من خير الكلام


آخر 10 مشاركات
هلا بالجميع (الكاتـب : دغيفل - - الوقت: 20:59 - التاريخ: 14-11-2023)           »          اصعب سؤال (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 14:50 - التاريخ: 26-06-2020)           »          وريثة الغيم (الكاتـب : علي التركي - - الوقت: 10:37 - التاريخ: 21-03-2020)           »          الظِل.......! (الكاتـب : كريم العفيدلي - - الوقت: 23:00 - التاريخ: 26-01-2020)           »          آفـآ وآلله يـآمـجـرآك (الكاتـب : ناعم العنزي - - الوقت: 10:12 - التاريخ: 23-01-2020)           »          ثـقـوب (الكاتـب : عائشة الثبيتي - - الوقت: 10:25 - التاريخ: 17-12-2019)           »          ~{عجباً لك تدللني}~ (الكاتـب : شيخه المرضي - - الوقت: 23:39 - التاريخ: 26-11-2019)           »          تاهت خطاويه (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 08:55 - التاريخ: 14-11-2019)           »          خزامك وشيحك (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 22:43 - التاريخ: 08-11-2019)           »          موسم الصمان (الكاتـب : حمود الصهيبي - - الوقت: 14:58 - التاريخ: 08-11-2019)


 
العودة   شعبيات > > ذاكرة العرب
تحديث هذه الصفحة قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد
 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 31-08-2005, 11:10   #1
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
مجموعة أسرار علي حامد
للقاص السعودي فالح عبدالعزيز الصغير
القصة المختارة: احتقان

.
.
دلال… البنت الصغيرة التي كانت "تجوب" الحارة طولا وعرضا إختفت..
يا الله..صحيح..
نعم.
منذ متى؟
أول أمس..
يا ساتر..
لا أعلم..
يا حافظ..
وأخوها ناشي..؟
حاول الهرب مرة أخرى..
كيف؟!

في المرة الأولى ربطه والده وهدده بأن يعلقه في "المروحة" إذا كرر العملية..كررها.. هل يعلقه؟
مشغول باختفاء دلال وبمشاكلها الداخلية التي كبرت في الأيام الماضية.. "والجاثوم" الذي سببه احتقان كاد يقتله بعد منتصف الليل.
ضحك بصوت مرتفع..ورد بعنف:
بلا "جاثوم" بلا خرافات..العمليات بالمناظير وما زلت تؤمن بالخرافات؟!!
… …

لم تعد دلال.. الحارة تبحث عنها..(ناشي) يتابع الناس من سطح المنزل..لم يجد مكانا إلا السطح..
يسعى لمشاهدة الرؤوس التي تطل باستحياء من المواقع الاخرى..وتردد:
إذا حبتك عيني … … ما ضامك الدهر

حاول أن يفهم المعنى، لكن هاجس الربط والتعليق يقف حائلا أمامه للخروج بنتيجة تريح نفسيته المتعبة..وتقف لتمنعه من مصدر الصوت والاستماع له بشكل مختلف عن حديث العيون وإشارات الأيدي الخائفة..

مرت بخاطره علامة استفهام حائرة..دلال..وعلاقتها بالآخرين..لا.. ومن يمنعها من تلك التي ترفع رأسها وترمي بالكلمات..لا تعلم أمها عنها..
ووالدها..
لو علم لتحول "السطح" إلى مذبحة.
دلال أصغر من أن تمارس أدوار فتاة السطح..تهرب من البيت..بسبب ما تعاني منه..جاءت أمها تبحث عنها..كانت التهمة الأولى أنها اختفت عند أمها..هدد والدها الأم بالشكوى والذل..لم تأبه الأم لذلك التهديد..بحثت في مواقع تعتقد أنها تختفي فيها..عند الجيران..لا..أم حسن..ربما..

لم تتأكد أين غابت دلال..الوقت بعد الظهر..شبح دلال يعود..أسرعت الأم وحرارة الشمس تلسع قدميها..اعتقدت أن ابنتها تقابلها بحرارة..كان مجرد شبح مثل من يرى سرابا من بعيد ! ... انتهت.

وحوار..

- فعلا..أين ذهبت دلال؟!!
- لا أدري، وبالتأكيد لا أستطيع أن أسأل القاص.
- لعلها هربت مع أحد هؤلاء الذي تُقص عليهم القصة، أو لعلها تزوجت أحدهم، أو ربما تكون قتيلة في مكان ما، لعلها انتحرت.
- كلها احتمالات ممكنة، لكن لماذا من الضروري أن تعرفي أين ذهبت دلال؟!!
- لا أدري، لعله الفضول، فضول قارئة.
- ألم يشغلكِ التفكير في سبب اختفاء فتاة في مجتمع محافظ كالبيئة الخليجية (بيئة القصة)؟!!
- لا، لم يشغلني ربما لأني أفهم بعض هذه المعاناة.
- ولماذا أفترضت معاناة؟!!
- إذن لم هربت دلال؟!!
- ومن قال أنها هربت؟!!
- لحظة…آسفة لم أنتبه..اقصد لماذا اختفت؟!!
- نعود لسؤالي لم تختفي دلال في مجتمع خليجي؟!!
- المعاناة، الكبت، إغواء من فوق السطوح على الطريقة القديمة، متابعة المسلسلات المكسيكية لو كانت القصة حديثة..صراع أجيال..فهم خاطئ للحرية، هذا إذا افترضنا أن دلال اختفت بملء إرادتها…أو اختطفوها مثلا، أو لعلها كانت هازلة ثم تحول الأمر إلى جد لا هزل فيه.
- هل تعتقدين أن فتاة (تجوب الحارة طولا وعرضا) تعاني من الكبت أو تعاني من شكل آخر من الحرمان؟!!
- ممكن، هو كبت في البيت تفرغه بالـ(جوبان) في شوارع الحارة، لا تنس أن القاص لم يقل لنا هل كانت (تجوب) بعلم أهلها (أبوها تحديدا) أو دون علمه، تعرف لو كان أبي يعلقني أو أخي على المروحة كلما غضب على أحد منا لتركت له البيت فورا إلى بيت لا (أعلق) فيه كالشاة، نعم، أهرب كما فعل ناشي أخو دلال، هو بيت منهار تحل مشاكل أفراده بالهرب وحقوق المرأة فيه مهدرة تماما، لاحظ موقف الأب في القصة من الأم..
- كيف؟
- بدل أن يساهم مع الأم في البحث عن ابنته اكتفى بالتهديد (بالذل) والشكوى، هذا مثل صارخ على السلبية والفحولة الغبية التي تتسبب في المشكلة ثم تتخلى عن تقديم الحلول.
- لكن لا يوجد في القصة ما يشير إلى أن الأب تسبب في المشكلة؟
- يا عزيزي الفن إيحاء، أب يحل مشكلة هرب أبنائه بتعليقهم على المراوح ويهدد الأم بالذل، هل تعتقد أنه أب فاضل ولا يخلق المشاكل؟!! ثم ألا يكفي أنه أب لهذه الفتاة البائسة ليكون سببا في مشكلتها؟!!، على فكرة ما معنى (جاثوم)؟!!
- أعتقد أنها خرافه مؤداها أن الجان يقبع على صدور بعض الناس في ليالي الصيف الطويلة مما قد يتسبب في موتهم مخنوقين.
- أعوذ بالله، ليته جلس على صدر أبي دلال وأراحنا منه.
- تعرفين، ضحكت حين قرأت أن دلال لا تجيد تمثيل دور فتاة السطح؟ هل يحتاج دور الفتاة المحبة إلى إجادة؟
- وهل يوجد دور لا يحتاج إلى إجادة؟!! هل أذكرك بنظرية الطبع والتطبع؟، لعل القاص يقصد أن دور العاشقة الولهانة الباحثة عن قيس بن الملوح فوق السطح لم يكن يناسبها، خاصة أنها كانت تستطيع أن تجد قيسا هذا في شوارع الحارة حيث كانت تجوب، وما يدريك لعلها وجدته فتحولت إلى ليلى العامرية.
- هل هي دعوة مقنعة إلى الرذيلة إذن؟
- أين؟!!
- في القصة.
- لا طبعا، يفهم القارئ ذلك حين يكون هو سيئ النوايا، أما حين يكون حسنها فيفهم أن القصة في مجملها دعوة إلى خلق أجواء حميمة في البيئة العائلية، أجواء لا تحوج فردا منها إلى الهرب المعنوي أو الحسي بحثا عن حل مجهول لمشكلته، ثم هي تصوير لبيئة محلية نعرفها معا تمام المعرفة..هل تأذن لي بسؤال؟!!
- تفضلي.
- ألم يهددك أبوك بتعليقك على مروحة المنزل ذات يوم؟!!
- نعم…..كيف الحال؟!!..
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 31-08-2005, 11:15   #2
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
أحلام ثقيلة
القاص السعودي: يوسف المحيميد
مجلة العربي الكويتية
عدد أغسطس - 2002



كنت دائماً أرى ما لا يرى, في النوم أرى قناديل تضحك, وعيونا تلتمع, وأرى أبي يتحدث مع غرباء عن الموسيقى, وهم محفوفون بالسيمفونية التاسعة لبتهوفن, بينما أبي يتحدث إليهم منتشياً عن سوري مقيم في فرنسا, يدعى عابد عازريه, يتحدث عن نهجه الموسيقي, والآلات التي يستخدمها! كان وجه أبي تماما, بتجاعيده وانفعالاته, بلحيته المصبوغة, وهو يتنقل من موزارت إلى بتهوفن إلى تشايكوفسكي إلى غيرهم, كان هو ذاته أبي, بجبهته المتغضنة وشاربه الحليق.

كنت أرى ما لا يرى, أرى أبوابا كثيرة, تنفتح على أبواب أخرى, أرى أمي تنظّف اللوحات الزائدة في المخزن, تمسح غبارها, وتقول لي: أنا أحب بول كلي, إنه فنان عظيمَ! كانت هي أمي السمراء, بوجهها المجدور, أمي التي لم تعد تلحّ بأن أكف عن رسم ذوات الأرواح, كنت أرى أمي تجلس على طاولة المطبخ, ترسم بورتريها لا أعرف لمن, قالت هذا (كليمنت), هل تعرفه? قلت: لا. أشارت إليّ أن أتبعها, وهي تقول: سأطلعك على لوحاته!!

كنت أرى دائما ما لا يراه أحد, أرى المستشفى الذي أعالج به لوثة الدوار خالياً من المراجعين, ممراته لامعة, لا ألمح عليها سوى ظلي, ولا يقابلني أثناء مروري سوى الممرضات ببياض ملائكي, يبتسمن بوجوه شرق آسيوية, وتقودني إحداهن, كان الطبيب يبتسم لي, ويعتذر عن تأخره, رغم أنه لم يتأخر إطلاقا!! كنت أرى ما لا يرى, من النافذة أرى أسلاك الكهرباء خالية من الغربان, والسماء لا تحوم فيها العقبان والنسور, كنت لا أرى الذباب يطنّ, ولا أسراب البعوض تنتقل فوق البرك والمستنقعات, حيث لا مستنقع قرب البيت أصلا!! كنت أرى الشوارع خالية, والناس يتحركون بدقة ونظام, كل واحد يؤثر الآخر, كنت أرى البلاد لا سادة فيها ولا عبيدا, لا حكاماً ولا محكومين, كنت أرى ما لا يرى, كنت أسمع ما لا يسمع!!
في آخر الليل, كنت أتنبّه فجأة, وأمشي وأنا شبه نائم نحو الثلاجة في طرف الغرفة, أسكب ماء وأشرب, دون أن ينقطع ما أراه وأسمعه!!

في الصباح أصحو, وأقص على أمي ما رأيت, كانت تقول هذه كوابيس, يا ولدي الحلم خفيف كالفراشة, لكن أحلامك ثقيلة مثل الحجارة!! قبل أن أنام تنصحني دوماً: سمّ باسم الله, وانفض شرشفك قبل النوم, وبعدما تصحو!!
صباح اليوم, فتحت عينيّ المرهقتين, وقد رأيت البارحة أشياء كثيرة لا تُرى ولا تحكى. شعرتُ بصداع رهيب في مقدمة رأسي. حين لمست جبيني صعقتني حرارة طاغية: لا بد أنها الحمى!! رأيت في الغرفة أشياء صغيرة تطير, تشبه البعوض: اللعنة, هل كانت طوال الليل تغرز خراطيمها الواهنة في وجهي, لتقتلني بالحمى, بينما أنا منهمك في رؤية ما لا يراه أحد!!

نهضت بتثاقل, وتذكرت وصية أمي, فأمسكت بالشرشف الأزرق من أطرافه, ثم نفضته بقوة مفاجئة, فتطاير من أنحائه ما يشبه الحشرات المضيئة, ارتبكت وأنا أفكر برؤياي الليلية المستمرة, هل هذه الأحلام التي قالت عنها أمي إنها ثقيلة مثل حجارة!! نفضت الشرشف ثانية فاصطخبت حشرات مضيئة تكاد تتصادم في فضاء الغرفة. أسرعت نحو النافذة وصفقت بها, لتنفتح عن آخرها, وهالني منظر الحشرات المضيئة اللامعة مثل جواهر وهي تتدافع نحو ضوء الخارج, وتنساب من النافذة, وحين ابتعدت عن النافذة لأسمح لها بالمرور دون أن تتصادم ببعضها, سمعتُ على الفور تحطم أشياء في الأسفل, انطلقت عبر السلالم الحديدية إلى الحوش, لأرى أسفل نافذتي شظايا أحجار, وقد تفتتت إلى أجزاء صغيرة جداً, بينما لم يكن هناك أي أثر للحشرات المضيئة, ولا لسخونة الحمى.
.
.
وحوار..

- عجبتك القصة؟
- يعني..
- وليه يعني..ليه مش رائع، أنت موهوب، بالتأكيد ستكتب أفضل في المرات القادمة..زي ما تكتبون في (الأنترنت) ؟!!
- يعني..عندي ملاحظات..
- مثل؟
- شوفي كم مره كتب جملة (أرى مالا يرى) وكم مرة تكررت كلمة (أرى) في القصة، هل تحتمل هذا التكرار؟ ..
- وما الذي كنت تتوقعه، الرجل يحلم، ويحلم أن يتحول حلمه إلى حقيقة، كأنه يريد أن يؤكد حلمه للناس، تعرف..بتعابيرنا أتخيله وهو يقرص نفسه في الحلم حتى يتأكد أنه فعلا (يرى ما يحب أن يرى)..لكن الحلم أفضل له على كل حال..والتكرار هنا رسالة تنقلنا نحن معه إلى حلمه وإلى غرفة نومه..
- لا.. الله (يخليكي)، بلاش تروحين غرفة نومه..هنا أحسن..
- بعدين ايش اللي فهمته من كلامه عن بيتهوفن وتشايكوفسكي؟!!
- يتفلسف!!
- لا..أنت تظلمه..هو تصوير شاعري لشخصية هذا الحالم – حين تكون مثله ستهتم برؤية ما رآه، وحين لا تكون فلن يشغلك البعوض والمستنقعات والقبح في كل مكان، هو تصوير شاعري لنفسية إنسان في المقدمة يجعلنا بعد ذلك نتقبل أحلامه ثم نحلم بها معه، ثم ليكن له حلمه وليكن لنا حلمنا، يعني كلنا نبحث عن الجمال ونبتعد عن القبح.
- يا سلام..يا مي زيادة!!
- أووه بدأنا الغيرة الرجالية، ومن قال لك أن مي زيادة ناقدة يا سيد؟!! عموما لن ندخل في حوار الذكورة والانوثة..
- طيب والحمى والحشرات المضيئة في آخر القصة؟
- مالهم؟
- أيش مناسبتهم؟
- يمكن أن تفهمه على أنه استمرار في الحلم، ويمكن أن أفهمه أنا على أنه استمرار في الواقع، ولعلنا لو سألنا القاص لأجاب برؤية خاصة به كقارئ ثالث، وإن كان قليل الفطنة سيفسد النص بتفسير غير مطلوب يحرمنا جميعا من متعة الخيال والتفكير وتركيب الصور معه.
- والخلاصة .. ما الذي استفدناه من القصة؟
- المتعة والتجربة والتفكير…خلني اشرح لك…
- لا الله يخليكي..بلا شرح..فاهم قصدك تماما..
- ايوه، روح أكتبه عندكم في منتدى السرد بشعبيات بكره، وقول أنه رأيك ..
- لا، رح اقولهم أنه رأي عباس العقاد في قصة يوسف المحيميد..!!
- بس العقاد مات..
- ايوه ..هنا الفن والإبداع والخيال..نحرر العقاد من ربقة الزمان والمكان، ونريه بعض كتاباتنا زي ما فعل العقاد نفسه مع ابي العلاء..
- تقصد كتابه: رجعة ابي العلاء..
- هو بعينه..
-
-
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 31-08-2005, 12:43   #3
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
النادي الأدبي بالرياض – جماعة السرد
لقاء يوم السبت 27/8/2005
قراءة لنصوص أدبية منشورة في مواقع الإنترنت
قراءة في نص " الهمال " للكاتبة كوثر الزهيري


الهمال* (قصة قصيرة)
القاصة: كوثر الزهيري


أول تباشير الفجر..ندىً خفيف يعلق بنافذته الزرقاء..يتمطى ويبتسم لوجهها الصبوح الغافي بجانبه..يتلمس غرتها فتُشرق كُوتا عسل مصفى..يقفز الى الأرض ساحبا الغطاء الخفيف..حاملا إياها ..معتنقا فضتها المكتنزة..قبل جبينها فأطرقت خجلا..ركضت الى المرجل لتوقد له الكانون كي يأخذ حمامه الصباحي..أخذت حفنة من النعناع البري وهمست للورق الأخضر بشيءٍ ما..ثم نثرته في الماء فاعترته موجة غليان..ابتسمت ..تعرف دائما متى سيغلي الماء..تشكلت سحابة النعناع على وجه الماء فارتعدت..وجمت..طل عليها وهي تناوله كأس الشاي الأسود..أحس ان بها شيء مختلف..لم تجب تساؤلاته..ثم وبصوتها الرخيم قالت ..
-لا تخرج للحقل اليوم يا ابن عمي..
-لم يا غالية..
-لا تخرج وحسب..
-دعي عنك الوساوس..
قام لحمامه فتحركت الأرواح الساكنة في النار وتطايرت السنة اللهب فأطفأت هي المرجل..وأخذت تسكب على شبابه المفتول قطرات الماء التي تشبثت بظهره المفصل بشغف..أشعلت بخور (الجاوي)..وحضرت له زوادة النهار ..بضع تمرات قرأت عليها أيات الحفظ وبعض الإذكارات وخبزة سمراء كلونه الجميل..ثم وعلى غير عادتها ارتمت في صدره فأحتضنها وقال لها ..
-سأعود..
هلت بشائر النور وزقزقت عصافير الحقول في طريقه..لمح الصيادين عائدين بأغنياتهم الهادرة ورائحة الملح الأليفة تعبق بالطريق..مُختلطة بهجس روائح الخبز الطازج من الفرن القريب..قرأ السلام على العابرين ونادى بالصباحات البهية..لخطوته تيقظت البراعم البكر..وألتف الخزامى المنثور في الطرقات على نفسه متتبعا قوامه الفارع وهو يحمل فأسه بخفة غصن ٍ أخضر..يتذكر الغالية فيشعر بأنه أسعد رجلٍ على أرض الديار..ها هو حقل ابيه المسافر للحج مع أخيه الأكبر يبدو لعينيه لامعا وجميلا..كم هو فخور بمزرعتهم الصغيرة..اخيرا تمكنوا من شراء قطعة ارضٍ خاصة بهم وبثمن بخس..لا بد انهم محظوظون..اليوم هو يومه الأول في حرث ملكه الخاص..دخل الى البوابة المشغولة من سعف النخيل..تجول قليلا ..وصل الى عين الماء الرقراقة..أهم ما يميز هذه الأرض ان بها عيناً لم تنضب أبدا..ما هذا أنه يسمع صوت غناءٍ يسلب الفؤاد..اقترب أكثر ليرى اوضح فالشمس لم تشرق بعد..فإذا بآية من الجمال المكتمل تقف الى النبع عارية وتناديه..شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..نادته باسمه فاستغرب..لصوتها رنة ساحرة ..اقترب اكثر وكل ما فيه ينبض..ظهرت له عينا الغالية..تراجع..نادته العارية ثانية فأقدم..وقف مبلبلا لا يعرف ماذا يفعل..أرسلت شعرها المنساب للخلف فتبدى عُريها ساطعٌ وصاعق..تيارٌ فتنة أودى به..قالت له..خاتمي سقط في النبع هلا أحضرته لي..لم يستطع الا الإمتثال..اقترب ثم ابتعد ثانية فعاجلته قائلة سأمنحك نفسي بعد ان تُحضره..لم يعد يرى الا جسدها المنساب كما لم ير من قبل..كاملٌ ومتسق ..مقوسٌ وخاضع ..ذهب للغطس بحثا عن خاتمها..وأشرقت الشمس..
أذن المغرب والغالية لا تفتأ تسكن للنوافذ تترقب صوت سلامه على الجيرة ولم يأتِ حتى انتصاف الليل..استعانت بالعشيرة في البحث عنه..لم يره أحد منذ الصباح..لا أثر له..
...
الفلاحات اللواتي يحضرن سلال التمر في مواسمه ..يتحدثن عن شابٍ يلاحق فتاة عارية في مزرعة تُدعى (الهمال)*..كلما بدأت تباشير الفجر سمعوا غناءها وصوت أنين شابِ يغرق..
يقلن ايضا وهن يساومن على السلال أن الغالية رُزقت بصبي وهجرت ديارهم ولم يُرى طفلها في الناحية أبدا..كما أن هناك وسط المزارع الكثيرة..أرضٌ صغيرة بها نبع لا ينضب..مُخضرة تماما ولا فلاح لها معروضة ً للبيع بثمنٍ بخس..


* الهمال..المزرعة المهجورة المهملة التي لا فلاح لها..
.
.

وقراءة لـ(عبدالواحد اليحيائي)..


كوثر كعادتها قاصة،
هي مشغولة بالأسطورة..

مشغولة بها وأيضا بالإنسان وآلامه حين تكتب سواء في (الهمال) أو غيره من النصوص..
الإنسان بهمومه اليومية، وأشيائه الصغيرة، وعوالمه مع الأشخاص والأفكار في ظل شبكة العلاقات التي تربط ذاته بالآخرين، والنخيل والبحر والبسطاء من الناس هم شخصيات النص عند هذه القاصة.

ما الذي يرد على الذهن حين نقرأ الكلمة – أسطوره - ؟!!
السطر في الكتابة..
و(السطار) في العامية بمعنى (الصفعة)..
والاستقامة قد ترد أيضا..
والعظمة المرهبة (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا)..
والأكاذيب المتتالية (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين)..
تلك بعض المعاني المترادفة..
أي المعاني المتغيرة حسب السياق الذي تجئ فيه وإن كان اللفظ واحدا في الغالب..
ولعل السطر المكتوب عبر التاريخ وقدرته على الإيحاء صدقا وكذبا هو الخيط الذي ينتظم هذه المعاني جميعا.

والأسطورة شيء غير الخرافة..
لأن مدار الأسطورة في الغالب على حقيقة محرفة..
ومدار الخرافة على كذبة متحققة إن في العقل أو النقل..
مع الأسطورة نحن في حضرة إنجاز نحلم به وقد يكون..
ومع الخرافة نحن في محضر أمنية لا تكون..
الأسطورة كذبة إيجابية..
والخرافة كذبة سلبية.

تفسر الأسطورة روح الأمة في بواعث أعمالها..
كما قد تفسر بواعث عقلها حين ينشئ ويقرر مستلهما من الصواب والخطأ بين الخرافة والأسطورة.

يكفي تعريفا بالاسطورة.. ولنعد إلى أبطال النص: الغالية، وابن عمها، والعارية على طرف العين التي لا تنضب أبدا (ولنلاحظ أن القاصة لم تقل أنها جنية)، والهمال (المزرعة المهجورة كما شرحت القاصة لاحقا)، والغالية امرأة محبة لزوجها، مشغولة بتفاصيل حياته، مهمومة بهمه، قد يشغلها الوسواس القصير حتى تأمر بلطف:

-لا تخرج للحقل اليوم يا ابن عمي..
-لم يا غالية..
-لا تخرج وحسب..
-دعي عنك الوساوس..


ونحن خلال هذا الحوار كله مشغولون بالتفاصيل الصغيرة: النعناع البري وورقه الأخضر وسحائبه، قطرات الماء المنسكبة على شباب مفتول، بخور الجاوي وزوادة النهار.. الخ. تفاصيل تضعنا (في جو) القصة، وتملؤ أنفسنا بالرحمة والمحبة المنبعثة من قلبين صغيرين، أحدهما مشغول بالحبيب ممثلا في إنسان جميل، والآخر مشغول بالحبيب ممثلا في أرض تملكها للمرة الأولى فهي كيانه وأمله وحلمه الجميل بعد سنوات انتظار:

ها هو حقل ابيه المسافر للحج مع أخيه الأكبر يبدو لعينيه لامعا وجميلا..كم هو فخور بمزرعتهم الصغيرة..اخيرا تمكنوا من شراء قطعة ارضٍ خاصة بهم وبثمن بخس..لا بد انهم محظوظون..اليوم هو يومه الأول في حرث ملكه الخاص..دخل الى البوابة المشغولة من سعف النخيل..تجول قليلا ..وصل الى عين الماء الرقراقة..أهم ما يميز هذه الأرض ان بها عيناً لم تنضب أبدا..

وهنا ترد علينا مفاجأة..
الشخصية الثالثة في النص..

أنه يسمع صوت غناءٍ يسلب الفؤاد..اقترب أكثر ليرى اوضح فالشمس لم تشرق بعد..فإذا بآية من الجمال المكتمل تقف الى النبع عارية وتناديه..شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..نادته باسمه فاستغرب..لصوتها رنة ساحرة..

هل هو الإنسان في مواجهة الفتنة..؟!!
وعلينا أن لا ننسى أن الفتنة واقفة على عين لم تنضب أبدا..
عين الرغبة مع وجود أمل جميل يتمثل في الغالية، إلى بحث عن حلم (ولنا أن نقول وهم) أجمل متمثلا في المرأة العارية التي تغني بصوت عذب، داعية ابن العم للهبوط في عين لا تنضب أبدا، ونعلم أن ابن العم قرر النزول إلى العين لأنه رغب في المكافأة:

..قالت له..خاتمي سقط في النبع هلا أحضرته لي..لم يستطع الا الإمتثال..اقترب ثم ابتعد ثانية فعاجلته قائلة سأمنحك نفسي بعد ان تُحضره..لم يعد يرى الا جسدها المنساب كما لم ير من قبل..كاملٌ ومتسق ..مقوسٌ وخاضع ..ذهب للغطس بحثا عن خاتمها..وأشرقت الشمس..

ونعلم إذ نواصل القراءة أنه لم يعد..
وأن الغالية انتظرت كثيرا وهي حبلى بطفل لم ير أباه ابدا..
ونعلم أن الفلاحات ما فتئن يتحدثن عن شابٍ يلاحق فتاة عارية في مزرعة تُدعى (الهمال)*..كلما بدأت تباشير الفجر سمعوا غناءها وصوت أنين شابِ يغرق..

وينتهي المشهد على مزرعة مخضرة دائما كقلب الإنسان حين يحب..
ونبع لا ينضب كأمله كحلمه وأمله الخالدين..
وهمال معروض للبيع ولا من مشتري كخيبة الرجاء في حلم لم يتحقق.
همال هو في واقعه أضغاث أحلام.

كل ما سبق في لغة سلسلة جميلة، وسرد متتابع كل ما فيه يغري بالمواصلة، وحديث يرويه الراوي فتسمع وترى وتشم أيضا، فأنت مع القاصة في قلب الحدث، في البيت، وفي الطريق إلى المزرعة، وأمام البئر، تتأمل جمال الغالية، ويشغلك جمال الفاتنة، وقد تعقد المقارنة بين الغالية والفاتنة عند البئر وتحتار كما احتار ابن العم، ولعلك تدعه وتعود إلى الغالية إن لم يغرك أن تمنحك العارية الفاتنة نفسها، وإن لم تنادك تلك العين التي لا تنضب، وذاك كله بلا شك قدرة تجعل من القصة حياة، ومن الحياة فكرة، ومن الفكرة مسؤولية تجعلنا بعد القراءة غيرنا قبلها، وذاك من مهام سرد قصصي قصير بلا شك، وقد أحسنت القاصة مهمتها كأجمل ما يكون الإحسان.

هل من ملاحظات..؟!!
لا بد...
لكنها قليلة.

فقد كنت حقا سأكتب أن الوصف هنا هزيل ورجعي أيضا:

شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..

لكني تراجعت، اليست البلاغة مراعاة الكلام لمقتضى الحال، وأي وصف نرتجيه أجمل من هذا في بيئة كبيئة النص؟ الوصف هنا هو ابن بيئته وذاك جمال آخر، أن يتحول القاص إلى قلب بطله فيصف ما يراه بعين البطل لا بعين الراوي، وقد فعلت القاصة هنا ذلك وأحسنت، فالملاحظة هنا هو صد للملاحظة.

وتبقى أشياء صغيرة قد تحيلها القاصة إلى فقه التصحيح قبل النشر:

- ارتمت في صدره فاحتضنها.. وهي تقصد بالتأكيد ارتمت على صدره..
- مختلطة بهجس روائح الخبز.. ولعل الاصح أن هاجس تجمع على هواجس..
- ولم يرى طفلها في الناحية أبدا.. والصواب: لم يُرَ..
- وهناك بعض الجمل التي أرى أنها بحاجة إلى إعادة تركيب مثل: اقترب أكثر ليرى أوضح..

أشكركم جميعا.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 01-09-2005, 23:16   #4
عنود
بقـايا حُلـم
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عنود
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

استاذ عبدالواحد

مذهل ماكتبت

سنستفيد جداً من كل قصة وكل قراءاتك وتحليلك حولها

انا شخصياً سأظل متابعة حتى اصل الى ماأصبوا إليه

أطمح بالتطور معكم

دمت بسعادة

التوقيع: عن أبي هريرة ( ما من صدقة أحب إلى اللَّه من قول الحق ) أخرجه البيهقي
وإليه يشير قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ سورة النساء آية 135 .
عنود غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 06-09-2005, 11:05   #5
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
الأخت عنود..

أشكر لك متابعتك وحرصك..
والتطور مرهون بالممارسة الدائمة..
لنكتب ولنخطئ، ثم لنعد الكتابة مرة بعد مرة،
وكلما شعرنا أننا مازلنا نتعلم ستكون كتابتنا أجمل.

تحياتي لك.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 06-09-2005, 11:12   #6
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
النص..

أغنية حب
قصة قصيرة
الطيب صالح..



كنت دائما أود أن أغني، لكن صوتي كان نشازا، ولم أكن أستطيع أبدا أن أجيد نغمة واحدة، لسوء حظي، إلى أن لقيتها، قالت: إن أردت فعلا أن أغني، فعليّ إذن أن أغني، مهما كان وقع صوتي.

قلت: لكن صوتي نشاز.

قالت: غنّ عن الحب، الناس تستهويهم أغاني الحب الحزينة.

وهكذا ابتدأت.. لم يحفل الناس بي أول الأمر، ثم أخذوا يصغون، بل أن بعضهم أحب أغانيّ، كانت عيناها خضراوين وكان فمها واسعا وحاجباها نبيلين مقوسين بروعة، كانت تحبني وتحب العالم كله، ما عدا اليابان قتل اليابانيون أخاها في الحرب الأخيرة.

ومع هذا فقد تركتني لأنني ترددت.

أمر محزن، نوعا ما، لأني وإن كنت أحب أن يسمع الناس غنائي، فإنني أغني لها خاصة.
.
.
وحوار ..

.
.
ومع هذا فقد تركتني لأنني ترددت. ...
.
.
- تردد في ماذا؟!! ..غنى .. وأحرز بعض النجاح؟!!
- اسأل الطيب صالح..
-صحيح في رأيك تردد في أيه؟!!
- ربما تردد فلم يواصل..أو لعلها كانت تعرف أنه يغني لها فلما توقف فهمت أنه متردد في الحب..أو..يعني لكل قارئ تفسيره.
- هل تصدقين الطيب صالح؟!!
- كيف يعني؟
- يعني هو أسمر (صراحة اسود) ثم يأتي ليزعم أن تلك التي (كانت عيناها خضراوين وكان فمها واسعا وحاجباها نبيلين مقوسين بروعة، كانت تحبني..)..
- اصدقه اكثر مما اصدقك ولا تزعل..لأنك تصرفت في جملته حين حذفت الجملة التالية.. وتحب العالم كله، ذات العيون الخضر.. لماذا لم تفترض أنها تتحدث عن حب إنساني عام، لماذا غصت في مفهوم فردي؟!!..ثم هناك خطأ آخر..
- وهو ؟
- لماذا تخلط بين المبدع وأبطال عمله؟!! وهل تعتقد أن شكبير هو الملك لير أو أن العقاد هو ساره أو أن عبدالرحمن منيف هو بيتر ماكدونالد؟!!
- لا.. أبدا..إنما قصدت أن البطل من وحي تجربته..
- هنا أيضا المبدع يحاكي مشاعر آخرين، وجمال عمله يعتمد على قوة إتقانه لوصف ما يجري وجمال محاكاته..المبدع لا ينقل لنا ما يراه بل كيفية احساسه بما يراه.. يجعلنا نحس قبل أن نرى ونسمع..
- قلبتيها مدرسة..
- مش أنا ..بل سوء فهمك.. .. وظلمك للطيب صالح..هل قرأت موسم الهجرة إلى الشمال؟!!
- نعم..رواية متخلفة..
- لن تستطيع استفزازي ..لكن لعلك رأيتها كذلك لأنك قرأتها بمقاييس نقدية مختلفة..وهذا خطأ ثالث..
- نعم يا ست!!..
- طبعا..تعرف الأدب مثل التاريخ..نسيء إليه حين نقرأه بعيدا عن مكانه وزمانه..داخل النص وخارج النص..في عقل المبدع وفي كيانات الشخصيات..و..
-
- .
- .

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 12-11-2005, 13:35   #7
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
مثلث متساوي الأضلاع (قصة مترجمة)
ماريو بنيديتي
مجلة العربي الكويتيه


مضى على المحامي (أرسينيو بورتاليس) والممثلة المعتزلة (فاني أرالوثي) اثنتا عشرة سنة من الزواج السعيد. منذ البداية, طلب الزوج من (فاني) اعتزال التمثيل, لأنه فيما يبدو, لم يكن متحرّرًا بالقدر الكافي ليحتمل مشاهدة زوجته الجميلة ليلة بعد أخرى بين أحضان وقبلات آخرين على خشبة المسرح.

بذلت هي مجهودًا كبيرًا لتلبية رغبته التي تؤمن أنها شيء غبي, وتنبع عن إحساس مرضي بالرجولة, وتفتقد أدنى حسّ مهني. (من ناحية أخرى), كان قد أضاف الزوج إلى تلك الرغبة شيئًا آخر يبرر طلبه لاعتزالها, (لا أعتقد أن لديك المواهب الكافية لتنجحي كممثلة مسرحية, لأنك شفافة أكثر من اللازم, في كل دور تطغى شخصيتك الحقيقية على الشخصية المسرحية, في الوقت المطلوب فيه أن تطغى الشخصية المسرحية على شخصيتك الخاصة, أنت شفافة أكثر من اللازم, والممثل الحقيقي يجب أن يكون غير شفاف كإنسان, وما لم يكن كذلك فلن يكون قادرًا على أداء دور شخص آخر, مهما ارتديت ملابس (أوفيليا), أو (إليكترا) أو (ماريان بيريدا), فإنك ستكونين دائما (فاني أرالوثي). أنا لاأنكر أن لديك مواهب فنية, ولكن يجب أن توجهي مواهبك نحو الرسم أو الأدب, أي, لممارسة فن تكون فيه الشفافية فضيلة وليست عيبا).

تركت (فاني) زوجها يعرض وجهة نظره, إلا أنه لم يقنعها أبدا. وإذا كانت قد تخلت عن عملها كممثلة, فذلك من أجل الحب, لم يكن هو يفهم ذلك أو يقدره على هذا النحو. مع ذلك, فإنه خلال الحياة اليومية, الخاصة, كانت (فاني) منظمة, قنوعة, تكاد تكون ربة بيت مثالية.

ربما كانت ربة بيت أكثر من مثالية بالنسبة للمحامي د. (بورتاليس). كانت خلال العامين الأخيرين للمحامي علاقة نسائية أخرى, سرية ومنتظمة, بامرأة مشبوبة العاطفة, متناقضة, وكما لو كان كل هذا غير كاف, فقد كانت جذابة جدا.

استأجر (بورتاليس) شقة صغيرة على بعد ثماني نواصٍ من بيته, كمكان مناسب لتلك اللقاءات, كان مهتما بتنظيم أسباب ذهابه إلى مخبئه لأسباب مهنية كان عليه الذهاب إلى بيونس أيريس مرة واحدة أسبوعيا, ولا يغيب إلا ليلة الثلاثاء فقط, ويطلب من (فاني) ألا تهاتفه خلالها, ولكن تحسبا لشكوكها, قدم لها رقم تليفون زميل من العاصمة, مع تعليمات محددة: (آه أرسينيو? في اجتماع أعتقد أنه سيمتد إلى وقت متأخر). إلا أن (فاني) لم تهاتفه أبدا.

هي, التي كانت تعرف احتياجات زوجها أكثر من أي شخص آخر, كانت ترتب له حقيبته الصغيرة وترسل في طلب التاكسي. و(بورتاليس) كان يهبط من التاكسي بعد ثماني نواصٍ, يصعد إلى الشقة السرية, يتخفف من ملابسه, يعد مشروبا, يشعل التلفزيون, في انتظار (راكيل) التي كانت هي الأخرى متزوجة, والتي يجب أن تنتظر ذهاب زوجها في رحلته الأسبوعية للتفتيش على أملاكه. في الحقيقة كان لقاء الثلاثاء بناء على رغبة (راكيل), لأنه اليوم الذي اختاره زوجها الثري لمراقبة محاصيله الزراعية. (وليترك لنا الفضاء طليقا), كما كان يقول أرسينيو.

عندما تأتي (راكيل) بعد طول انتظار, يتناولان العشاء في البيت, لأنهما لا يستطيعان المغامرة بأن (يشاهدا معا في السينما أو في أحد المطاعم. بعدها يأتيان الحب بطريقة مغايرة, شبابية ومنطلقة, كما لو كانا مراهقين. يشعر (بورتاليس) كل ثلاثاء وكأنه استعاد حيويته من جديد. يبذل جهدا مضاعفا كل أربعاء ليمارس عادات البيت الشرعية, بنقاء وطبيعية.

عند العودة, لا يعرف لماذا, يبالغ في اتخاذ الاحتياطات, يطلب تاكسيا, يطلب منه أن يتركه في المطار, وبعدها بقليل, يستقل تاكسيا آخر ليوصله إلى البيت. خلال هذا الاعتياد, كانت (فاني) تسأله عن الرحلة, فكان حينها يخترع تفصيلات صغيرة عن لقاءات العمل المملة مع زبائنه في بيونس أيريس, مؤكدا دائما على مدى تشوقه للعودة إلى البيت.

وأخيرًا جاء الثلاثاء الذي تكتمل فيه السنة الثانية من اللقاءات السرية مع (راكيل), واستطاع (بورتاليس) الحصول على عقد من الزهور الصغيرة الملونة, أرسل في طلبه من إيطاليا عن طريق أحد زبائنه, وهذا زبون حقيقي قدم له خدمات مهمة. بينما كان (بورتاليس) هائما في شقته السرية: أعد ما يشربه مع (راكيل), استلقى على الأريكة, منتظرًا وصولها بشوق أكبر من تشوّقه لرؤيتها في المرات السابقة.

وصلت هي متأخرة عن المعتاد, لكنها عللت تأخيرها بذهابها لشراء هدية بمناسبة الذكرى السنوية للقاءاتهما: رباط عنق حريري, مزركش بخطوط زرقاء على أرضية رمادية. عندها قدم لها (أرسينيو بورتاليس) علبة العقد. أعجبها العقد جدا. قالت: (سأذهب إلى الحمام للحظات قليلة, وهكذا أجرّب العقد وأرى إن كان يليق بي), قالتها بطريقة تدل على أنها مقدمة لأشياء أخرى, قبلته برقة وحرارة. وكما هو طبيعي, اعتبر هو هذه القبلة بداية لليلة رائعة.

إلا أن (راكيل) تأخرت في الحمام, وبدأ هو يشعر بالقلق, نهض وتوجه نحو الباب المغلق وسأل: كيف الحال? هل أنت بخير? قالت هي: (أنا بخير جدا....سأكون معك حالا).

دون قلق, ولكن بتشوّق لما سيأتي بعد تلك البدايات المشجعة, عاد (بورتاليس) إلى الجلوس على الأريكة. انفتح باب الحمام بعد خمس دقائق, ولمفاجأة الرجل المنتظر, لم ينفتح الباب لتخرج منه (راكيل) بل (فاني أرالوثي), زوجته, وحول عنقها العقد الفلورنسي.

(بورتاليس), المصعوق من المفاجأة, لم يفعل سوى الصراخ: (فاني!), ماذا تفعلين هنا? هنا?, أكّدت هي, (حسن, ما كنت أفعله كل يوم ثلاثاء, يا عزيزي). جئت لأراك, أعيش معك الحب, أحبك وأكون محبوبة منك), وكما أن (أرسينيو) ظل فاغر الفم, أضافت (فاني): (أرسينيو أنا (فاني) و(راكيل) أيضا. في البيت أنا زوجتك (فاني.أ.دي بورتاليس), لكن هنا أنا الممثلة السابقة (فاني أرالوثي), أي أنني في البيت شفافة وهنا متصنّعة, بفضل مساعدة الماكياج, وباروكات الشعر ونص جيد, بالطبع).

(راكيل), غمغم أرسينيو بورتاليس.

(نعم, (راكيل), ألم تنتبه إلى ذلك? لقد خنتني مع نفسي, والآن وبعد عامين من الحياة المزدوجة, عليك أن تختار. إما أن تطلقني أو تتزوج مني, لست مستعدة للاستمرار في تلك الحياة, وهناك شيء آخر, بعد هذا النجاح الدرامي, بعد عامين من ممارسة العمل في مسرحية ناجحة, أخبرك فقط أنني سأعود إلى العمل في المسرح).

(صوتك) غمغم أرسينيو (هناك شيء غريب في صوتك, ولا حتى لون عينيك هو لون عينيك).

(بالطبع, وإلا لماذا اخترعوا العدسات الخضراء? كنت أسمعك دائما تقول إنك معجب بالفتيات ذوات العيون الخضراء).

(ملمس بشرتك, بشرتك لم تكن هي نفسها).

(آه لا, يا عزيزي, أشعر بالأسف لخداعك, هنا وهناك كانت بشرتي هي نفسها, فقط يداك كانتا مختلفتين. يداك كانتا تتخيلان لي بشرة أخرى, على أي حال, ولا حتى أنا أعرف أيّهما بشرتي الحقيقية: هل هي لفاني أم لراكيل, يداك لهما الكلمة الأخيرة).

أحكم (بورتاليس) قبضته, مشوّشا أكثر منه غاضبًا, ومنهارًا أكثر منه نزقا.

قال بصوت مختنق: (لقد خدعتني).

قالت فاني / راكيل: (بالطبع)
.
.
وحوااااار..
.
.
- أعجبتك؟
- جدا، العنصر الثالث تقصد على طريقة روديارد كبلنج؟
- يعني..
- لكن كبلنج ما كان يقصد هذا المعنى، هنا لا يوجد عنصر ثالث، عشيق أو عشيقه، حقيقة أو خيال يرتبط به أحد طرفي العلاقة المشروعة، هنا زوجة وممثلة قديرة، أحببت إنهائها للقصة بكلمة (بالطبع)، أحسست أنها تنتقم لي.
- تنتقم لك، وأنت مالك؟!!
بعدين العنصر الثالث جاءت الإشارة إليه في عنوان القصة كما ترين:
مثلت متساوي الأضلاع: زوج وزوجه وعشيقه، في النهاية تطابق رأسي المثلت: الزوجة والعشيقة.
- أنا مالي، اقولك: أحسست أنها انتقام انثوي من كل الرجال الخونة عبر (القراء).
- وما الذي أعجبك اكثر شيء؟
- أحببت التعامل مع الجنس في النص بهذه الطريقة الراقية، لم أقرأ كلمة بذيئة واحدة، ولم أشعر بأي نشوة جنسية مفتعله لا مبرر لها، هذا مع أن القصة كلها تتحرك في محور جنسي.
- وتمثيلي.
- لا التمثيل كان أداة لتحقيق هدف، ربما لكي نتفهم أكثر كقراء كيف أن المحامي القدير لم يستطع اكتشاف زوجته رغم مرورها أمامه وبين يديه لسنتين متواصلتين، ربما هو تمثيل متقن، وربما أصيب الزوج بعمى ألوان بسبب التجديد والتغيير كما يتصوره، وربما العوده إلى روح المراهقة كما كان يفعل ومن ثم يعتقد.
- لكن سؤال خارج عن النص، لم فعلت ذلك في الخارج وإن باسم التمثيل، لم لم تحاول ذلك في البيت؟
- ربما تعرف زوجها، لعله على طريقة شاعرنا الفرزدق: ما أجملك في الحرام وما أقبحك في الحلال، هو كان يطلب تغييرا شاملا، حتى الصوت وملمس البشرة والشعر وطريقة اللبس، والمعاشرة الزوجية أيضا.
-هل تصنفينها من القصص الاجتماعي؟
- لا، اصنفها إن كان لا بد من تصنيف ضمن القصص الإنساني، تلك النوعية من القصص التي تتحدث عن دواخل الانسان وأفعاله وتصرفاته مدفوعا بالغريزة ومجبولا على الرغبة في التغيير، على فكره..
- نعم.
- هل تخيلت الموضوع بطريقة مختلفة، بمعنى أن يكون العنصر الثالث كما تقول عشيقا، بمعنى أن المحامي تحول إلى ممثل وتحولت هي إلى طبيبة تتعامل مع عشيق يثبت في النهاية أنه زوجها؟
- وهل من فارق؟
- نعم وفارق كبير لكنكم لا تفهمونه معشر الرجال..
- هاته يا... معشر النساء.
- المرأة حين تخون زوجها - المعافى من الناحية الجنسية - فهي لا تخونه لأنها ترغب في تحقيق متعة إضافية، بقدر ما تسعى للإنتقام منه لسبب مختلف: الرد على إهانه، المجازاة بالمثل، ثم هي لا تعبأ كثيرا بالاحتياطات كما يفعل الرجل.
- نعم، ناقصات عقل ودين حتى حين يفكرن في الخيانة..
- مش قصدي..
- ..
- قصدت أنه قد تتوافر عناصر الخيانة عند المرأة لكن عنصر التغيير ليس هو العنصر الأهم أو بتعبيرنا النسائي (فراغة العين) ليست هي العنصر الأهم كما هي الحال مع الرجل، الذي بحافز التغيير يدع زوجته وقد تكون من أجمل النساء وأكثرهن أنوثه ليمضي ليلته مع خادمه بنجلاديشية.
- خادمة بنغلاديشية، الحمد لله خادمتنا اندونيسية.
- أخطر، يمكن تسحرك..
_ ..
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 21-11-2005, 14:45   #8
نورة العجمي
شـــاعرة
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ نورة العجمي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد




والله ياأستاذنا مثل هذه المواضيع الممتعه و المفيده جدا
تستحق تثبيتها فتره طويله ليتسنى للجميع الأهتمام بها و قراءتها
ولكي يبحر فيها من يحب هذا الفن الأدبي الرائع

كل الود والشكر استاذي



التوقيع: https://www.instagram.com/p/_VLOGDoF...en-by=noouf_mt
انستجرام كاتبتنا
نوف الثنيان (@noouf_mt) • Instagram photos and videos



noouf_mt


نوف الثنيان
قاصّة / كاتبة ..الكتابة سفر الذات منها إليها لايرافقها إلاّ من يؤمن بها ويُدرك أن للنبض-هُنا-حُبّا وغصوناً تعرّش سلاما www.twitter.com/Noouf_M
نورة العجمي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 20-01-2006, 00:49   #9
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
الاخت نوره..

أشكر لك حضورك ومتابعتك الدائمة..
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 20-01-2006, 00:50   #10
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
وحدة الوجود السردية
قراءة في فلسفة السرد المعاصر
شريف هزاع شريف (كاتب من العراق)
مجلة الواح


السرد والوجود

تبدو ممازجة غريبة أن يجتمع مصطلحان متباعدان جوهرياً في المفاهيم والمنطلقات وفيما يثيرانه من جدل وتساؤل فوحدة الوجود* PANTHEISM مصطلح أثير حوله كثير من الانتقادات والآراء لما يتضمنه من تعقيدات والتواءات لغوية مشكلاً حوله منظومة تأويلية دفاعية للتوترات الفكرية التي يتضمنها، ويرجع هذا المصطلح بتنظيره وتكوينه النهائي لمحي الدين بن عربي (560هـ-638هـ) بينما يحتل السرد NARRATION المركز الأول في الدراسات النقدية الحديثة التي بدأت بها المدرسة الشكلية وأبحاث دي سوسير اللغوية ومن جاء بعده من باحثين في علم الألسنية حتى وصلت إلى تودوروف الذي ابتكر مفهوم علم السرد حيث اتسع "ليشمل بدلالته الحكايات الشعبية، الأساطير، الأحلام، الأفلام، المسرحيات … وهو ببساطة موجود حيث توجد الحياة " (1) وكان لمجموع الأفكار والاطروحات النقدية الدور في إنضاج مفهوم النص TEXT الذي يتضمن البنية، السرد، الشكل، الأسلوب … الخ، فالنص فعل وجودي يستخدم الكتابة لتأطير عالمه وعرض الأشياء من خلال الجمل المتوالية المتماسكة التي تتحول عبر الأثر التاريخي إلى وجود يتمثل بالخطاب DISCOURS حيث تكمن وحدة الوجود السردية في العلاقة التي يرتبط النص فيها بالخطاب راصدةً الوحدة الداخلية التي تجعل من العالم سرداً متواصلاً ومن السرد عالماً لا ينغلق بأطر الكتابة بل شبكة من النظام الاتصالي المتعدد الأشكال حيث يتحول السرد إلى مرآة تعكس الوجود برموزه وإشاراته وعلاماته المشفرة باللغة، الكلام، الصورة، الخ وهذه العملية الانعكاسية التي تتميز فيها وحدة الوجود السردية تجعل من الذات والموضوع وحدتين انقلابيتين قد تأخذ شكلاً ثالثاً تمتزج فيه الذات بالموضوع بلا فواصل لتربط الخارجي – الوجودي، بالداخلي – الذاتي، بشكل يقترب من مقررات المدرسة الظاهراتية PHENOMENOLOGY التي تدرس الأشياء من خلال فعل الإدراك وموضوع الإدراك فهذا السرد يرى أن الأشياء الخارجية على علاقة ظاهراتية مع الأنا من خلال تمثلها في الوعي هذه العلاقة ترسم آفاق الموضوع والذات معاً(2). وإذا كانت هذه الآراء تشكل منظومة فلسفية مجردة فإنها أخذت طابعاً أدبياً في الشعر وفي الرواية يمثلها (السيد بالومار) بطريقة قراءته التأملية للعالم والمحيط بفلسفة تحاول إبراز عالمه الداخلي من خلال العالم الخارجي ومن ثم استكشاف العالم من خلال وقوف الذات كمرآة أمام الموجودات. فبالومار يفلسف العالم وفق الطرق المتاحة أمامه حتى وان كانت غريبة عنه كاستخدامه الطاوية بوصفها فلسفة تأويلية للوجود(3). فإيتالو كالفينو يرسم لبطله المتأمل خرائط عشوائية لقراءة الذات والعالم مكوناً سرداً متواصلاً لا يخرج من دائرة وحدة الوجود السردية التي ترسم الإنسان من خلال الشيء المحيط (الخارج) فيتسرد العالم بجدلية الذات والموضوع محولاً أطراف المعادلة إلى كتلةٍ مموهة قابلة للتغيير والتبدل الدائم أو ما تسمى بفنطازيات التحول(4) على الرغم من أن هذا التحول ينقسم إلى فلسفتين متناقضتين الأولى تتمثل بالفيلسوف فخته الذي يرجع كل شئ للانا، ونقيضه الفيلسوف شيلنج الذي يرى العكس(5) إلا أن السرد الحديث لا يلتزم بمقررات فلسفة ما بحذافيرها بل يتخذ من التحول والتغير فلسفة مركزية له حتى نجده في بعض الأشكال ينحو منحاً لا عقلانياً كأسلوب يعبر عن العقلانية، وهذا ما نجده واضحاً في الأدب المعاصر الذي دفع النظريات الأدبية الحديثة أن تنحى منحاً مماثلاً للأدب مكونةً مناهجاً غريبة في التحليل النقدي، وهذا المشروع النقدي دفع بدوره السرد أن ينفتح للعالم وان يخرج من أطر الشكلانية الروسية التي تنظر إليه كنظام للحكاية أو "مجموعة نوعية من الوقائع " (6) فلم يعد الموضوع الحكائي ديدن السرد بل اصبح العالم قابلاً للتسرد بكل موجوداته وأشكاله وأصبحت الفلسفة سرداً للفكر الإنساني كذلك علم الاقتصاد الذي ينظر إليه كسرد للحاجة والندرة المتصارعة مع العرض والطلب وأصبحت كل الأفعال في الوجود تمثل سرد الأنا المنطوية في العالم.

السرد والأدب

إن الأدب الإنساني منذ ظهوره كألواح سومرية، وملاحم إنسانية (ملحمة كلكامش، الملاحم اليونانية) وصولاً إلى جيمس جويس وصموئيل بيكت ليس سوى عملية حكائية (سردية) أو "بوصفه موضوعاً يعتمد على المرسل – الراوي – والمرسل إليه – المروي له – والعلامات الشكلية المميزة للراوي والمروي له"(7). وقد تمثل هذا الشكل السردي في الماضي البعيد بتحويل الغرائبي أو السحري إلى واقع محكي ثم انعكست الصيغة في الأدب الحديث على يد استورياس وماركيز بتحويل الواقع إلى الغرائب بأسلوب سمي بالواقعية السحرية هذه التحولات التي في صميم السرد المعاصر جعلته لا ينغلق في النص المكتوب بل انفتح إلى المحكي الصوتي وما يحمله من تعابير وإيماءات، والصوري والإشاري وما يتشكل من كل هذا من صيغ استعمالية تعكس الفعل الإنساني المتعدد الذي لا ينتهي سرده في الوجود لان الإنسان "يسرد ذاته دائماً وهو الذي يبدع السرد "(8) فالسرد يحول كل شئ إلى رسالة MESSAGE فبطل جويس في يوليسيس يقوم بسرد وقائعه ويومياته الحياتية بزمن محدد اختزن أزمنة العالم وموجوداته حتى اصبح هو بدوره داخل السرد الوجودي(9) ونجد عند بيكت أسلوباً آخر مثله بطله مالون الذي جعل من العالم والمحيط هدفاً لتحديد الذات من خلال التذكر والتخيل والاكتشاف للوصول إلى الأنا المتداخلة بأشياء مثل المعطف وبأدوات المطبخ والحديقة وبالسكون …. الخ، ولصعوبة الأمر يعتقد مالون أن العالم غيبوبة يحاول النهوض منها من خلال أربع قصص واحدة عن رجل، الثانية عن امرأة، الثالثة عن جماد، والأخيرة عن حيوان(10) لكنه في النهاية يجد أن في هذه القصص الأربعة قد تحدث عن نفسه لأنه لم يستطيع فصلها من العالم حيث لا تملك استقلالية عن الأشياء وليس بمقدورها أن تشكل لها حقيقة جوهرية بحيث تحولت الأنا إلى سرد متوحد بالأشياء لا تملك ذاتيتها الأصلية لأنها شئ ضمن الموجودات التي تختفي في حالة البحث عنها كما يقول بيكت "انتهى البحث عن ذاتي فأنا مدفون في العالم"(11) فهي مدفونة في العالم لأنها في حالة الوحدة التي تتجه نحوها الذات في حقيقتها المجردة من ذاتيتها التي تفرزها هذه الموجودات التي تقف أمامها الذات بوصفها مرآة كونها "موجودة من خلال وعيها ومن خلال انعكاس هذا الوعي عن الأشياء(12) تظهر فيها الذات من خلال العالم والموجودات كذات مجردة من ذاتيتها كما هي عند جويس وبيكت وروب غرييه الذي كان له الدور الفعال في إظهار هذا السرد في رواياته وأفلامه وسيناريوهاته وشخصياته التي يمكن أن تكون أحرفاً فقط كما في روايته ستائر النوافذ الخارجية** ونجدها داخل رواياته تتحرك وفق معادلات جبرية معقدة ومتداخلة تضيع فيها الذات بتمفصلات الواقع الخارجي وتذوب الأشياء المحيطة بالذات بسرد قصصي لصقت فيه الأحداث كصور داخل الزمان والمكان المتقاطعين بين لحظات الحاضر والماضي فقط حيث أن الزمان الروائي لا يفصح عن حركته المستقبلية.

السرد والنقد الحديث

إن الإرث المتراكم للأفكار والمعطيات القديمة التي أفرزتها الحضارة الإنسانية شكلت الدعائم الأساسية للأيديولوجيات التي كان لها الأثر في تكوين الخطوط الخلفية للنظريات النقدية المعاصرة حيث تجاوزت الأشكال النقدية القديمة كما كانت عليه في القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي فالنظريات المعاصرة تضرب بجذورها إلى أفلاطون، أرسطو، افلوطين، الهرامسة وفلاسفة القرون الوسطى وصولاً إلى نيتشه وفرويد وهايدغر الذين يعتبرون الرؤوس الثلاثة في تكوين النظريات النقدية الجديدة التي ابتكرت مفهوم النص، الخطاب، السرد، التأويل، الشفرة، المتلقي.. الخ، ولم تنحصر في الأدب بل تعدته بدراسة الخطاب الاجتماعي والنفسي والسياسي على اعتبار أن العلوم الإنسانية ضمن وسائل الاتصال، وتأتي قدرة النقد المعاصر في التدخل بكل المجالات الإنسانية لمرونته المنهجية وشموله لمجموعة من الفلسفات المجتزئة كما أنها لا تستثني الأفكار الغنوصية واللاعقلانية في منظومتها إلا أنها تحيطها بالحداثة والعقلانية المعاصرة.

ينظر النقد الحديث إلى النص والسرد بشكل عام نظرة تأويلية تسهم في ربط الدلالات والعلامات الاتصالية اللغوية والفكرية بإشارات وعلامات تفسر البنى التحتية للنص محاولةً إيجاد المعاني الرئيسة لمحور النص وهذه المنظومة التأويلية تنظر إلى العلامات التي تختفي في المأكل، المشرب، الملبس، الايماءات، السلوكيات، الخ، كما هي عند بارت حيث ينظر إليها على كونها رموزاً وإشارات عالمية لها أصول تاريخية في الأسطورة والخرافة والحكايات الشعبية كما تداخلت في الشعر وفي الأدب بشكل عام حيث تتشكل كطرز قديمة متوارثة من اللاوعي الجمعي بتعبير يونغ وتظهر في الفعل الإنساني ومنه النص كسرد يؤطر حركتنا الفكرية المتنوعة التي تشمل الكلام، الكتابة، الإعلان، الدعاية، السلوك الفردي ووسائل الاتصال الأخرى فالنص المعاصر لا يحوي الحكاية كحكاية فقط بل كعالم واسع، ومن خلال قراءتنا له نجد أنه يتخذ أحياناً من العشوائية نظاماً لاختيار الرموز والعلامات وهذا ما يجعل السرد في أشكاله المتعددة ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما: سرد مفهوم. وسرد لا مفهوم. وتنتمي الكثير من السرديات المعاصرة إلى القسم الثاني التي لا يحتل اللوغوس دوراً فعالاً في مضمونها وقد تجسد غياب اللوغوس في أعمال جاك دريدا التفكيكية وتداخلت في الفلسفة التي هي في أساسها سرد لوغوسي على يد جيل دولوز وكاتاري بنظريتهما السطوحية(13) وأخيراً وجدت هذه الأفكار التفكيكية مكاناً في السياسة وفلسفة الهيمنة التي جسدتها كتابات فوكوياما وهنتنغتون حيث تحتل فلسفة الفراغ الصدارة عند هؤلاء المفكرين بعد أن سيطرت فلسفة اللوغوس اكثر من عشرين قرناً، ولم تستثنى فلسفة الفراغ من النقد والنقض على يد دريدا باعتبارها مركزية غربية لان نظريته التفكيكة تقوم على مفهوم اللامركزية، ومن خلال ما وصلت إليه نظريات النقد المعاصر التي أخذت منحاً مخالفاً لغايات الفكر الإنساني وهي في حقيقتها ردة فعل على اتساع السرد الجديد الذي لم يفهم بالشكل الصحيح مما دفع دريدا إلى تدميره كلياً وهذا ما أثر على تكوين النظريات اللاحقة التي لم تستوعب وحدة الذات والموضوع التي دعا إليها هيكل وهوسرل وكثير من الفلاسفة.

مخاطر السردية

إن ظهور وحدة الوجود السردية لا يعني أن يكون السرد إيجابياً في جميع أشكاله فقد يستغل السرد لطرح أفكار غريبة أو منطوية على أفكار نقدية سلبية وتكمن خطورة السرد في شموله للوسائل الاتصالية، اللغة، الرائي، السينما، المسرح.. الخ. وهذا ما جعل حصر السرد لصالح الإنسان أمراً صعباً حيث تقف بعض المؤسسات وراء إنتاج السرد الذي يؤثر في السلوك الفردي والجمعي، فظهور شبكة WWW العالمية يعتبر احدث النماذج السردية التي تتوسع يومياً ناقلة لنا المعلومات الصوتية، الصورية، الكتابية، التي تسيطر عليها المؤسسات التجارية ومنها السياسية وحتى السرية مما يجعل فرز هذه المعلومات أمراً في غاية الصعوبة ولا يخفى أن شبكة WWW هي أول نتاجات العولمة في مجال الإعلام التي تمهد للعولمة الاقتصادية والسياسية وهي أخطر النماذج السردية التي ظهرت في القرن العشرين كونها تبدأ حيث انتهى دريدا فكتاب صدام الحضارات*** لهنتنغتون سرد تفكيكي في فلسفة الهيمنة يهدف إلى تحويل الأشياء والعالم والأفكار إلى ماركة (أمريكية) وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال تفكيك (تدمير) الحضارات الكبرى والدول العظمى فهنتغتنون لا يقف حيث انتهى دريدا لان العولمة لا بد أن يكون لها مركز بعد تدمير كل المركزيات وقد تمثلت هذه الفكرة داخل الخطاب العولمي بمصطلح (القطبية الواحدة) التي تنهض على ركام الحضارات الآسيوية والأوربية فهنتنغتون لا يختلف عن فيلسوف التفكيك اليهودي الذي يرمي إلى تدمير الأفكار مستغلاً الموروث التلمودي والقبالي الذي يقف مختفياً وراء أفكار هذين المفكرين إلا انه واضح وجلي في العولمة التي تخطط إلى ضرب الأديان الكبرى (الإسلام، الكونفوشيوسية، البوذية، المسيحية) مع بعضها وقيام حضارة أمريكية جديدة لا يمكن أن تتمثل سياستها بأي من الأديان المذكورة بل بدين له خطاب مماثل لخطابها والذي نجده في النصوص اليهودية التي استفاد منها الاثنان أيما فائدة مما ينبئ بخطورة السرد القادم!؟.
-------------------

الهوامش:

* وحدة الوجود: مصطلح صوفي وفلسفي معقد جداً أثار حوله الكثير من ردود الفعل الدينية لما يضمنه من لبس في المفاهيم والمقررات. وهو فكرة فلسفية ترجع الكثرة إلى الوحدة، وأن المرآة تعكس صورة الشكل حيث تنظر وحدة الوجود إلى أن الشكل هو الحقيقة والصورة ليس سوى خيال.

** ستائر النوافذ الخارجية: رواية لـ (الن روب غرييه) ترجمها سعيد أحمد الحكيم نشرت في مجلة الأقلام العدد 11 السنة 12 / آب/ 1977.

*** صدام الحضارات: هو كتاب أطروحة العولمة لـ (صموئيل هنتنغتون) ترجمه طلعت الشايب 1998.

مجلة الثقافة الأجنبية – بغداد – العدد 2، السنة 1992، ملف السردية.

أدموند هوسرل: تأملات ديكارتية، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دار بيروت للطباعة 1958، ص74-75-161-162.

وراجع ايضاً: د.زكريا ابراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، القسم الأول: مكتبة مصر، ص331 – 335 .

إيتالو كالفينو: السيد بالومار، ترجمة ياسين طه حافظ، دار المأمون بغداد – 1989 .

مجلة آفاق عربية –بغداد – العدد 2–1992، حوار مع كالفينو(السرد الواعي لذاته).

راجع رجب بدبوس: ثلاثي المثالية، مكتبة غريب –مصر - 1977.

سلامة الخطيب: نصوص الشكلانيين الروس، دار التنوير –بيروت – ص31.

الثقافة الأجنبية (ملف السردية).

شاكر نوري: الجن والمتاهة، لقاءات مع روب غريه، دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1990، ص67 .

مجلة الثقافة الأجنبية –بغداد – العدد 2، 1984، دارسة عن يوليسيس، بقلم فلادمير نابوكوف.

صاموئيل بيكت: مالون يحتضر، ترجمة سعد الحسني–بغداد – ص7.

مالون يحتضر، ص29 .

الجن والمتاهة، ص80 .

جيل دولوز وكتاري: ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي بيروت 1997 .

http://www.alwah.com/alwah20/alwah20-5.htm
.
.
منذ أسابيع وجماعة السرد في نادي الرياض الأدبي مشغولة بوحدة الفنون عبر علاقة السرد بالتشكيل، وعلاقة السرد بالموسيقى، فلا عجب إذن أن تشغلني قضية هذا المقال السرد عبر وحدة الوجود..

المقال يقدم معلومات جيدة لكنه يصل إلى نتيجة دافعة إلى التفكير: أن شبكة WWW هي أول نتاجات العولمة في مجال الإعلام التي تمهد للعولمة الاقتصادية والسياسية وهي أخطر النماذج السردية التي ظهرت في القرن العشرين كونها تبدأ حيث انتهى دريدا فكتاب صدام الحضارات*** لهنتنغتون سرد تفكيكي في فلسفة الهيمنة يهدف إلى تحويل الأشياء والعالم والأفكار إلى ماركة (أمريكية) وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال تفكيك (تدمير) الحضارات الكبرى والدول العظمى فهنتغتنون لا يقف حيث انتهى دريدا لان العولمة لا بد أن يكون لها مركز بعد تدمير كل المركزيات وقد تمثلت هذه الفكرة داخل الخطاب العولمي بمصطلح (القطبية الواحدة) التي تنهض على ركام الحضارات الآسيوية والأوربية فهنتنغتون لا يختلف عن فيلسوف التفكيك اليهودي الذي يرمي إلى تدمير الأفكار مستغلاً الموروث التلمودي والقبالي الذي يقف مختفياً وراء أفكار هذين المفكرين إلا انه واضح وجلي في العولمة التي تخطط إلى ضرب الأديان الكبرى (الإسلام، الكونفوشيوسية، البوذية، المسيحية) مع بعضها وقيام حضارة أمريكية جديدة لا يمكن أن تتمثل سياستها بأي من الأديان المذكورة بل بدين له خطاب مماثل لخطابها والذي نجده في النصوص اليهودية التي استفاد منها الاثنان أيما فائدة مما ينبئ بخطورة السرد القادم!؟.

هل هي مخاطر حقيقية؟
أو أنها مخاطر مشغولة بنظريات المؤامرة حينا على العرب وأخرى على الاسلام وثالثة على الانسانية كلها..؟
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
قديم 07-02-2006, 15:02   #11
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
السرجين المفضض – الشخصية الثانية
جبران خليل جبران
من مجموعة العواصف

.
.
أديب أفندي:

فتى في السابعة والعشرين من عمره، ذو أنف كبير وعينين صغيرتين ووجه قذر ويدين ملطختين بالحبر وأظافر محشوة بالأوساخ، أما ملابسه فممزقة الأطراف وعلى حواشيها بقع من الزيت والدهن والقهوة، وليست هذه المظاهر القبيحة من نتائج العوز والحاجة بل من مولدات إهماله واشتغال باله بالأمور المعنوية والمسائل العلوية والمواضيع الإلهية… وقد سمعناه يقول مستشهدا بأمين الجندي: إن القريحة لا تنصرف إلى شيئين، أي أن الأديب لا يستطيع أن يميل إلى صناعة القلم وإلى النظافة في وقت واحد.

أديب أفندي يتكلم كثيرا، ويتكلم دائما، فهو منصرف عن كل شيء إلى الكلام، وقد علمنا أنه صرف عامين في إحدى مدارس بيروت ودرس علم البديع على أحد الأساتذة المشهورين، ونظم الشعر وأنشأ الرسائل والمقالات لكنه لم ينشر منها شيئا لأسباب كثيرة أهمها انحطاط الصحافة العربية وغباوة القراء !

وقد انصرف أديب أفندي في الآونة الأخيرة إلى خفايا الفلسفة القديمة والحديثة، فهو معجب بسقراط ونيتشة في وقت واحد! ويميل إلى أقوال القديس أغسطينس ميله إلى كتابات فولتر وجان جاك روسو، وقد لقيناه مرة في عرس والناس حوله ينشدون الأهازيج ويشربون الخمر وهو يتكلم ببلاغته المشهورة عن مأساة هملت لشكسبير! ورأيناه مرة أخرى سائرا في جنازة وجيه والمشيعون يمشون إلى جانبه برؤوس منخفضة وملامح مكتئبة وهو يتكلم بفصاحته المعهودة عن خمريات أبي نواس وغزليات ابن الفارض!

لماذا يا ترى يعيش أديب أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟

ذاك سر من أسرار السرجين المفضض أعلنه لنا بعلزبول ونحن بدورنا نعلنه لكم:
منذ ثلاث سنوات نظم أديب أفندي قصيدة في مدح سيادة المطران يوحنا شمعون وأنشدها أمامه في دار حبيب بك سلوان، ولما فرغ من تنغيمها دعاه سيادة المطران ووضع يده على كفه وقال له مبتسما: عافاك الله يا ابني، فما أبلغك شاعرا وما أذكاك أديبا! فأنا أفتخر بأمثالك ولا أشك بأنك ستكون من رجال الشرق الكبار.

ومن تلك الساعة إلى الآن ووالد أديب أفندي وعمه وخاله ينظرون إليه معجبين ويتحدثون عنه مفاخرين قائلين:

- أولم يقل المطران يوحنا شمعون أنه سيكون من رجال الشرق العظام؟

.
.
وحوار:

- "لماذا يا ترى يعيش أديب أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟.."…أي علاقة - تلك التي يشير إليها جبران - بين الأديب الذي أسماه أديب أفندي وبين المكارين الأقوياء ممن لا تجاوز ثقافتهم الميناء والسوق وعالم الحمير..؟..
- أسألك سؤال وما تزعل؟
- اسألي..أسمعك وأمري لله.
- "لماذا يا ترى يعيش (اليحيائي) أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟.."…بس أنت مش تقتني حمارا..سوق الحمير أقل من مواهبك..يعني ليه ما تريح نفسك من وجع الراس ومتابعة الكتب والجرايد ومنتديات الحوار وتنصرف إلى عملك الذي صرفت عليه سنوات الجامعة والذي يصرف عليك هو الآن؟!!
- أبدا…هواية..وتسلية..بعدين المقارنة هنا غير صحيحة لأنه لم يتنبأ لي أحد بأني سأكون من رجال الشرق العظام.
- أنا أتنبأ لك…
- بس أنتِ مش سيادة المطران يوحنا شمعون!!
- بس أنا أهم لك منه..أنا أحبك..
- أن تحبيني يا ست يجعل الأمر أسوء..لأنك تحولين الأمر برمته إلى فقه الإمنيات،..خرجنا عن إطار القصة..لكن ما رأيك بها؟!
- يعني..تناسب الفترة التي عاش بها جبران..وتناسب أفكاره، لاحظ كلامه عن البديع، يذكرنا فورا بمقاله الشهير: لكم لغتكم ولي لغتي..والغريب أن جبران لم يسع أبدا للخروج عن قواعد اللغة التي حاربها وإن سعى إلى أخراجها من القوالب الجامدة كما فعل ابناء جيله سواء في المهجر أو في لبنان ومصر يوم ذاك.
- عفوا أنا أسألك عن هذه القصة القصيرة ..وليس عن جبران..
- وأنا أحدثك عن النفسية التي خرجت منها هذه القصة.
- لكن ..ما معنى قولك: أن الكتابة هنا تناسب عصر جبران.
- أبدا..جبران توفي في ابريل عام 1931 قبل ظهور التيارات الحديثة في الكتابة..التيارات الداعية إلى الاختزال الكتابي، أو تلك التي تشدد على الاستبطان الذاتي على طريقة بروست مثلا..كما يجب أن لا تنسى أن جبران لم يكن كاتب قصة في المقام الأول.
- وإلى ماذا تردين شهرته في العالم العربي؟!!
- ليس في العالم العربي فقط..جبران شخصية عالمية (خصوصا) في أمريكا..يندر أن تخلو من اسمه دائرة معارف تزعم العالمية..وشهرته بكتبه الإنجليزية (النبي، المجنون، السابق، يسوع ابن الإنسان…الخ) أشهر بكثير من كتبه العربية، والغريب أن جبران كان أكثر حرصا على بلاغته الإنجليزية منه على فصاحته العربية، كانت ماري هاسكل تصحح له كتاباته الإنجليزية كما تعلم، ولم يكن يبالي كثيرا بالنقد العربي لكتاباته، وإن أحرجه كثيرا نقد العقاد لقصيدته الشهيرة المواكب.
- وأين تضعين قصته هذه عموما.
- أضعها في قالب الجودة في زمنه وأساليب ذلك الزمن في القص..لكن لا يمكن مقارنتها بامتيازات ديستوفسكي وهاردي وأو هنري وإدجار ألن بو وأمثالهم من القصاص الذين عاصرهم جبران أو كانوا قريبين من زمنه وبيئته الأمريكية، وأعتقد أنه لو أحضرها لنا أحدهم هنا دون أن يشير إلى أنها لجبران لأنتقصها الكثيرون ولعلك ستكون أحد هؤلاء الذين ترهبهم الأسماء الكبيرة فيقبلون لأجلها الأقل جودة متناسين الرائع المتاح لأن الكاتب ليس جبران خليل جبران.
- ربما.
- بل أكيد…على فكره هل مازلت عند رأيك القديم بشأن جبران.
- وهو؟!!
- ابدا ذاك المقال القديم الذي كتبته وأشرت فيه إلى ضعف جبران الجنسي بدلالة كتاباته.
- نعم لم يتغير شيء.
- أنت تظلمه.
- وأنت تحبينه.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس
إضافة رد


عدد المتواجدون في هذا الموضوع » 1 , عدد الأعضاء » 0 , عدد الزوار » 1
 

قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML مسموح

الإنتقال السريع