاً عاديا. فعلى عكس كل المحكومين عليهم بالإعدام، الذين رأيتهم حتى الآن، لم تبد عليه علائم الخوف، لم يكن يبتسم، إلا أن عينيه لم تكونا تنمان عن أي هلع. كان ينظر إلى المشنقة نظرة جامدة، في حين كانت تنتاب الآخرين – عند رؤية المشنقة – نوبة عصبية لا مفر منها.
أجل كنت أستشف جيداً بأن هذا المشنوق لن يكون مشنوقاً عاديا.
عندما أزيح الكرسي، تمدد الحبل مصدراً صوتاً جافاً، فأحسست بشيء يتحرك في بطني. لم يقاوم المحكوم عليه. كل من رأيتهم من قبله، كانوا يتلوون، ويترنحون على نهاية حبالهم طاوين ركابهم، أما هذا المشنوق فكان ساكنا.
لم يمت في الحال. كنا نسمعه يحاول التنفس ... ولكنه لم يتحرك. لم يكن يتحرك بتاتا. الجلاد ومدير السجن وأنا كنا نتبادل النظرات، وجباهنا قد تجعدت. استمر ذلك بضع دقائق، ثم أطلق المشنوق فجأة، صيحة طويلة بدت لي مثل ضحكة هائلة لامرئ مجنون. قال الجلاد بأنها النهاية.
ارتعش المشنوق، وبدا جسمه قد تمدد قليلاً، ثم لا شيء بعد ذلك.
أما أنا، فقد كنت متأكداً من أنه ضحك.
كنت وحيداً مع المشنوق الذي ضحك. لم أتمالك نفسي عن النظر إليه. لقد بدا لي أنه زاد تمددا. وهذا القناع الذي طالما كرهته! القناع الذي يخفي كل شيء وفي نفس الوقت يدعك تخمن كل شيء. وجوه المشنوقين لا أراها أبداً، ولكنني أتكهنها، وهذا باعتقادي أكثر إثارة للرعب.
أطفأت المصابيح كافة، وأشعلت النواصة الصغيرة فوق الباب.
كم كان الظلام دامساً، وكم كنت أخاف هذا المشنوق!
قرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، غفوت غصباً عني، أيقظني، لا أعرف في أية ساعة بالضبط، صوت خفيف أشبه بتنفس طويل وكأنه تنهيدة. أهو أنا من تنهد هكذا؟ لا بد أنه أنا، إذ ليس من أحد سواي هنا! ربما تنهدت أثناء نومي فأيقظني تنهدي.
نظرت غريزياً، إلى المشنوق. لقد تحرك! لقد دار ربع دورة على نفسه، فصار الآن يواجهني. ليست هذه أول مرة يحصل فيها ذلك، لابد أن الحبل هو السبب، كنت أعرف ذلك جيداً، ولكنني على الرغم من هذا ارتعشت خوفا. وهذا التنهد! التنهد الذي لم أكن متأكداً من أنه صدر عني!
استغبيت نفسي تماماً، ونهضت لأخطو بضع خطوات. وما أن أدرت ظهري للمشنوق حتى سمعت التنهد من جديد. تأكدت من أنني لست أنا من تنهد هذه المرة. لم أتجرأ على الالتفات.
أحسست بساقي تضعفان، ثم جف حلقي. سمعت ثانية التنهد مرتين وثلاث مرات، سرعان ما تحول إلى تنفس غير منتظم أولاً، ثم إلى تنفس أكثر تواصلا. أيقنت يقيناً مطلقاً أن المشنوق كان يتنفس، فخارت قواي.
التفت أخيراً مرتعد الفرائص. كان الميت يتحرك. كان يهتز على طرف حبله، اهتزازاً بطيئاً لا يكاد يلحظ، وكان يتنفس أقوى فأقوى. ابتعدت عنه أكثر ما يمكن. والتجأت إلى إحدى زوايا القاعة الكبيرة.
لن أنسى أبداً المشهد المرعب الذي تلا ذلك. كان المشنوق يتنفس منذ خمس دقائق تقريباً، قبل أن يشرع في الضحك. توقف فجأة عن التنفس القوي وراح يضحك ضحكاً هادئا. لم يكن ذلك ضحكاً شيطانياً، ولا حتى ضحكاً صفيقاً، إنما كان ببساطة ضحك من يتسلى بجنون. وبسرعة شديدة، بلغ ضحكه مداه، إذ سرعان ما قهقه المشنوق لاوياً خاصرتيه. كان تأرجحه يزداد شيئاً فشيئاً .... وهو يضحك ... ويضحك....
كنت جالساً على الأرض، ملصقاً ذراعي ببطني، وكنت أبكي .
تأرجح الميت تأرجحاً قوياً، حتى كادت قدماه، في لحظة من اللحظات، أن تلمسا السقف. استمر ذلك دقائق عديدة. دقائق ذعر حقيقي بالنسبة إلي. فجأة، انقطع الحبل، فأطلقتُ صرخة مدوية. سقط المشنوق على الأرض سقوطاً قاسيا. انفصل رأسه وجاء يتدحرج عند قدمي. نهضت ووثبت إلى الباب.
عندما عدنا إلى القاعة، الحارس ومدير السجن وأنا، كان الجسد لا يزال هناك ممدداً في إحدى الزوايا، غير أننا لم نعثر على رأس الميت. لم نعثر عليه أبدا.


ــــــــــ
*
ترجمها عن الفرنسية : د/ محمد عبدو النجاري

  اضافة رد مع اقتباس
قديم 16-05-2007, 23:03   #3
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مـخـتـارات قصصـية (بصوتٍ عالٍ).!



.

كيف يسمح بوجود الجرائد في بيت ينمو فيه أطفال ؟!
ـ عزيز نيسين ـ

ابني الكبير في الصف الثاني, البنت في الصف الأول, والصغير مازال في البيت. في يوم الأحد كانت الأسرة كلها مجتمعة. وفي أيام الآحاد. كنا نستلم خمسة صحف أما في أيام الأسبوع العادية فثلاث.
ـ جدتي, ماذا تعني كلمة ستربتيز (striptease) ؟ سأل الولد. كانت الجدة تكوي البياضات في الغرفة نفسها.
ـ اخرس. من أين تعلمت هذه الكلمة! يجب وضع الفلفل في فمك على هذه الكلمة! يأتي بكل سخافة انهالت أمي على الولد.
ـ أنا لم آت بشيء, هكذا يكتبون في الجريدة... نجمة الستربتيز... أجاب الولد.
ـ اخرس, قلت لك!.. صاحت والدتي وسحبت الجريدة منه.
ـ ليس هكذا, قلت لوالدتي سيزداد فضول الولد بهذا الشكل أكثر. لابد من الجواب على السؤال..
ـ هذا ما كان ينقصني ! قالت والدتي... امرأة في مثل سني تشرح لولد ما تعنيه كلمة ستربتيز. عندها توجه إلي الولد بالسؤال:
ـ بابا, ماذا تعني ستربتيز؟
ـ هات الجريدة لأرى
جلب الجريدة.. صورة معبرة. عندما بدأت اشرح المشهد عما تعنيه الكلمة اقترب الصغيران الآخران.
ـ هل ترون هذه الصورة... إذا قامت المرأة هكذا بخلع أرديتها رداء وراء الآخر يسمى هذا (ستربتيزاً). المرأة في الصورة تخلع أرديتها تريد الذهاب إلى النوم.
ـ والأولاد ألا يعملوا ستربتيز؟ سألت ابنتي.
ـ لا.. الفتيات فقط
ـ لماذا؟
ماذا أجيب؟
ـ الشباب لا يخلعون أرديتهم هكذا.. البنات فقط.
ـ هل سأعمل أنا ستربتيزاً؟
ـ اه يا ربى.. صاحت الجدة
ـ أنت لن تعملي يا بنيتي... قلت لها.
ـ لماذا؟ ألست فتاة؟
ـ يا مجنونة مازلت صغيرة.. تكبرين وتعملين... قال لها ابني بلغة العارف ببواطن الأمور.
ـ جدتي هل كنت تعملين ستربتيزاً؟ سألت البنت جدتها فجأة.
ـ علمهم... علمهم قالت لي أمي بحنق وخرجت من الغرفة إلى المطبخ هازة رأسها.
مساء وعلى العشاء, كان مفترضا أن يأتينا ضيوف ثلاثة من أصحابي مع زوجاتهم مخرج, مهندس ومدير عام. منذ زمن بعيد وأن أميل للسينما لذا فقد كوّنا مجموعة سينمائية, والاجتماع من اجل بحث أمور العمل. كان علي أن اكتب السيناريو, المدير العام والمهندس وعدا بتمويل المشروع, زوجة المهندس تلعب الدور الرئيسي في الفيلم, والمخرج لإخراج الفيلم. متعاونين بهذا الشكل كنا نرغب بإنتاج فيلمنا الأول بأقل التكاليف. ألتم الضيوف. كنا لا نزال جالسين إلى الطاولة والبحث يجري. كان الأطفال في الغرفة أيضا. فجأة اسمع ابني الأكبر يسأل زوجة المخرج, وهي راقصة سابقة:
ــ خالتي.. هل تستطيعين أن تعملي ستربتيزاً؟
ستظن حتما بأن نحن الذين علمنا الولد... اسكت.. اصمت. أشرت إليه مضطربا
ــ لقد قرأ اليوم في الصحيفة هذا قلت لهم مكشراً.
ــ ولكن بابا لماذا يخلعون الملابس بهذه الطريقة.
أسرعت زوجتي بإخراج الطفل من الغرفة. وأخذنا بالتحدث حول الفيلم. فجأة برز ابني في غرفة الضيوف والجريدة في يده متوجهاً فوراً إلى زوجة المخرج:
ـ خاله, ماذا تعني كلمة (بيت عمومي)؟ توجد هنا صورة... انظري...
ـ تعال إلى هنا ـ قلت له فورا تعال ـ لأشرح لك أنا... (البيت العمومي). ومن اجل إنقاذ الموقف قلت موجهاً الحديث للضيوف.
ــ طفل... اولاد فضوليون.. يقرؤون كل ما يرونه في الصحيفة ويستفهمون عن كل شيء.
ــ هيا بابا... بسرعة.
ــ البيت العمومي هو بيت عادي ولكنه عمومي..
ـ وهل بيتنا عمومي!
ابتسم الضيوف
ـ لا أجبته بيتنا خصوصي...
ـ لم افهم شيئاً, ولكن ماذا تعني (بيت عمومي)؟
ـ سأقول لك غدا... اذهب ألان إلى أخيك وأختك...
في هذه المرة دخلت الصغيرة والملحق بيدها وقالت لنجمة السينما:
ــ خالتي. اقرأي ماذا تقول هذه الخالة...
ــ اية خالة؟
قرأت في الصحيفة اسم نجمة سينما شهيرة تقول: (الطريق إلى المجد يمر عبر سرير المخرج).
ــ عبث جرائد سخيفة قالت زوجة المخرج.
ــ بابا ولكن لماذا يمر الطريق عبر السرير؟
ــ يا ابنتي إلا تنامين أحيانا مع ماما في السرير؟
ـ ولكن إلا يوجد لنجمة السينما سرير خاص؟
ـ يوجد, يوجد... يوجد ولكن أحيانا مثلا تتأخر على الباص أو تمرض...
هبت زوجة المهندس واقفة.
ـ نحن نستأذن.
ـ مازال الوقت باكرا جدا؟ إلى أين؟ والعشاء؟
أنا مستاءة قالت زوجة المخرج.
ـ عدم المؤاخذة... مستاؤون مني؟ من ولد غير واع
يسأل عن معنى البيت العمومي؟
تغيرت القسمات على وجوه الجميع فجأة.
نهضت أيضا زوجة المدير العام.
ـ نحن أيضا... آن أوان الذهاب.
ـ ياسادة أرجوكم... أرجو عدم المؤاخذة... إذا كان أطفالنا...
قام الضيوف وخرجوا بهدوء. حسن إن الأمر انتهى عند انهيار مشروع الفيلم. استاء أصدقائي الثلاثة مع زوجاتهم ومنا ومن بعضهم. أما زوجتي فقد رتبت علقة جيدة للأولاد, وبالكاد استطعنا تخليصهم من بين يديها
ـ هذا ليس تربوياً...
منذ ذلك اليوم وأنا لا اسمح للصحف دخول بيتي أقوم بقراءة الجرائد أثناء العمل واجلبها إلى البيت سرا لتقرأها زوجتي ليلا على السرير.
لن تستطيع الجرائد التسلل إلى بيتنا... لن تستطيع...

.

فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 21-05-2007, 01:07   #4
نورهـ السبيعي
علبة ألوان
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ نورهـ السبيعي
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!

الفكرة جدا ً رائعة وممتعة .. أعجبتني القصص وخاصة الثانية
كيف يسمح بوجود الجرائد في بيت ينمو فيه أطفال ؟!

_________________________________

قصة قصيرة قرأتها في أحد المواقع قبل فترة قصيرة :

أحقا مات؟
قصة قصيرة للأديب الإيطالي:Lugi Pirandello
لويجي بيرنديللو *
نشرت في المجلة العربية عدد محرم 1428هـ
ترجمها عن الإنجليزية: خلف سرحان القرشي

أضطر الركاب المغادرون روما، في القطار الليلي السريع، للتوقف حتى يبزغ الفجر، في محطة صغيرة في (فابريا نو)، ليواصلوا رحلتهم في قطار محلي صغير، ذي طراز قديم ليقلهم إلى (سيلومونا).
بحلول الفجر، في واحدة من عربات الدرجة الثانية، هواءها فاسد، تعج بالدخان، كان خمسة أشخاص قد أمضوا ليلتهم هناك. انضمت إليهم امرأة ضخمة، مستغرقة في حزن عميق، بدت وكأنها كتلة بلا ملامح ، ومن ورائها زوجها يلهث ويئن، رجل ضئيل الجسم، ذو وجه نحيف، له عينان صغيرتان ومشعتان، بدا خجولا ومضطربا.
ما إن أخذ مقعده، وشكر بلطف الراكب الذي ساعد زوجته، وأفسح لها مكانا، التفت إلى زوجته محاولا إصلاح وضع شالها، وبأدب جم سألها:
- هل أنت على ما يرام عزيزتي؟
لم تجبه، سحبت شالها ثانية نحو عينيها وكأنها تريد إخفاء وجهها.
تمتم الرجل بابتسامة حزينة: - تعب كلها الحياة.
شعر بأهمية توضيح الأمر لبقية المسافرين، فزوجته تستحق الشفقة لأن الحرب أخذت منها ولدها الوحيد. شاب يافع في العشرين من عمره، كرسا له حياتهما تماما، حتى أنهما غادرا منزلهما في (سيلومونا) ليلحقا به في روما إبان دراسته هناك. بعد ذلك سمحا له بالتطوع للحرب، بعد أن أكد لهما بأنه لن يرسل للجبهة على الأقل في الأشهر الستة الأولى من انضمامه، لكنهما وعلى غير توقع، تسلما منه برقية، مفادها أنه يتوجب عليه الذهاب إلى الجبهة في غضون ثلاثة أيام، ويطلب منهما أن يأتيا لوداعه.
كانت المرأة تتململ تحت شالها الكبير، وأحيانا تدمدم مثل حيوان بري، واثقة من شعورها بأن إيضاحات زوجها تلك لن تحظى بأي تعاطف، من قبل هؤلاء الأشخاص الذين هم في الأغلب في نفس محنتها.
قال أحدهم بعد أن استمع لزوجها باهتمام شديد :
- عليك أن تشكر الله، لأن ابنك لن يذهب للجبهة إلا الآن، سيدي. إن ابني قد ذهب إلى هناك منذ أول يوم اندلعت فيه الحرب، عاد إلينا مرتين جريحا، وعاد أدراجه ثانية إلى الجبهة!!!
أضاف أخر:
- وماذا بوسعي أن أقول، لي ولدان في الجبهة الآن ولأخي ثلاثة.
تجرأ الزوج، وقال:
- قد تكون على حق. بالنسبة لنا الوضع مختلف، إنه ابننا الوحيد.
- وما الفرق؟ قد تفسد ابنك الوحيد بالاهتمام المفرط به، لكن يستحيل أن تحبه أكثر لو كان لديك غيره. الحب الأبوي ليس خبزا يمكن تقسيمه إلى قطع توزع بالتساوي بين الأبناء. إن الأب يعطي لكل واحد من أبنائه كل حبه، من غير تفضيل، بغض النظر عما إذا كانوا واحدا أو عشرة. إنني عندما أعاني من أجل أبنائي الاثنين، فأنا لا أعاني نصف المعاناة لكل منهما،بل أعاني الضعف....
تنهد الزوج المحرج وقال:
- حقا، لكن لنفرض – ونتمنى أن لا يحدث هذا لك – أن أبا له ولدان في الجبهة وفقد أحدهما، سيبقى له ولد آخر يعينه ويواسيه، لكن من ليس له إلا ولد وحيد فـــ ..........
- نعم، يتبقى لديه أخر ليعينه ويواسيه،.... لكن ذلك الذي يبقى، يتوجب على والده أن يعاني من أجله أيضا أما في حالة الأب ذي الولد الواحد، فلو مات ذلك الولد، فبوسع الأب أن يموت أيضا، ويضع نهاية لمحنته. فيا ترى أي الحالتين أسوأ ؟ ألا تتفق معي أن حالتي أسوء من حالتك؟
قاطعهما مسافر ثالث، رجل بدين ذو وجه مشوب بحمرة، وعينين محمرتين، كان يلهث ويكاد يتفجر من عينيه المتورمتين' عنف داخلي، لا يستطع جسده الواهن احتواءه، قائلا:
- هراء.
كرر الكلمة، محاولا تغطية فمه بيده، كما لو كان يريد إخفاء موضع سنيه الأماميتين المفقودتين، وأردف: -
- هل ننجب أبناءنا من أجل مصلحتنا؟
حملق فيه بقية المسافرين بضجر، وأجابه ذلك المسافر - الذي لديه ابن في الجبهة منذ أول يوم نشبت فيه الحرب- قائلا:
- أنت على حق، أطفالنا ليسوا لنا، إنهم للوطن.
وهنا ردٌ عليه الرجل البدين بقوة:
- هراء، وهل نفكر في الوطن عندما ننجبهم، أبناؤنا ولدوا لأنهم ..... حسنا .... لأنهم لا بد وأن يولدوا، وعندما يأتون إلى الحياة، فإنهم يأخذون حياتنا معهم... تلك هي الحقيقة. نحن لهم، لكنهم ليسوا لنا، وعندما يبلغون العشرين، فإنهم يكونون تماما، ما كنا عليه في تلك السن، نحن أيضا كان لكل منا أب وأم، ولكن كانت هناك أشياء أخرى كثيرة: ألأصدقاء، السجائر، الأوهام، العلاقات الجديدة....والوطن. من يا ترى منا عندما كنا في العشرين، كان يسمع لأبيه وأمه عندما يقولان له (لا). الآن وفي سننا هذه، حب الوطن ما زال كبيرا، بالطبع، ولكن أكبر منه، حبنا لأطفالنا، هل يوجد منا من يمانع أن يكون مكان ابنه في الجبهة لو استطاع إلى ذلك سبيلا؟
ساد صمت مطبق، بيد أن كل شخص أومأ برأسه موافقا.
واستطرد الرجل البدين:
- لماذا إذن لا نأخذ بعين الاعتبار مشاعر أطفالنا، عندما يبلغون العشرين؟ أليس من الطبيعي في هذه السن أنهم يعدون حبهم للوطن أعظم من حبهم لنا؟ إنني أتحدث عن الأولاد الصالحين. أليس من الطبيعي أن تكون المسألة على النحو التالي: أبناؤنا ينظرون إلينا على أننا أولاد كبار لم يعد بوسعنا الحراك وعليه لا بد أن نبقى في منازلنا، فطالما أن الوطن حاجة فطرية، مثله مثل الخبز فيجب على كل منا أن يأكل منه كي لا يموت جوعا، فلا بد أن يكون هناك من يدافعون عنه. لقد هبٌ أبناؤنا لذلك عندما بلغوا العشرين، لذا فهم لا يريدون منا دموعا، وإذا ماتوا فسوف يموتون سعداء مبتهجين، إنني أتحدث عن الأولاد الصالحين، وماذا يمكننا أن نرجو أكثر من ذلك لشاب مات سعيدا من غير أن يطوله الجانب القبيح من الحياة،السأم، التفاهة، خيبات الأمل. نعم ما الذي نرجوه له أكثر من ذلك؟ يجب أن يكف كل شخص عن البكاء، ويضحك بملء فيه، كما أفعل أنا، أو على الأقل يشكر الله كما أفعل أنا أيضا لأن ابني قبل أن يموت بعث إلي رسالة يقول فيها بأنه سيموت راضيا لأنه أنهى حياته بأفضل طريقة كان يرغبها، ولهذا السبب، وكما ترون فأنا لم أرتد أي لباس حداد من أجله.
أزاح معطفه الخفيف ليريهم أنه لا يرتدي تحته سترة حداد، كانت شفته المز رقة ترتجف فوق موضع سنيه المفقودتين. عيناه الشاخصتان مغرورقتان، أنهى حديثه بإطلاق ضحكة مدوية بدت كأنها تنهيدة.
ووافقه الآخرون بقولهم :
- حقا..، حقا.
جلست المرأة العجوز تستمع وهي متكومة في زاوية تحت شالها، تستمع، إنها منذ ثلاثة أشهر تحاول أن تجد في كلمات زوجها وأصدقائها شيئا ما فيه مواساة وعزاء عن حزنها العميق، شيئا ما يريها كيف يكون بوسع امرأة أن تذعن لفكرة إرسال ولدها ليس حتى إلى الموت ولكن إلى أي مكان فيه خطر محتمل على حياته. ومع ذلك لم تجد ولو كلمة واحدة من بين كل ما قيل تشفي علتها. وتعاظم حزنها لعدم رؤيتها أحدا كما ظنت يشاركها مشاعرها.
غير أن الوضع تغير الآن، فكلمات هذا الراكب، حيرتها وصدمتها، جعلتها تكتشف فجأة بأن الآخرين ليسوا هم الذين على خطأ، ولم يفهموها، بل هي نفسها التي لم تستطع أن ترقى بنفسها إلى مستوى هؤلاء الآباء والأمهات، الذين لديهم الرغبة ليكيفوا أنفسهم، من غير بكاء، ليس فقط على مغادرة أبنائهم بل حتى على موتهم.
أطلت برأسها، وسحبت نفسها، تحاول الاستماع باهتمام شديد إلى كل التفاصيل التي سيسردها الرجل البدين لمرافقيه عن الطريقة التي سقط بها ابنه بطلا من أجل مليكه ووطنه، سعيدا من غير ندم، بدا لها لحظتها وكأن قدمها زلت بها في عالم لم تحلم به قط، كانت مسرورة جدا لسماعها بقية الركاب، يهنئون ذلك الأب الشجاع الذي استطاع برباطة جأش الحديث عن سقوط ابنه ميتا في سبيل الوطن.
فجأة، كأنها لم تسمع شيئا من كل ما قيل، وكأنما أوقظت من منام، التفتت نحو الرجل البدين سائلة إياه:
- هل حقا مات ابنك؟
حملق فيها الجميع،التفت إليها الرجل العجوز بدوره مثبتا على وجهها نظرة عينيه الكبيرتين المتورمتين الشاخصتين، لوهلة حاول أن يجيبها، لكن الكلمات خذلته، نظر إليها محدقا، وكأنه فقط عند ذلك السؤال الغبي، اكتشف فجأة أن ابنه قد مات فعلا، وذهب إلى الأبد، نعم إلى الأبد، انكمش وجهه، وصار مشوها بشكل مفزع، في عجلة خطف منديلا من جيبه ووسط حيرة الجميع، انخرط في بكاء مرير.

التوقيع:
نورهـ السبيعي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 08-09-2007, 05:39   #5
سراب السعودية1
عضو شعبيات
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ سراب السعودية1
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!

سلمتم قصص روعة والله

سراب السعودية1 غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 08-09-2007, 21:50   #6
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!



.


إنه هناك.. فوق.
عواض العصيمي*


التفت في منتصف كلامه إلى الخلف، ثم نظر إلى أعلى، جهة السماء.
كان يتحدث عن أصوات الحمام التي تنتقل معه إلى سكنه. بلع ريقه، واشتكى مجدداً من امتناع النوم إلى أصدقائه الجالسين على الأرض بين كراسٍ خشبية محطمة. قال إن ما يسمعه من الحمام في النهار، يهبط عليه في الليل مثل رش الماء، بل يعيد نفسه مرات ومرات، إلى أن ينقضي الليل دون أن ينام. ليس توهماً، قال، بل أصواتها التي تسمعنا إياها وهي واقفة على قوائمها في الأقفاص، كما تفعل الآن. ثم سأل، بعد أن عاد من عند زبون أراد زوجاً منها: هل تسمعونها الآن؟ ردوا بالإيجاب. كانت أصوات الحمام لحظتها تتردد داخل أقفاصها البلاستيكية البيضاء التي بدت أكثر اتساخاً في الظل. قالوا إنها تصل إليهم في هذه اللحظة، بالمقدار نفسه في سائر اللحظات. طوال الوقت، يهدل الحمام بالطريقة نفسها، كذلك الببغاوات تصوت في أقفاصها على طريقتها، وأيضاً تغرد العنادل، وعصافير الكناريا، والدوري، وبقية الطيور في السوق. شرحوا له ذلك مراراً، وفي كل مرة كان يهز رأسه موافقاً على كلامهم، غير أنه بعد وقت قصير يجدد الشكوى، ويقول أنه يسمع أنيناً نافذاً كالطعنة، وليس هديلاً كما يصفونه. بعد جدلٍ، فهموا أنه والحمام يستحيل أن يعيشا في مكان واحد، إلا إذا تخلى الحمام عن هديله، أو وجد هو علاجاً لمشكلته الغريبة. أخذوه إلى شيخ دلالي الطيور، فعرض عليه أن يكلم له بائع طيور البلابل عله يوافق على استخدامه مؤقتاً ريثما تخف الحالة. علل اقتراحه قائلاً أن أغاريد البلابل جميلة وباعثة على الشعور بالارتياح النفسي والمزاج الرائق. لكنه حضر في صباح اليوم التالي مبكراً على غير عادته. قال إنه تلقى، في إغفاءةٍ قصيرة ظفر بها آخر الليل، أفظع حلم في حياته. فرح أصدقاؤه بخبر نومه أخيراً. هنئوه، ارتجلوا له من الكراسي المحطمة كرسياً شبه متماسك الأعضاء، ثبتوا الكرسي على مسافة أمتار من واجهة محل بيع البلابل، ثم قدموا له كوب شاي احتفالاً بانتهاء محنته. لكنه جاشت عيناه فجأة، ولما لم يقوِ على التماسك واقفاً، ترك قامته تنهار إلى الأرض. قعد إلى جوار الكرسي، وهو ينقل بصره بين الحمام والعنادل وبقية الطيور. إنه الأنين نفسه الذي سمعته من قبل، قال، أتسمعونه مثلي؟ فاجأتهم حدة انفعاله، ما حدا بأكثرهم تعاطفاً معه إلى أن يضغط بأسنانه على شيءٍ دبقٍ وجده في فمه من دون أن تكون لديه أدنى فكرة عنه. أما هو فصعد بصره إلى السماء المقشرة في نظره من أية مسافة تطير فيها هذه الطيور وتعود حية. فقد بدت رغم اتساعها وعلوها الهائل مكمناً قريباً جداً لشيءٍ خطرٍ يوشك أن ينقض على المكان. شيءٌ في غاية التوفز، ولديه من قوة الفتك ما لا يمكن تقديرها. وهو هناك منذ اتسع المكان فصار سوقاً واعداً للطيور من كل الأصناف والأحجام. أول ما أحس بوجوده الخفي، لاحظ في عيون الحمام وَجَلَ الطرائد، ورآها تضطرب حياتُها في الأقفاص، وتنظر إلى أعلى بالتناوب، كما لو أنها تترقب انهياراً وشيكاً لسقف المحل. بعد مرور وقت لا يعتبر قصيراً في حياة الطيور الخائفة، سمع منها الأنينَ يزدادُ صوتُه، ويعلو في الأقفاص ضجيجُهُ، إلى أن استقر في روعه أنها يعذبها سماعُ أنينها، كما يعذبه سماعُه في الليل، إنها مثله، قد تغفو، لكن أنينها لا ينام.


ـــــــ

قاصّ وروائي سعودي.
.

فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 09-09-2007, 22:55   #7
يزيد بن غشيّان
شـاعر
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ يزيد بن غشيّان
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!

وجدت هنا ملاذا حقيقيا

هي قصص للمساء و اكواب الشاي

*

كيف لا أعود ؟!

التوقيع:
يزيد بن غشيّان غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 10-09-2007, 15:34   #8
يزيد بن غشيّان
شـاعر
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ يزيد بن غشيّان
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!

"حكاية حب " *



ــ يا رجــل ! تصور هذا الشاطيء مليئاً بالسابحات العاريات هل تتسع " دار السرور " لهـن جميعاً ؟

ــ لن اجيب على هذا السؤال .. لماذا تسمينني دائماً , " يارجـل " ؟

ــ لأنك رجــلي

ــ ولماذا لا تقولين حبيبي كما تفعل كل النساء ؟

ــ كما تفعل نساء " دار السرور " ؟


ــ روضــه ! اقســم بالله اذا عدتِ إلى .....


تضحك . وتقترب اكثر . وتمسك بيده , وتهمس :
ــ يارجــل ! يا رجــل ! أنا اسرق هذه اللحظات من الزمن ... أغافل القدر ., أخادعه ..,
أتظاهر انني في حالة عادية من الحالات البشرية . في حالة أكل او نوم أو عمل أو كتابة أو قراءة ..
في اللحظة التي يكتشف القدر فيها أني في حالة سعادة , في حالة حب, في اللحظة ذاتها , سوف يسرقك القدر مني
أو يسرقني منك ..., في اللحظة التي أقول لك فيها " حبيبـــي" سوف ينتهي كل شيء ... في الثانية التي اقولك لك فيها " أحبــك" سوف يزول ...!!




* د.غازي القصيبي الاديب وليس الوزير

التوقيع:
يزيد بن غشيّان غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 23-09-2007, 22:09   #9
سرد الرواة
Guest
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!



- ....
- طفلتي ؟
- أشعر أنّي كنتُ ميتة من قبل .
كانت تقف أمامي بارهاق وتعبث بحمّالة الفستان الأحمر, بوجه داكن أو جبين مقطب أو جسد منسكب ,دققتُ النظر بانزعاج وحاولتُ إعادة الوردة التي قطفتها إلى مكانها مُجدداً, والآن ,خلاف البارحة أو لنقل أسابيع مضتْ , لم تعد الورود تلتحم بالعنق بعد قطفها.
- تسمعني ؟؟!!
سقطتْ الوردة على الأرض فـ امتدتْ يدّي لتلامس خدّها برفق.
- أحسُ أنّي كنتُ ميّتة من قبل .
اليوم كان يجب أن أمضي بها إلى غرفتها ,كان هذا يحدث حتماً من حين لآخر, (بياترس) تموت لنجتمع جميعاً ونحييها مُجدداً, مرة فـ مرة , نبذل مجهوداً أكبر في ذلك, وكانت تستيقظ أشدّ شراسة وقوّة لكن بعمر أقصر كثيراً, وبحساسية أكبر , بحيث تُميتها أقل فكرة تخطر لنا.
لوّحتْ لي مبتسمة وأغلقتْ الباب, كنّا –جميعاً- موتي , وكانت (بياترس) ميتة كذلك, وكيلا نظل أشباح البيت, اخترنا أحدنا لـ يعود إلى الحياة, (بياترس), لأنها سمراء ونحيلة, وشعرها أسود وطويل ,وعنقها كذلك. ولأنّ من يراها سيرغب في محادثتها.
كان يجب أن تحيى (بياترس) , تنزل إلى الشارع وتذهب إلى السوق وتضحك مع الجيران , وتعود آخر النهار إلى البيت لتملأه برائحة السماء والأرض وما بينهما .
حين تبتسم (بياترس) لطفل كانت ألعابه الملوّنة اللامعة تملأ حجراتنا , حين تتكلّم مع صديقاتها كنّا نركض معاً , وحين تركض كنّا نطير . (بياترس) تسافر حوْل العالم كي تحوّل أيادينا ما تلمسه إلى بلدان .
حين جلسنا جميعاً, أمضينا ليلة كاملة في تكوينها , كنّا بحاجة لأفكار كل واحد منّا كي تخرج كأبهى ما يكون.
في هذه المرّة , كانت تقف عند ركن الغرفة وتنظر لنا.
(بياترس) هي طفلتي ,شعرنا جميعاً بضرورة هذا, حين ولدتْ (بياترس) كنتُ أنا الذي عاد شاباً .
في الواقع, لم تكن تنظر لنا , كانت تنظر لي تحديداً , وتتقدم ناحيتي وتضحك لاهثة.
لم نعد موتى , ولم نعد أشباح المنزل, نزولها إلى الشارع وذهابها للأماكن كان يكفي كي نتنقّلُ جميعاً كيفما نشاء .منزلنا يمتلئ بالصديقات والأصدقاء , بحيث لم يعد مخيفاً أو مهجوراً طالما أن (بياترس) موجودة.
في الحديقة قطفتُ الورود ورصصتها في آنية, كنتُ أستمع لضحكاتها بينما تكلّمها جارتنا.
- إنّه يعقوب .
مددتُ ذراعي للمصافحة.
- أشعر أنّي كنتُ ميتة من قبل.
كانت تعبث بحمّالة الفستان الأحمر , أقطب جبيني وأحاول إرجاع بقية الورود إلى أعناقها, آخر النهار. كفّت الورود عن الالتحام ما أن أتت (بياترس).
ضممتها إلى صدري . لـ تنهنه بألم .
جلدي يتجعّد وعنقي يترهّل وظهري ينحني , كأنني أتلاشى من الكبر ,بصعوبة اصطحبتها إلى غرفتها .
وحين نظرتُ ورائي , كانت الورود كلّها قد عادت إلى أفرعها.
(بياترس) كانت تموت من حين لآخر .
كنتُ جالساً حين دخل فجأة وقال : الباب كان موصداً طيلة اليوم ,لم يدخل أو يخرج أحد يا يعقوب , المنطقة نائية ولا جيران على بعد أميال .
تعرف أن(بياترس) ليسـ...
- اخرس !
ماتت مباشرة , في البداية سقطت على الأرض ثم تحلّلتْ بينما نركض إليها.
تبادلنا النظرات , كدت أجن لكنّه هرع لجلب الجميع.
جلسنا وبدأنا نفكّر فيها بعمق ونتذكّرها كاملة. كنا نمضي وقتاً أطول ونتخيّل أكثر كي تستيقظ .في لحظة تصل تخيّلاتنا إلى ذروتها لتظهر (بياترس) .
مؤخراً كانت تأتي من الموت مُتكوّمة على الأرض, أو مرتجفة , هذه المرّة , كانت ممددة والكدمات على ذراعيها ووجهها .
أتأمّلها بقلق بينما تجلس على السرير .
- لماذا أرتدي قميصك؟
قالت بمرح .
ثم ماتت , كان ذلك حين دخل أحد الملاعين وقال: لماذا تجلس وحيداً يا يعقوب ؟ تكلّم نفسك ؟
وما أن قالها حتّى ماتت (بياترس) في فراشها ثم تحللت.
في مرّة قتلتُها بالخطأ , حين فكّرتُ لثوانٍ أن الورود لا يمكن أن تعود إلى أعناقها . ماتت في الحديقة .
البارحة , نجحنا منهكين في إعادتها إلى الحياة , لكنّ الحياة لم تعد , بدأت حركاتنا تعود بطيئة , كأننا نرجع كما كنّا قبل (بياترس) , تفقد الفاكهة طعمها تدريجياً, مرّة أخرى , نعود مكبّلين وغير واضحين, وغير قادرين على الذهاب إلى الأماكن. ونشعر بقوّة مواتنا .
كانت تمضي وقتاً أطول في غرفتها , باكية , أو متشنجة في الركن .
- نحن أموات وأشباحنا تسكن هذا المنزل .
يمطّوا جميعاً شفاههم , كأنّما هذه الفكرة ماتت أيضاً .
كانت في الممر , تحت الإضاءة الصفراء القميئة , يمكنني أن أرى هيئتها المرتجفة .
- لقد كنتُ ميّتة من قبل !
تصرخ باكية, حاولتُ أن أقطع الممر ركضاً لكنّه استطال تحت قدميّ , كالأبد.
- لقد كنتُ ميّتة من قبل , لقد كنتُ ميّتة من قبل! لقد كنتُ ميّتة من قبل , ! لقد كنتُ ..
بدأت تنشج بجنون , ثم أخرجتْ مسدساً وألصقته بصدغها.
في البداية حلّ ظلام مفاجيء, بدا كانقطاع التيار عن المصباح فوق رأسي , لكنّي اكتشفتُ أنّ الظلام ينزف من رأس (بياترس), بغزارة بحيث يفيض ويغرقني , الظلام يغمر الممر كلّه عدا طرفه الأخير المُضاء بشيء أصفر كـ عفن .
بدأتُ ألهث بهلع , (بياترس) تموت هذه المرّة .
- ما بك يا يعقوب ؟ ناولني هذه المنشفة ,ماذا تريد أن تجفف؟هل نسيت تناول علاجك ؟
أدخَلَنِي إلى غرفةٍ بجدران بيضاء , مهزوماً .
كان موْت (بياترس) مؤلماً لي تماماً. ويعني أسوأ شيء , كـ عودتي إلى الحياة.


إنليل

  اضافة رد مع اقتباس
قديم 08-12-2007, 01:07   #10
ريما العلي
اِمْرَأةٌ لا يُكَرِّرُهَا القَدَرْ !
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ ريما العلي
 

هاربة من منبع الشمس !



مازلت في أعماقي..
تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
مازلت في أعماقي...
النجوم تفور من منابت شعرك فوق الجبين الأسمر وتنهمر فوق صدرك وهديرها أبداً يناديني .. يهتف باسمي ذائباً ملهوف ..
وأسرع في مشيتي، أشد كتبي إلى معطفي، وتظل أنت تتمطى في أعماقي، والشتاء يتأوه في قطرات المطر التي تلعق وجهي .. وتظل أنت تهتف باسمي، والريح تعول وتدور حول الأذرع الرمادية لأشجار متعبة تسندها ظلالها إلى جانبي الطريق .. والرعد يتدفق في أذني كصرخات دامية التمزق لامرأة ضائعة في صحاري شاسعة.
مازلت في أعماقي تتمطى!
وأنا أنزلق فوق ظلمة الشارع، ويخيل إليّ أن برك الماء المتجمدة قد ابتلعت أنوار الجامعة التي خرجت منها قبل قليل ..
وألتفت ورائي وكأنني أريد أن أتحقق من أنها فعلا هناك .. المكتبة، والمقاعد الخشبية في الحديقة، والنادي المزدحم حيث التقيت زرقة عينيك الضالتين أول مرة، يوم جئت تبحث عن أختك، زميلتي في الصف، وتطوعت أنا لأشاركك التفتيش عنها .. وأحسسنا بسعادة مبهمة ونحن ندور معاً من مدرج إلى مدرج ومن باحة على باحة فلا نجدها .. ونتبادل الحديث بعفوية لذيذة كأي صديقين قديمين ..
كم كانت أختك رائعة وكريمة ذلك اليوم! .. لقد اختفت .. لم نجدها بالرغم من الساعة التي قضيناها منقّبين، والتي انتقل البحث في دقائقها الأخيرة من القاعات إلى وجهينا ..
وشدتني إلى عينيك كآبة حنون، مغرية الدفء كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج من وراء زجاج نافذة .. تنهدت بارتياح لما لم نجدها، وعرضت عليّ تناول كأس من الليمون في النادي ريثما نستريح ونعاود البحث من جديد .. وجلست أمامك .. أشرب من ملامح وجهك وأخزنها في أعماقي بحرص بينما أنت تحدثني ببساطة وانطلاق عن رتابة ساعاتك .. عن جلستك البلهاء كل أمسية وراء زجاج المقهى وتشابه أيامك .. كيف أن السبت يمكن أن يكون ثلاثاء أو أربعاء بالنسبة إليك .. الأشياء التي فقدت طعمها ولونها والأيام التي أضاعت مدلولها ..
وظللت أعب من كأسي وفرحة جديدة تعربد فوق المنضدة وتنثر شعرها إشعاعات سعادة في كل ما حولنا .. حتى في نظرات زملائي المرتابة التي بدأت تنتقل من وجهي إلى وجهك بحدة وفضول ..
قلت لك ضاحكة لأخفي بعض ارتباكي: " إنهم يحدقون إلينا وكأننا .. حبيبان!! " والتقت نظراتنا بصورة غير عادية لما نطقت بكلمتي الأخيرة "حبيبان" .. لا أدري لماذا ارتعش صوتي مع انتفاضة أهدابك، بينما رددّت أنت عبارتي شبه حالم وكأن حجب الغيب قد انتهكت أمام عينيك : " كأننا حبيبان " . !
وظللت أتأملك مفتونة نشوى، وكأنني اكتشفت في أعماق عينيك مغارة مسحورة ياقوتية الجدران، تومض كنوزها المكدسة قوس قزح وديع الهدوء، يترسب في حواسي، ويغمرها بخدر لذيذ .. لا يعكره سوى همسات الزملاء الذين ركزوا اهتمامهم على التيارات اللامرئية الهادرة بين مقلتي وشفتيك .. لذا لم أتردد في الخروج معك حينما اقترحت عليّ بصوت مبهم النبرات أن نستمر في " البحث عن أختك " خارج الجامعة !
وارتميت شبه حالمة في زرقة سيارتك لنضيع معا في شوارع المدينة التي لم تبد كئيبة كعادتها .. وأدركت أنك بدأت تتسلل إلى أعماقي ..
ولما جئت مساء اليوم التالي، عرفت أنك لم تأت باحثاً عن أختك .. وأسندت وحشتي إلى سأمك وانطلقنا بهما إلى الغوطة حيث وأدناهما قرب خيمة ناطور أغرتنا نيرانه بالاقتراب منه وإلقاء التحية عليه .. وجلست ترقب رقصة الوميض على جانب وجهي، بينما أنا أعبّ القهوة العربية، والقمر يستند على جانب الخيمة حينا، وتختطفه أرجوحة الرياح الغمامية حينا آخر ...
مازلت في أعماقي !! .. تضحك زرقة عينيك لكآبتي . المنحنى قد غيّب الجامعة عن أنظاري .. والوحشة ترتّل أنات الفراق في دربي .. وأنا أسير إلى غرفتي الباردة وأهذي ..
أمواج المساء لم تعد تنحسر عن ضياء عينيك.
بحاري الكئيبة لم تترقب رنين مرساتك الذهبية في أبعادها السحيقة .. أسير .. وأتعثر وحيدة كطفل جائع في معبد مهجور، مازالت رائحة دم حار تسيح من جدرانه المرعبة .. وأنت .. مازلت في أعماقي ! تمسح الطين عن جسدي بأهدابك .. وصوتك الذائب، صوتك الملون مازال يعربد في عروقي مبتلا بالمطر .. مطر دافئ كان يغسل نوافذ سيارتك " الهائمة في غوطة دمشق " وتتمسك قطراته بالزجاج، وتحدق بفضول على الداخل .. إلى حيث الدفء .. إلى حيث أنا وأنت ذرّتا رمل جمعتهما العاصفة في شاطئ صخري .. وتظل حبات المطر تنزلق ببطء منصتة لهمساتنا ..
- اقتربي مني يا رندة .. اسكبي الألوان في الأشياء التي أضحت باهتة كالأشباح .. أضرمي النيران في وحشتي ففي نفسي جوع إلى النور .. ضمّي وحدتك وتشردك إلى لهفتي وفراغي ..
وأقترب منك .. ألتصق بذراعك الأيمن وأرمي بأثقال رأسي إلى كتفك :
- مذ حضرت من بلدتي الصغيرة وانتسبت إلى الجامعة ومدينتكم وحش يخيفني ..
- ماذا يخيفك فيها يا حلوتي ؟
- لكل شيء طابع لا إنساني هنا .. أسمع ضجيجا وعويلاً لا أرى مصدره .. تنبع من الزوايا المظلمة صرخات بلا شفاه .. تتفجر من شقوق أحجار الشارع دماء بلا جراح .. الزيف يلون كل شيء بكآبة باهتة صفراء ..
وفجأة توقف سيارتك وتلتفت إليّ وكأنما روّعتك حرقتي وأثارت حنانك .. وتتجمع قطرات المطر بفضول حول النوافذ كلها وتظل تنصت بينما أنا أهذي شبه باكية :
- كنت أخرج من الجامعة مساء، أدور في الشوارع وأبحث عبثاً عن ظلي . واكتشفت أن كل شيء في مدينتكم مزيف، حتى النور الأبيض الفاجر محروم من الظلال التي تكسبه مسحة حزن إنساني مستكين ..
- يا غجريّتي الصغيرة الضائعة ..
- كنت أصرخ بوحشية كلما كفّنني صمت غرفتي لعلّي آنس بصدى .. ولكن الجدران بخيلة حتى بالصدى !! .. وأضربها بقبضتي .. أحاول أن أغرس أظافري في أحجارها الصلدة .. وأنشج .. وعبثاً أنتظر أي وتد حقيقي في عدمي المريع .. لا ظل .. لا صدى .. لا شيء .. لا شيء حتى وجدتك ..
وتزداد اقتراباً مني .. ويخيل إليّ أنك تريد أن تلتقط بشفتيك كلماتي المتعثرة فوق عنقي وذقني قبل أن تتناثر في فضاء السيارة الدافئ ..
- كنت أتشرد كل ليلة في دربي المقفر .. أحس بملايين الأيدي الخفية تضغط على عنقي .. تسمرني في الشوارع عارية تحت أسياخ المطر الباردة .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة .. وتظل تنقلني بين الآبار المتجمدة و أتخبط في الهواء، لا أقبض إلا على حزم الريح، لا أقبض على شيء !
لا شيء حتى وجدتك .. ولن أفقدك لأي سبب في العالم ..
وأشدد قبضتي على ذراعك بينما تتحسس يداك ظهري وتبعثان رعدة دافئة في جسدي المنهك .. وتهتف بي :
- أنت ترعبينني بهذه الأفكار ! ..
- بل إنها ترعبني أنا بالذات .. لم أجرؤ قط على الاعتراف بها لنفسي وأنا وحيدة .. أما الآن .. وأنا أمام صدرك ..
وقاطعتني هامسا بحرارة :
- بل أنت تغفين في صدري .. تتبعثرين في الدم الذي يتدفق في كل ذرة من كياني ..
ويسعدني دفء أهدابك التي تمسح الطين عن جسدي وأنا أهذي :
- كم تعثرت في برك الطين ولطختني الأوحال .. وأنا أحس أن قطرات المطر مدببة الجوانب وخّازة الحواف .. تنغرس في خدي بينما بردها الكاوي يلهب عذابي ..
- والآن يا رندة ؟ ..
- تبزغ شمس في كل قطرة مطر ..
وأشدك إلى صدري بكل قواي .. أفتّتك ذرّات، وأسحقك ذرّات، وتنسلّ كل ذرة من إحدى مسامي إلى أعماقي .. إلى حيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر من جديد .. وأحس أنك حي تعربد في الحنايا والضلوع .. وتهتف بنشوة :
- أيتها الغجرية الهاربة من منابع الشمس .. ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟؟ ..
وأحدق إلى الشعيرات البيض التي تسلّلت إلى شعرك، ويخيّل إليّ أن ثلجاً لئيماً يتمسك بها .. وأحاول إذابته بشفتي الملتهبتين وأنا ألثمها شعرة إثر شعرة ...
وتبعدني عنك ضاحكا، وتمسك بوجهي بكلتا يديك، فتتألق حلقة ذهبية في بنصر يدك اليسرى طالما رأيتها من قبل ..
وأسألك بكثير من اللامبالاة :
- منذ متى تزوجت ؟
- منذ سبع سنوات ..
ما يهمني سواء كنت متزوجا أم لا ؟ .. أنا وحيدة .. وحيدة .. يدي المتخبطة في فراغ الذعر لن تسأل اليد التي تعلق بها : كم عمرها ؟ لمن كانت من قبل .. حسبي أنها يد إنسان .. حسبي أنها يدك يا أغلى غال ..
ويخيّل إليّ أن ذرّات الظلام تتفجر حول شفتي، وأن قطرات المطر تقفز مذعورة عن النافذة وأنا أسألك :
- هل لك أولاد ؟؟
- صبي وبنت !!
حاولت أن أرسم في ظلمة السيارة صورة لصبي وبنت يتعلقان بثيابك كلما دخلت دارك .. وزوجة تكشف لك طبق الطعام على المائدة، ويتصاعد البخار فيغطي وجهها بينما تحوط يداك خصرها كأي زوج .. لم أستطع .. حاولت أن أخجل من نفسي أن أتذكر ما تعلمته في بلدتي المنعزلة .. لم أستطع .. خيّل إليّ أن جميع أطفال العالم قد ذهبوا في حلقات متماسكة الأيدي إلى كوكب سحيق البعد .. وأن الطعام بارد على منضدتك .. وأن زوجتك لا تغري بالتقبيل .. وأن يديك لم تخلقا إلا لتضماني هكذا .. هكذا ..
وتظل قطرات المطر تتمسح بزجاجنا منصتة .. وأبخرة الدفء تتكاثف في الداخل حتى لا تعود القطرات الفضولية ترى شيئا .. وحتى لا تعود تسمع شيئا بعد أن تخفت همساتنا، وتستحيل إلى قبل مكتومة .. فتهوي إلى التراب وتمتزج به في عناق وديع الاستسلام ..
وتنفض عن عشنا الأزرق ذرّات المطر ونحن ننطلق من جديد إلى أعماق الغوطة، إلى حيث تلوح خيمة الناطور ذي الوجه الباش والكلب الأبيض الودود .. وتوقف هدير المحرك وأنت تسألني ككل ليلة :
- ما رأيك بفنجان دافئ من القهوة ؟
ويتلوى شبابي طربا ً .. وأجيبك بفتح باب السيارة والقفز منها غير عابئة بالمطر .. وتركض يدي في يدك إلى الخيمة ونجلس أمام نيران الناطور طفلين في الغاب هربا من مذبح مرعب نذرا فيه قربانين لإله أحمر العينين .. وتتعانق نظراتنا بين أحضان اللهب الذي يزداد تأججاً .. والناطور يرقبنا ببهجة فطرية طالما افتقدتها في أعين العابرين من أهل المدينة . حتى إذا ما سرى في عروقنا دفء قهوته العربية، عدنا إلى عشنا الأزرق حيث تلتقط بشفتيك حبات المطر العالقة بأهدابي .. ويغيبنا المنحنى الرمادي .. لماذا أستعيد هذا كله الليلة مادمت قد مضيت ؟ ..
أنا أعرف أننا لن نعود نلمّ الحنين .. لن نشرب القهوة العربية عند خيمة القمر .. لن تلتقط بشفتيك حبات المطر عن أهدابي ..
مضيت .. دون أن نتشاجر مرة واحدة .. دون أن نختلف في رأي .. كان كل شيء على حاله يوم افتراقنا ..
الطريق ينزلق بهدوء تحت عجلات عشنا الأزرق .. والاطمئنان يسبل جفنيه النديين على قلبينا، وأنا أدفن قُبلي بين عنقك وياقة معطفك، وأغمغم ببساطة : لم تعد المدينة ترعبني منذ تمددت في زرقة عينيك .. ستكون لي أبداً، أنت والمطر، والقهوة عند خيمة القمر ..
- نكاد نصل يا رندة، ارتدي معطفك . لا أريد أن يصيبك البرد .
وأنهض على ركبتي، ووجهي متجه نحو المقعد الخلفي كي ألتقط معطفي الذي رميته هناك كعادتي كل ليلة .. وفجأة .. أراها هناك ! ..
فردة حذاء طفل تبسم في وجهي بسخرية ممزقة ! .. فردة حذاء طفل منسية سقطت من قدم ابنك بينما زوجتك تحمله وهي تهبط به من سيارتكما .. أجمد ! .. يغمرني خجل مذعور مفاجئ ..
وكعادتك تظل قابضاً على المقود بيدك اليسرى بينما تحوط خصري باليمني وتجذبني إلى صدرك ضاحكاً مداعباً .. لا أغمر وجهك بقبلي اللاهثة .. أظل زائغة التعبير مجمدة النظرات إلى الوراء، حيث ترمي ببصرك متسائلاً .. وتراها كما أراها .. لا شيء .. مجرد فردة حذاء طفل تبسم بسخرية ممزقة !! ..
وأدرك أنك تفهمني تماماً .. لا حاجة بي إلى الكلام مادمت تسمع هذيان صمتي المحموم ..
توقف سيارتك ويخيل إليّ أن صوتك انبعث متعبا هدته الليالي وأنت تقول :
- لقد وصلنا .. هل أنتظرك غدا كالعادة ؟
وأجيبك ونظراتي مشدودة إلى فردة حذاء طفلك الساخرة :
- لا .. لم يعد ذلك ممكنا .. أليس كذلك ؟ ..
كان ذلك آخر نقاش دار بيني وبينك .. لكني أحسست ساعة إذ أن الرياح قد حطمت نوافذ عشنا إلى الأبد .. ونظرت على صدرك، إلى حيث تسحقني كل ليلة مودعا، وخيل إليّ أن جميع أطفال العالم عادوا منشدين من كهوفهم السحيقة، وتبعثروا على صدرك، بأطرافهم الشفافة وأجسادهم الهشة ورؤوسهم الدقيقة .. يكفي أن أحاول لمسهم حتى يتناثروا أشلاء بريئة بين أصابعي الدموية ومخالبي المرعبة .. وأردت أن تضمني مودعاً لكنني هربت .. هل كنت تريد أن نسحق صرخاتهم بين جسدينا ؟؟؟ .. أن نلطخ أكتافنا وأذرعنا بطفولتهم الشفافة الدقيقة ؟ أما يكفينا عذابنا ؟؟ ..
ومددت يدي أصافحك، وكان الصمت يهذي، وكانت أعيننا تنضح دموعها إلى الداخل .. إلى الأعماق .. وكانت ثورة شعري المبعثر تبكيك .. وكان عذابي ينشج بسكون ..
واختطفت معطفي وأنا أتحاشى النظر إلى فردة حذاء الطفل المنسية التي ظلت تتبسم بوداعة دافئة حينما هبطت من العش الكسيح .. إلى الأبد ..
ولما ضمني برد غرفتي، رأيتك بين أشباح السقف تدخل دارك الدافئة .. أطفالك يتمسحون بثيابك وأنت تنحني إلى الأرض لتدخل في قدم ابنك فردة حذائه الضائعة بحنان دقيق .. وتُقبل زوجتك سمينة متدحرجة .. فتقبّل خديها اللذين تفوح منهما رائحة طعام شهي ..
ورأيتكم جميعا بوضوح .. وأدركت أنني لم أعد أستطيع انتزاعك من إطارك الحقيقي لأطير بك إلى مغاوري الفضية في جبال القمر .. لم أعد أستطيع .. ولكنك مازلت في أعماقي !
تتمطى وتحدثني وأنا أخرج من الجامعة كل ليلة .. يبتلعني بحر الظلام الكئيب وتحملني أمواجه إلى غرفتي الباردة . أدرس أحياناً، وأكتب الرسائل المطولة إلى أمي وأبي .. وأنت تنزلق بين الكلمات .. تستلقي على الحروف وتقفز فوق النقاط وتهمس بين السطور .. وأنت تتسلق الصفحات وتظل زرقة عينيك تبسم ..
مازلت في أعماقي .. تمسح الطين عن جسدي بأهدابك !
وأنا أسير وقد اختفت الجامعة تماماً .. البرق يلتمع ويضيء البقعة التي كنت تربض عندها بسيارتك منتظراً أن أصل إلى البوار ..
أسير بحذر وأشد كتبي إلى صدري والمطر يتسلل على جسدي .. وأنت مازلت في أعماقي تهمس " اقتربي يا رندة، في نفسي جوع إلى فجور النور " .. الدموع تتفجر في عيني وتضيع مع المطر المتدفق .. موضع عجلاتك الراحلة يهذي .. ينهش من قدمي وأنا أمر وأمزق الذكريات مع ضربات حذائي .. وتصرخ يدي .. تريد أن تمتد لتفتح الباب كما كانت تفعل .. وتصرخ قدماي .. تريدان الصعود على دفئك الملون .. ويصرخ جسدي حيث طحنتك ذرّات تسللت من مسامي إلى أعماقي وتتلوى نظراتي .. تحن إلى التمسح بالشلال الأزرق الهادر من العينين .. ويظل صوتك يهمس من أغوار سحيقة مرعبة : " غجريتي الهاربة من منبع النور، ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟ " وأحس أني ظمأى .. ظمأى لشفتيك تجمعان المطر عن أهدابي .. ظمأى لخيمة القمر وقدح القهوة الدافئ وضحكاتنا الغجرية في كبد الليالي .. أنا ظمأى إليك وأنت تتمطى في أعماقي ببساطة مرهقة !
غربان القدر تنهش عيني الناطور قرب خيمته الممزقة .. رياح الشتاء تذرو رماد نيرانه .. والأمطار تغسل الحمرة عن جمراته حيث تترسب ليالي العذاب سوداء فاحمة .. الرمال أفاع تزحف لتغطي كل شيء .. الكلب يعوي في الخواء منتحبا . وأنا هنا .. وقد عادت الأيادي الخفية تضغط على عنقي .. تسمّرني في الشارع عارية تحت أسياخ المطر .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة والآبار المتجمدة .. وأشد وشاحي إلى رأسي .. أشده .. وأظل أشعر أن الأيدي تجذبني من شعري .. وأمضي إلى غرفتي .. لا أحلم بأكثر من جدران لا تبخل على وحشتى بصدى !















غادة السمّان
*من المجموعة القصصية "عيناك قدري"






التوقيع:
ضرورة الكتابة عنك ،
هربٌ من حماقة الكتابة إليك !
.

ريما العلي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 07-03-2008, 23:38   #11
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!



.

«امرأتان»


امرأة بلون القهوة ، لها طعم الزنجبيل ورائحته ،
تأبطت عمرها الثلاثين وخرجت تتمشى قرب البحيرة .
قابلتها امرأة لها نكهة الأناناس ولونه الأنيق وسحنته غير المتناسقة ،
جالسة تصطاف مع سنوات عمرها الخمسين.
وضعت المرأة ، التي بلون القهوة وطعم الزنجبيل ، سنوات عمرها على الرمال أمامها
ووضعت المرأة ذات نكهة الأناناس أعوام عمرها على الطين أمامها .
بدأت الإثنتان في الثرثرة .. كانت الأولى تدفن سنوات عمرها تحت الرمال .
بينما أخذت الثانية تدفع بذكريات عمرها الخمسين الى الموج ليغسلها .
عندما إفترقتا ..
إشترت المرأة / الأناناس من متجر على الرصيف عمراً عشرينياً رائعاً ،
ومن متجر آخر في الشارع المقابل تماماً
قايضت امرأة القهوة
اسورتها الذهبية بمسبحة زرقاء و وشاح أبيض البياض .


خالد ربيع السيد


.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 10-07-2008, 00:31   #12
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

ترجمة أحمد الشمالي




.



الخريطة والطفل

جلس الرجل صباح يوم الجمعة يقرأ جريدته,وهو يقول لنفسه لن أسمح لأحدٍ اليوم أن يعكر عليّ عطلت هذه, إلى أن جاء ولده وهو يقول له : أبي متى سنذهب اليوم إلى السينما,نظر إليه أبوه وتذكر أنه وعده في الأسبوع الماضي أن يأخذه إلى السينما.
ولكنه اليوم كان مصمماً أن يستمتع بالعطلة هذه,ونظر في جريدته فرأى على إحدى صفحاتها صورة لخريطة العالم,فما كان منه إلا أن قطع صورة الخريطة إلى قطع صغيرة ونثرهاأمام ولده قائلاً :عليك أولاً أن تقوم بتجميع وإصلاح هذه الخريطة وبعدها نذهب إلى السينما, ثم عاد ليستمتع بقراءة جريدته وهو يقول : بأن اكبر أستاذ جغرافية لن يستطيع تجميع هذه الخريطة حتى المساء . ولكن الطفل عاد بعد عشر دقائق،ووضع الخريطة أمام والده,وقال: هذه هي الخريطة،هل أجهز نفسي للذهاب الآن. فذهل الوالد مما رأى أمامه،وقال لطفله:كيف نجحت في تجميعها بهذه السرعة؟!!!
فرد عليه الطفل وقال: أنت عندما أعطيتني صورة الخريطة ,نظرت في الخلف فرأيت صورة إنسان فقلت في نفسي: إن أنا أصلحت هذا الإنسان فإن العالم بطبيعته سينصلح.!!!


.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 31-07-2008, 18:35   #13
شايعه الفاضل
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ شايعه الفاضل
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!

اقول لكم شي

والله اني كنت ابحث من سنوات في النت عن شي ممتع ولا ادري ايش هو بحثت في الادب والشعر ووووو لكن مع قصصكم لقيت اللي ابحث عنه اهنيكم فعلا واتمنى منكم انكم تكتبون اسم الكاتب وبلده وخلونا نتجه الى الادب الغربي لن افكارهم متنوعه بحكم معيشتهم فخلونا نتعرف على بعض الافكار الجديده بس فعلا لاحد يقطعنا عن ها المتعه وكل ما كان البحث جاد كل ما كانت قافلة الحكايا ممتعه اكثر

شكرا على الامتاع

التوقيع: قطفتني منذ زمن ولازلت بك نضره اعبق بروائح جميع
الورود

لوقلت لي احبك با وقف فيها عمر
شايعه الفاضل غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 23-08-2008, 18:48   #14
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!




.


صراع مع الموج…
عائشة توفيق القصير

من ركن قصي في القاعة..أخذ يرقبها بطرف خفي…
كان يعلم أنها تقترب..وتقترب.. فازداد تركيزه المزعوم على كتاب (الكالكلس ) (1)الذي يتصفحه…
– بيردون "آبدول"…
قالتها بنبرة هادئة خافتة تستأذنه -بلكنتها الـ "مكسيكية" القويّة- في الجلوس على مقعد مجاور… وكان قد اعتاد مناداتهم له في الولايات المتحدة بآبدول لثقل كلمة "عبدالله" على ألسنتهم… رفع عينيه إليها..
– أوه! "خوليانا" (2)؟! تفضلي…
فجلست لتنهمك في حل بعض مسائل الكتاب، و بحث النتائج على آلتها الحاسبة… وعاد عبد الله لسابق حاله وقد استحالت كلمات الكتاب إلى رموز لم يكلّف نفسه بمحاولة فكّها…
كان يغرق..أكثر فأكثر.. لكنه في هذه المرة، قرر أن يترك الصراع!

ثلاثة أعوام من صراع أمواج الغربة ليست سهلة إطلاقا! عندما يجرفك تيار الحياة، ويسحبك تراجع الموج إلى عمق المحيط… عندما تفارق قدماك أرض وطنك اليابسة الثابتة الصلبة، و تُحجب عنك أشعة الشمس، فتتركك مبللا..رطبا..ترتجف… عندما تمضي ثلاثة أعوام بفصولها الأربعة تشهد الناس سعداء بعناق سلاسل الفضة المائجة، بينما أنت في صراع معها، تصر وحدك دون الآخرين على الخروج منها..على صراعها للوصول إلى أرض اليابسة… عندما تعاني… فتملّ ساقاك مواصلة الرّفس، و تتمزّق رئتك من فرط الإجهاد ونقص الأكسجين، و يختنق قلبك وقد جفّت شرايينه فما عادت تصله حاجته من الدماء… عندها… ستجد في الاستسلام للموج لذة عسلية النكهة… سيتوق جسدك المنهك إلى الاسترخاء… وإلى إغماض عينيه… وستتجاهل أنك بموافقتك على عناق سلاسل الفضة الممتدة من الماء..مثلهم.. إنما تعلن نهايتك…نهايتك كإنسان ذي مبدأ، و قيمة..
وتطلب الغرق!

اكتظّت القاعة كعادتها بما يقارب المائة طالب وطالبة. خلاف عادته، لم يشعر "عبد الله" في يومه هذا بتلك الرغبة الملحة في أن يلقي نظرة يتيمة تجاه الركن القصي من القاعة، فخوليانا كانت تشاركه للمرة الأولى ركنه الذي يجلس فيه!
كانا يتشابهان إلى حد مثير للانتباه. فكلاهما يعشق الأركان، ويبتسم للجميع دون أن يضحك لأحد على وجه الخصوص…كلاهما كانت تلاحقه لمزات السّاخرين لاستغراقه الشديد في الدراسة وعدم مشاركته في احتفالات السكن الطلابي الصاخبة…كلاهما كانت تتناوله الألسنة فتصمه بالشذوذ إذ لم يكن هو ليصادق الفتيات، و ما كانت معرفتها بالشباب تتعدى حدود الزمالة داخل القاعات… وكلاهما كان يحضر إلى تلك المحاضرة بالذات، قبل حضور الجميع، ويدرس الآخر من على بعد!
وظل الخاطر يلحّ على عبد الله… ما الذي دفعها لترك ركنها، و استئذانه في الجلوس وهي تعلم أن المقعد ليس لأحد؟!!

ضجّت القاعة بالحياة بعد هدوء نسبي. لملم "البروفسور هيكس" أوراقه وخرج من القاعة يتبعه بعض الطلبة، بينما البعض الآخر يتناقش داخل القاعة حول مسائل استعصت وغمضت عليه. وما كانت بعبد الله رغبة في الاتجاه إلى غرفته-إن صح التعبير- في السكن، و الانضمام إلى زميله في الحجرة "جيسن" وعصبة المجانين التي تزوره هذا الوقت من كل يوم! في الوقت نفسه، لم يكن يرغب في الذهاب إلى مقهى الحيّ الطلابيّ، ليزداد رثاء لحاله وهو يجلس وحيدا يرقب الطاولات وقد ضمت من الأعداد اثنين اثنين…بينما هو في مقعده البارد يرتشف قهوته المرة بلا سكر!
انتبه من أفكاره على صوتها..هاهو الموج يدنو… وهو يحرق علم الصراع…ويستسلم…
– نعم؟!… التفت صوبها متسائلا…
– أنت عربي.. أليس كذلك؟!
– وأنت مكسيكية ( قالها بلهجة من يعني: كلنا يعلم..فلم تسألين!! )
– مسلم؟
اكتفى بهزّ رأسه… ينتظر منها الوصول إلى صلب الموضوع…
– قريب من مكة؟
– جدا!
أطرقت تفكر برهة، وتقلب أوراقها وهي تتشاغل بترتيبها… وسمح عبد الله لنفسه بأن يتأملها… يتأملها بتلك النظرات التي طالما حرّمها على نفسه حتى ما عاد يطيق الاحتمال!
و تلاشت خيالات "عيون المها" في فكره، وهو يطالعها. كانت لها عينان ضيقتان حادتا الرسم… يفيض لضيقهما الدفء بهدوء غامض، لا يحظى به إلا من يقترب منهما ويتجاوز بنظراته أمواج رموشها السوداء وهما تنبلجان تارة عن بدر لفه الظلام والسحاب في ليلة عاصفة، وتارة أخرى توصدان بوابتهما لتدفعانه خارجهما فيلفه البرد…
عادت للحديث وهي ترفع حقيبتها على كتفيها، وتحتضن ملفها استعدادا للانصراف…
– حظا موفقا في اختبار الأسبوع القادم!
وخرجت بخطوات رشيقة سريعة، ليس لوقع حذائها الرياضي أدنى دبيب.
– امتحان؟!! وأي امتحان؟!!.. ساءل نفسه قبل أن يردد ضاحكا…
– إيه أيّها البدويّ… قد ولت أيام القحط، وهاأنت أمام البحر تلقي إليه بعقلك وقلبك دفعة واحدة!!!

مر أسبوعان وخوليا تكرر صنيعها، فتجلس في نفس الركن…وتواصل طرح الأسئلة الغريبة ذاتها عن تقاليد مجتمع عبد الله، و عدد أفراد عائلته، وطريقتهم في الحياة ومفاهيمهم..احتفالاتهم…وما إلى ذلك من أسئلة تعد بين الطلاب تعديا على الخصوصية الفردية، لكنه كان يتقبلها بصدر (قلب؟؟!) رحب…
كان يستمع إليها عن قرب، ويدرسها من على بعد… لو كانت مثل غيرها من الطالبات لاختصرت على نفسها الطريق و دعته إلى كوب من القهوة أو وجبة عشاء كما جرت العادة… وكما فعلت من قبلها بعض الفتيات فقابلهن بالرفض الشديد… لكنها بترددها البادي وخجلها كانت تثير إعجابه، و تجذبه نحوها أكثر… فقرر أن يلقي بتحفظاته و جموده السابق إلى الجحيم، ويكون رجلا في مبادرته… لكنها سبقته، ففي نهاية محاضرة الأسبوع التالي تقدّمت إليه بنظرات واثقة…
– آبدول، هل بإمكانك أن تلاقيني في المقهى، الساعة الثامنة مساء؟!
هز كتفيه موافقا…كمن لا يجد حرجا في الأمر… لكن جوابه لم يشفها فكأنها استشعرت فيه بعض التردد…
– آ..هذا إذا لم يكن لديك ما يشغلك… فعندي…أمر أحب أن أصارحك به…
لم يستطع عبد الله حبس ابتسامة بدا أن لها جذورا عميقة متأصلة في قلبه… صمت قليلا وهو يتفحص قسماتها، وهي تتشاغل بالنظر إلى ملفها…
– أنا عادة ما أذهب إلى المقهى في ذلك الوقت… أراك هناك!
وانصرفت… لتتركه يواصل الغرق… ويتلذذ به…

بعد مشاورات مع "جيسن"، ضحك فيها الآخر عليه -وهو يعطيه درسا مختصرا حول (أتكيت) مقابلة الفتيات-حتى دمعت عيناه، قرر عبد الله أن يشتري لخوليا باقة من الورد بما تسمح به ميزانيته. وكان في انتظارها في تمام الثامنة إلا خمس دقائق…
وفي الثامنة وخمس دقائق أقبلت في معطف أسود طويل… يتماشى سواده الوثير مع لون عينيها… مد لها الورود، فتقبلتها بحذر وتساؤل… ودون أن تنبس ببنت شفة…
طلبا كوبين من القهوة، ثم عم الصمت بينهما طويلا…حتى بدأت في الحديث بهدوء وتردد..
– آبدول.. لا أدري من أين أبدأ حديثي…أنا في الحقيقة –
ومدت يديها أمامها على الطاولة، وهي تداعب خواتمها في ارتباك…
– ماذا؟… قال لها بابتسامة تشجيع، يستحثها على مواصلة الحديث…
– منذ شهرين وأنا..أفكر.. في هذا الأمر… ولكن-
– ولكن…؟
– ولكني حتى الآن لا أجد الشجاعة الكاملة لأن أتخذ قرارا…
رفع يديه إلى الطاولة بهدوء، بينما هي تركز نظراتها على طبق السكر الموضوع أمامها دون أن ترفع نظراتها إليه ولو مرة واحدة… ببطء اقتربت يداه من يديها الناعمتين…
– أنت لا تعرف كم أحترمك…وأقدر فيك…ذلك الاختلاف الذي-
وصمتت طويلا… وحين لامست يداه أناملها، انتفضت فجأة وسحبتهما، و طالعته مذعورة كمن يستيقظ لتوه من حلم جميل…
– آبدول!!! ماذا…ما الذي…
– خوليا…كم تبدين رائعة وأنت مذعورة…!
– كيف تجرؤ؟!!
– لم تصارعين نفسك..أنت الأخرى؟!! كنت مثلك يا خوليا…لكنني قررت بأن أستسلم لذلك الموج…أن أغرق…أن أتلذذ بالغرق…إن كان سببه أنت!
نهضت من كرسيها بغتة، فسقط مقعدها إلى الوراء… تحلّقت حولهما أنظار الطلبة في فضول…
– لا أصدق يا آبدول!!! أنتم إذا..مثلهم.. تماما مثلهم! ماديون، استغلاليون..تافهون أغبياء..
تصعدت الدماء إلى وجهه، وأحس أن رأسه سينفجر…تمنى لو أن الأرض تنشق لحظتها فتبلعه… صفعة انهالت على فكره، فبدأ يراجع حديثها كله منذ البداية ليرى أنه قد فهمه..ولكن بلغة أخرى!
– منذ رأيتك في الجامعة…و حلم تيقظ في مخيلتي… حلم العالم المتكامل المثاليّ الذي لم أجده في وطني ولا هنا! حلم عالم الشرق الشامخ الأبي..عالم الأنفة!! شهرين أمضيتهما أبحث في كتب ديانتكم و بلادكم…وأقرأ كل ما كتب عنكم… وكنت أنتظر محاضرة "الكالكلس" بفارغ الصبر كي أواجهك بما استعصى عليّ فهمه عن ثقافتكم ومفاهيمكم… كل شيء في دينكم بدا جميلا ساحرا… يفوق الخيال… ويسدّ بروعة ثغرات الأديان الأخرى…
– خوليا…لحظة..امنحيني لحظة واحدة فقط…أنا لا-
قالها هامسا يحاول أن يهدئ من ثورة حديثها و علو صوتها… لكن حديثها كان عاصفا يطير بكل شيء…
– أشكرك على هذا التطبيق الواقعيّ…لدينكم..أمامي… أشكرك على تنبيهك لي أن دينكم مثل بقية الأديان تماما… كلام جميل..بل غاية في الجمال..إنما على الورق..والورق فقط!
– لا تحكمي على…أنا لم يسبق و-
سحبت حقيبتها من على الطاولة… مسحت دمعة كانت قد انسابت على وجنتها السمراء من فرط الغضب… وقبل أن تغادر كلية طالعته و في عينيها ألف قول وقول…
– أشكرك على أن منعتني من خطو أغبى الخطوات في حياتي… وحفظتني من معارضة أهلي..إذ كنت أنتوي الذهاب معك لأعلن إسلامي!!
وأغلقت عينيها وطردته بعيدا..بعيدا عن محيطها.. وخرجت ليلفحه هواء رحيلها…
نهض من مكانه ببطء… قال لعامل المقهى أن يشرب قهوتهما ويسعد بمرارة طعمها… رمى ببعض القروش في وجهه… رفع الورود من على الطاولة… قذفها في أقرب سلة مهملات… سحب خطاه باتجاه سكن الطلاب…كان الجو ممطرا عاصفا… و كان عبد الله يختنق…ويختنق…
لاح له طيف أمّه، و سمع توصيات أبيه…
– أملنا فيك كبير…يا عبد الله!
شعر بأنه يتضاءل ويتضاءل… ركل كلبا في الطريق..ثم ما لبث أن اصطحبه إلى حجرته…
كلاهما كان ضالا.. لا وطن له.. كلاهما كان مبللا..يرتجف.. كلاهما كان يعوي.. في ظلام الليل!


ـ

(1) الكالكلس: مادة الرياضيات (مستوى متقدّم)
(2) خوليانا هي النطق الإسباني لـ : جوليانا


.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 30-08-2008, 14:16   #15
الريم الحربي
فَتنة ماضٍ
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ الريم الحربي
 

امتِناني لقلوبكم العامرة بحكايَّا الجمال

.
.
على رؤوس الأصابع

لم يحتج جسدها الضئيل سوى إلى حافة الكنبة.. ويبقى الكثير من الفراغ..
يوم كان اللحم فائضاً بكرم فوق العظام وماء الورد يضمخ خديها والعنق، كانت حاسة الشم تلتقط حتى أبسط الروائح
وكان هو إلى جانبها يتأبط ذراعها
ويأخذها بطوله الفارع وغمامة أحلام تظللهما في مشاوير طويلة يتسكعان دون هدف.
لاهيين يمر بهما الوقت
يأكلان القضامة، يلقمها الحبة تلو الأخرى، يقترب منها حتى يلامس ذراعه الماكر صدرها النافر.
كانت تحمر خجلاً، وتضحك.. فتبان لثتها والنواجذ.
شاردة اللب تحيك تفاصيل الوقت الكثيف.. تستعيد بشق النفس كل متعة متوفرة.. فرش لها بكلماته بساط حنان، وقال لها:
" صدقيني "
عند بوابة الحارة القديمة نُصبت خيمة عرسهما.. ضمتهما غرفة مستأجرة كافية لرقيق حالهما وكل الحب..
لم يسمعا القطط التي ماءت حسرة كان صوتهما صادحاً يغردان.
البنت اللعوب أحبت صبي الفران..
" لولا عصا والدتها التي جعلت جلدها مزرقاً لما تقدم لخطبتها "..
قالوا وهم يلوكون القصة في زوايا النميمة المعتمة.

لكزتها مشرفة الجناح لتنظف غرفة المريض التي يفوح منها رائحة البول..
كانت الممرضة قد ربطته كما العادة بمعدن السرير لأنه يؤذي نفسه والآخرين.
وهل من يؤذي الآخرين مجنون ؟
في زاوية عينه اليسرى دمعة دائمة لم يمسحها أحد..
مصحة الأمراض النفسية والعقلية نادراً ما تستقبل الزوار،
وهم في العادة ينسون حمل المناديل معهم..
قبل أن تكتشف العروس المنتشية برائحة الحب مرض زوجها،
كانت تعتقده مجرد رجل نزق.. ما إن تتباطأ في تلبية طلباته حتى يحول الغرفةحطاماً،
وحين لا يبقى في متناول يده ما يرميها به، يبدأ بضربها حتى تتورم.
ثم يقضي الليل بطوله وهو يقبل كل جزء من جسدها المهشم.
ستة أشهر ليست كافية لتكتمل فرحة العروس، لكنها جعلت نوبات الغضب تتزايد حدة، ليتدخل الجيران يمسكونه من ذراعيه ويجثم أحدهم فوق صدره،
كأنه بقايا ثور هائج..
قالوا مريض.
استغرق الأطباء الوقت الكافي لتشخيص الحالة.
نضب كل ما كان في قعر الجيب...
سريعاً.. بعد شهرين من الجولات المكثفة بين هذه العيادة وتلك، وبعد العديد من الجلسات الكهربائية وتخطيط الرأس، اكتشف أحد الأطباء الجهابذة أن خثرة دم أصابت الدماغ هي المسؤولة.
وهكذا خرج الحب بريئاً من ذنب النضوب... وتنهدت هي بارتياح.
يحتاج عناية خاصة فالخثرة لا تقف في مكانها.
تزقه بالإبرة المسكنة تهمده نصف ميت شاخص العينين، يشخر والزبد يخرج من زاوية فمه.
كي تبقى قريباً من أنفاسه تسترجع خيالات ذراعه تلامس صدرها، ارتدت المريول الأزرق الكابي، وعُينت عاملة نظافة في نفس المشفى.
أصعب الليالي حين يسحبها ممرض الجناح السمين إلى مخزن التنظيف،
تستسلم ليديه العابثتين، تحتمل أنفاسه الكريهة تختلط برائحة المعقمات الحادة،
وتلوك يائسة اعتراضاتها .
" عليك أن تغادري الغرفة قبل أن يمر طبيب الصباح "
يقول لها قبل أن يطلقها من بين ذراعيه.
تدلف إلى الغرفة الأخيرة من الممر، وهي تحمل خطواتها الرشيقة فوق رؤوس أصابعها، فيما تسوي منديل رأسها، تمسح عنقها،
وتدلك شفتيها ووجنتيها بماء الورد ترشه من قارورة صغيرة تدسها في جيب مريولها.
تفرش بساط النوم العتيق عند أرجل سرير زوجها المعدنية، تتمدد بهدوء على جنبها الأيمن تتسلق عيناها كتفيه المتهدلين،
تسحب كفه من تحت الأغطية، تمسد بها خصلات شعرها، وتشاركه همساً بعض الأحلام.






الأديّبة السُوريةْ
سوزان خواتمي

.
.

التوقيع:
.
عطني بعضي ..
صعبة تأخذ كلّي .. وابقى بدون شيء !

[ قلّب صالح العبد الكريم ]


اخر تعديل كان بواسطة » الريم الحربي في يوم » 30-08-2008 عند الساعة » 14:25. السبب: لأجلِّ الامتِنانْ
الريم الحربي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
إضافة رد


عدد المتواجدون في هذا الموضوع » 1 , عدد الأعضاء » 0 , عدد الزوار » 1
 

قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML مسموح

الإنتقال السريع