غسان كنفاني الذي رحل ككاتب، عاد كعاشق في ذكراه العشرين، ليثير سجالاً من نوع آخر حول صورته الرمزية ككاتب وناشط سياسي فلسطيني قال عنه محمود درويش يوماً إنه "نقل الحبر إلى مرتبة الشرف"
وبنصف اعتراف من الأديبة غادة السمان، أثير جدلٌ كبير حول صاحب "رجال في الشمس"، وتساءل البعض في غضبٍ: هل يصلح المناضل عاشقاً؟
بالنسبة إلى هؤلاء بدا أمراً ممجوجاً وغير أخلاقي أن يتزوج المناضل بغير القضية، فكيف إذا أحب على القضية وعلى زوجته الفعلية؟
غادة السمان نشرتْ رسائلَ حبٍ كتبها لها غسان في أجمل لحظات عمره تحت عنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" صدر عن دار الطليعة في شهر يوليو تموز عام 1992. كان ذلك من حقه، وطبيعي أن يكون من حقها. الرسائل المنشورة كانت عاصفة ومفاجئة، خاصة أن بعض رسائل غسان كانت تستجديها كثيراً وتوحي بشعور الاضطهاد الذي كان يشده أكثر إليها
تبدأ غادة السمان كتاب الرسائل بمحاولة إهداء: "إلى الذين لم يُولدوا بعد"، وهي نفسها الكلمات التي أهداها إياها ذات يوم كاتب مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، "وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل. وهي تتحدث عن محاولة "الوفاء بعهد قطعناه"
وهنا تنطلق غادة كحصان يتحرك ببطء ولكن بخطوات واسعة، مظهرٌ منكسر وأعماق جامحة، مقاطع طويلة كلها تبدأ بـ "نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني"..وجه طفولي وجسد عجوز، نحيل منخور لا تفارقه إبر الأنسولين. إنها لا تعرضه بصورة العاشق القوي البنية، فغسان لم يكتمل بالنسبة لها كعاشق ولذلك كان هناك آخرون..إذ تقول: "لا أستطيع الادعاء- دون أن أكذب- أن غسان كان أحب رجالي إلى قلبي كامرأة كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم – بعد الموت – وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي ..لكنه بالتأكيد كان أحد الأنقياء القلائل بينهم"
تقول: "ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوماً ما معناه: مولاي وروحي في يده ...إن ضيعها سلمت يده
يقول غسان كنفاني، في إحدى رسائله لغادة السمان: "أعرفُ أن شيئاً واحداً أستطيع أن أقوله وأنا واثقٌ من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يخيل إليّ الآن أنها كانت شيئاً محتوماً، وستظل كالأقدار التي صعقتنا: إنني أحبك
كتب غسان لأخته فائزة في نهاية عام 1966 رسالة إذ حكى فيها عن غادة التي لم يستطع أن يكف عن حبها، فيقول "أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع". وبالرغم من أن الرسالة كُِتبَت لفائزة فإنها في الحقيقة تخاطب غادة بضمير الغائب.. كان مجروحاً منها، عاملته باستغباء وكانت أقوى منه، بل إنها كانت توحي له بضعفه: "تُراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة: اذهب إلى بيتك باكراً"
وفي رسالة اخرى لغادة يقول فيها
أيتها الشقية الحلوة الرائعة! ماذا تفعلين بعيداً عني؟ أقول لك همساً ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة: (سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك!) إنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح. تعالي!
– أعترف – إنني أتقدُ مثل كهفٍ مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بُتِرَت بحاجبيك. كأنكِ جعلتِ منهن رزمةً من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة..لا. ليس ثمة إلا أنت. (إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعاً)..وسأظلُ أضبط خطواتي وراءك حتى لو كنتِ هواءً.. أتسمعين أيتها الشقية الرائعة؟ حتى لو كنتِ هواءً! ولكنني أريدكِ أكثر من الهواء. أريدكِ أرضاً وعَلَماً وليلاً..أريدكِ أكثر من ذلك. وأنتِ؟"
في إحدى الرسائل يخاطب غسان غادة قائلاً: "لقد صرتِ عذابي، وكُتِبَ عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب
"وإذا كان عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي: أنت ِأيتها الجنيةُ التي تحيك، كل ليلةٍ، كوابيسي التي لا تحتمل ..كيف أستردكِ؟
"أقول لكِ، دون أن أغمض عينيّ ودون أن أرتجف: إنني أنام إلى جواركِ كل ليلة، وأتحسس لحمكِ وأسمع لهاثكِ وأسبح في بحر العتمة مع جسدكِ وصوتكِ وروحكِ ورأسِك، وأقول وأنا على عتبة نشيج : يا غادة يا غادة يا غادة...
"وأغمض عينيّ
وحين أكتب ليس ثمة قاريء غيركِ، وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيداً أتحدث إليكِ ساعات من الجنون، أتشاجر، أضحك، أشتم السائقين، أسرع، ثم أقف: أحتويكِ وأقبلكِ وأنتشي"
وفي رسالة اخرى لها إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودكِ معي جنونٌ آخر له طعم اللذة، ولكنه- لأنك أنتِ، التي لا يمكن أن تُصلح في قالبٍ أريده أنا- جنون تنتهي حافته إلى الموت!
أمس رن الهاتف في المنزل، ورفعت السماعة..لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست، بعد لحظةٍ، بصوت جبان: غادة؟
"وهذا كله لا يهمك ..أنت صبيّة وفاتنة وموهوبة..وبسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين..ولكنني أقبل..إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!
"ماذا أقول لكِ؟ إنني أنضح مرارة..يعصر لساني الغضب مثلما يعصرون البرتقال على الروشة، لا أستطيع أن أنسى، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلتِ جهداً، يشهد الله كم هو كبير، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة!
قلتِ: نتحادث في الهاتف..أما أنا فليس لدي قرشٌ أستطيع أن أصرفه، وأن أصرفه خصوصاً على عذاب لا أحتمله. لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته، وأنا حطام، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيراً، ولكنه حدث: عنوان القصة"حازم؟ أجل حازم، من نوع أكثر صميمية: إنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذ َِّب، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب"
"حازم :أحد أبطال قصص كتاب غادة السمان "ليل الغرباء
لقد أحب غسان كنفاني هذه المرأة حباً زلزل كيانه، إلى الحد الذي يقول لها فيه: " لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً. لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساكِ، لا...إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ"