مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 04-04-2006, 13:08   #1
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

قصص قصيرة - تجريب سردي

.
.
تقمص..

أمسك بي بين إصبعيه بهدوء، تأملني واجما، وتأملته متعجبة، هو لا يدخن دائما..
سمعته يقول لصديقه: هافانا سيجار.. لي أنا؟!! يعني لما اشربها أصير صدام حسين أو كاسترو، أو أصير مثل تشي جيفارا، وبانكسار أضاف: بس بدون لحية ولا استشهاد في سبيل قضية. وسريعا جاء تعليق الصديق: بدينا الفلسفة.

قربني من أنفه..
من رائحة أنفاسه أحسست به كائنا يحمل هزيمه، هل هزمته امرأة؟ أو فكرة؟ أو خسر قضيه؟ ربما شيء من هذا القبيل، وربما شيء آخر، لكن ما أخطأت أنفاسي مرارة تجتاح روحه، مرارة كان يحتاج معها إلى روح أخرى.

مش بالولاعة، لكن بالكبريت..
بالولاعة ستشم في السيجار رائحة الغاز وسيفسد الكيف، لكن رائحة الكبريت لا تطغى على الكيف. سمع النصيحة الأخيرة، اشترى كبريتا بأعواد طويلة حتى يتسنى له نفسا أطول من روحي، جلس على (صوفا) بمواجهة (التلفزيون)، وتأملني مرة أخرى، وأخذ نفسا طويلا قبل اشتعالي، أوشك على تقبيلي ثم تراجع، همس: سيجار هافانا..شي، شي.. جيفارا، الثورة والمجد والحرية مقابل النفاق، والقيود، والغباء، وضحك بعصبية: يعني كل ما اعرفه عن الحرية سيجار، يلعن أبوها حرية، يلعنه وطن، يخرب بيته شعب.

أشعلني فاشتعلت..
قطم بأسنانه بداياتي بهدوء، تألمت، ثلمة صغيرة جدا، موازنة بين فمه والسحابة البيضاء التي تنقل روحي إليه على مراحل، وعبر أنفاسٍ استلني، بعد النفس الأول خرجت منه آهة صغيرة، وعايزنا نرجع زي زمان، أوول للزمان إرجع يا زمااان، وهات لي ألب..الله يا ست. ونفس آخر وصمت ذاااهل وأنا من فمه إلى صدره، ثم اخرج دخاني دوائر دوائر يتأملها ويغييييييب، ونفس ثالث وأغمض عينيه ،ورابع، وخامس قرر بعده التحول من الست إلى أي (مشخلعة) في أي قناة، هاتوا شيء يوسع الصدر بدل الكلام عن قتل الصحفيين والمراسلين واغتيال الوطن، وسادس وغياب وصداع، ثم تتابعت الأنفاس وذهول، وحضور، وشتائم وابتسامات..

أخيرا، تقمصته..
وضع عقبي في مطفأة بللها الماء، تأملتني بعينيه، وأحسستني وأنا أتخلق في ذاته، وشعرتني وأنا أنطلق في فضاءاته حرة مع شيء من نزقه .
.
.
التزام..

وهبتك راضية مغتبطة وعلى طبق من ذهب :
عقل فيلسوف..
ولسان أديب..
وجسد راقصة..
ما الذي تريده أكثر من ذلك ؟!!

صمتَ ولم يحر جوابا، وحقا ما كان يعرف ما يريد، ويعلم أن خسارة عقل الفيلسوف ولسان الأديب وجسد الراقصة سيفقده الكثير من توازنه، بل لعله سيفقده نفسه أيضا. هو يحبها، ما شك في ذلك لحظة، أو هو يعتقد أن لا شك في ذلك، لكنه يريده حبا بلا تبعات وهي لن تقبله حبا بلا هذه التبعات وإن أعطته من ذاتها بلا تردد أو تحفظ. قالت له ذات مساء أحمر: أعطيتك لأني أثق بك وأحبك، ولك وحدك سلمت كل قناعاتي، لكن مهما ساغ لنا ما نمارسه من جنون، ومهما قدمنا له من تبريرات باسم الحرية والحب والجمال، فلن يتجاوز كونه خطيئة، فلا أنت ولا أنا نرغب في أن يرانا الناس إذ نمارس حريتنا كما حاولنا أن نقنع أنفسنا بها، واحترامك وحدك لي، واحترامي لك فوق هذا السرير الذي يضطرب تحتنا لا يغنينا عن احترام الناس حتى وإن زعمنا أن حبنا أقوى مما يعتقدون ويظنون.

حين سألها قبلتهما الأولى قالت: أن تقبلني التزام، فكر قبل أن تلتزم. لكن جسد الراقصة غالب تفكيره، قبلها قبلة طويلة انتهت في غرفة نومه، وفي غمرة نشوتهما بجسدهما الواحد نسي أن يسألها: وأنت، هل تلتزمين؟ ولعلها لو أجابته: التزم بماذا؟ لقال: بالحرية واللاإلتزام. كانت تريده زوجا وحبيبا، وكان يريدها عشيقة وملهمة، جنتها في السماء، وجنته على الأرض، أرادته في محرقة قلبها، وأرادها في محرقة جنونه، تشتاق لمسته قبلات سريعة متلاحقة، ويشتاق نهديها وفخذيها وظهرها متعة لا تنتهي وجمال لا ينضب. يتأملها وهي تتحدث ليتوه في لسان الأديب المغسول بلعاب الرغبة، وتسمعه ويخترق روحها حفيف الشهوة العارمة لما بعد الحديث عن الأدب والفن والفلسفة. لكنه نسي أن يسألها، خاف رحيلها عنه.

كتبا لهما..
- افتقد عقلك وروحك وقبلاتك، أشتاق صوتك العذب يجدد روحي مع كل كلمة من كلماتك، أشتاق أناملك الرقيقة تنداح على جسدي كله، حين نتزوج سنعيش جنة الدنيا..
- لك وحشة، أشتاقك كلك، أشتاق شهقاتك على سريرنا، أشتاق غمضك عينيك إذ تغيبين في نشوة حب، أنتِ ملهمتي، وفتنتي، وغوايتي الخالدة.

أخيرا أدركت أنه يخشى المواجهة، قالت: سأحدثك على الهاتف، الماسنجر، سأكتب لك على الأوراق.. لكن أرجوك: أجبني إلى أين نريد أن نصل، ثق أنه لن تغضبني إجابتك، استمتعت بجسدي؟!! ذاك التزام أعفيك من تحمل تبعته لأني أخذت مقابله: أنا أيضا استمتعت بجسدك، سنبقى أصدقاء فقط إن كانت هذه هي إرادتك، لا تقلق، لكن أرجوك لنحفظ كرامتنا لا أمام أنفسنا، فما شككت لحظة أنها محفوظة عندك، لكن لنحفظها أمام الله والناس.

الله وهو والناس، في قلبها وروحها وعقلها..
وهو وهي وغفران الله، في قلبه وروحه وعقله..
صمت، ولم يلتزم بشيء..
خاف عليه،
وأيضا خاف عليها.
.
.
صلاحية منتهية..

فمي مر..
ما المشكلة ؟!!

مرارا طالبت بأن يتم إقفال أنبوبة معجون الأسنان بعد الاستخدام، لكن من يسمع؟ لا أحد يبالي بالسماع، كلهم يتكلمون، معجون فاسد ومنتهي الصلاحية، وعلي أن ألوك مرارته وأن أتقيأها أيضا، ثم علي أن أطلب شراء أنبوبة أخرى وقد لا يشتري أحد، البديل لديهم بعد اكتشافي المذهل وشعوري بالمرارة هو البقاء بأسنان قلحة، ولثة يختلط فيها اللعاب ببقايا الأكل والسجائر، لا يبالون بأسناني، يعتقدون أنها مثل أشياء أخرى في جسدي، بلا قيمة، وفي الطريق إلى صلاحية منتهية.

القهوة كانت أكثر مرارة..
لم تكن مرارة القهوة، بل مرارة القِدَم، حين تأملت القهوة كان سوادها شبيها بصبغة حذاء أسود لم تمرر عليه فرشة التلميع، سواد كريه. يمارسوني بالسواد الكئيب والقهوة القديمة، لا بأس، ألست مكتشف الصلاحيات المنتهية هنا، ألست حقل التجارب؟!!
فأر بصفة إنسان.

ملابسي أيضا تعاني الكآبة..
فضفاضة، مثل ثياب المحجبات في المسلسلات المصرية. بابا كأنك لابس خيمة،هكذا قالت ابنتي الصغيرة ذات تأمل طفولي، وأيضا الغترة البيضاء تحولت إلى صفراء، ما عاد أحد يحاسبني إذ أكون أنيقا أو لا أكون، لن يغازلك أو يقابلك أحد، وأن تمر الغترة على المكواة أو لا تمر فذاك شأن لا يليق بي حتى التفكير فيه كما يعتقدون، أما الحذاء البني الرسمي والفاخر فقد تحول لونه إلى شيء يشبه الفضلات الآدمية، شيء مكلل بالقبح. انتهت صلاحيات مظهري، انتهت من قمة رأسي الأشيب الأصلع إلى أخمص إصبعي المهدد بمقراض السكري.

وبقي أحد يسمع فريد الأطرش، وتحبه أيضا؟!!
لكني أكملت حديثي، لم أقل لهم أني أحب أفلام فاتن حمامه خصوصا حين يصاحبها زكي رستم، ولم يشفع لرجعيتي الحديث عن كاظم الساهر ونزارياته الغنائية رغم أنها لم تعجبني، لكني كنت أحاول أن أبدو معاصرا وحديثا، لكن حتى هنا بدوت متخلفا عن الجيل بمراحل، وأخيرا صفعني أحد أصدقاء ابني البكر: أنا والله ما ادري يا عم ايش تحبون في أم كلثوم، لا شكل ولا مضمون؟!!، لم أعقب، ابتسمت بكآبة استوطنت القلب منذ زمن..
حتى ذوقي الفني انتهت صلاحيته.

قرأت مقالا كتبه احد الجدد عن القدماء..
قال إننا أصنام، ديناصورات، شيء من الماضي، شيء لا علاقة له بالفضائيات والهواتف المتنقلة والإنترنت والعولمة والحداثة. نحن نذكره بشامة سميرة توفيق، وغمزة هيام يونس، وثورة طه حسين البائسة، وثورية عبد الناصر التي قادت إلى الهزيمة. سرحت في كتابته وكلماته ووجدتني ابتسم لسميرة توفيق، وأراهق مع هيام يونس، وأصفق رغما عني لعبد الناصر إذ يؤمم قناة السويس، وأبكي معه حين يستقيل، وعليه حين يموت.
هل انتهت صلاحية سميرة توفيق وجمال عبد الناصر؟!!
ترحمت عليه، وبكيت علي .

حين تكون بصلاحية منتهية تتحول إلى واعظ يميل إلى الذكريات..
أتحدث كثيرا عن مضار التدخين، وعواقب الإفراط في الأكل والجنس، وأهمية المحافظة على الصلاة، وأكثر من ذكر الصالحين، وأبكي إذ أسمع القرآن، وأتحول إلى الآخرة، وأنهاهم عن شتم الحكومة، وأمدح السلطان بمناسبة وبدونها. لكنهم لا يصدقون، ربما لأني أحدثهم بصلاحية منتهية، وهم يسمعون بصلاحية يمارسونها للتو، حين قلت لأحدهم معتذرا عن خطيئة الوعظ: لا أحب أن تقعوا في أخطائي. أجاب بهدوء مصطنع: دعني أجرب الخطيئة وأقرر. وشعرت به يريد أن يكمل: بعيدا عن وصايتك.

قال لي صديق كنت فيمن دفنه: ادع الله، و لتمت قبل أن تكون عبئا على أحد، وقبل أن تكون نفسك عبئا عليك..
حين غسلناه، كنت حريصا على أن يكون في كفن كامل الصلاحية، ومسحت جسده بثلاث تولات جديدة من دهن العود .
.
.
روتين..

اجتماع (بيروقراطي) ممل، تعودت في مثل هذه الاجتماعات أن اسرح بعيدا، أذهب إلى حيث لا أشعر، أغيب حيث لا أحب أن أعود، نصحني أحد المخضرمين إداريا: إذا شعرت بالملل والضيق في أي اجتماع تنظيمي فأشعل خيالك بالسخافات المضحكة، حول ما حولك إلى أفلام كرتونية، ولتعصف بها أفكارك المنطلقة، يعني (Brain Storming) لكن خارج الدائرة التي أنت فيها.

فعلت هذه المرة، كنت أرغب في شيء يضحك داخلي بعيدا عن هذا الجو الرتيب والكئيب والقميء أيضا، غرفة سيئة الإضاءة، كراسي بأشكال متنافرة، وأناس متجهمون اجتمعوا ليجعلوا الأمور أكثر تعقيدا، تخيلت شكل رئيس الاجتماع بمايوه سباحة نسائي أحمر (اقسم بالله أن رئيسنا رجل، كما اقسم أنى خال من العقد النفسية وأكره فرويد)، طبعا سبق ذلك دخوله علينا مثل (طرزان) أي بحبل معلق بسقف الغرفة وعلى كتفه ابنته القردة (شيتا)، أما الموظف الجالس بجانبي فقررت أن أحوّله إلى شجرة (دائما كنت أشعر أنه لوح)، وفي وسط هذا الجو الشاعري الذي خلقته لنفسي - طرزان وقرد ولوح - قررت فجأة أن اكتب قصيدة، نعم قررت أن اكتب قصيدة بالعربية الفصحى رغم الاجتماع الإنجليزي (ورغم الريح ورغم الإعصار ورغم السأم الساكن فيني ليل نهار)، كتبت بيتين أحسست بعدهما بشيء من غباء، بيتين تقليديين كأني من زمن النابغة: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ..التفت فجأة إلى زميلي الجالس بجانبي في الجهة الأخرى (مش اللوح) فرأيته يكتب، ممتاز هناك متابعة للحكم التي يقولها طرزان، لكني حين رأيت، ويا لهول ما رأيت، لم يكن يكتب: لقد ترك الزميل الاجتماع وقاده خياله المراهق إلى رسم صور عارية!!!، ربما توارد خواطر، أنا أتخيل الرئيس بمايوه نسائي وهو يرسم صدره وشعره الذهبي المنسدل على كتفيه، تظاهرت أنى لم أر شيئا لكن تظاهري لم ينفع، ابتسمت، وابتسم (مش اللوح) وهو يغطي الورقة بيده.

فجأة وقعت الواقعة، سألني طرزان عن شيء يتعلق بالقسم الذي اشرف عليه.. ورطة!!

لم افهم السؤال، ليس لأنه صعب بل لأني كنت اكتب قصيدة وأتفرج على صدور عارية وأكتاف مغطاة بشعور ذهبية، كان لا بد من تصرف ما، إن ضحكت سيفهم أنى اهزأ به، وان أظهرت الوقار فلن ينفع لأنه لا جواب لدي، الحل هو السعال ثم الاستئذان لثواني، ثم العودة، وسيعيد علي السؤال دون أن اطلب الإعادة، وهذا ما تم فعلا، لكنها لا تنجح دائما، خصوصا إذا لم تستطع المغادرة، ستسعل حتى تتقطع أنفاسك، وتنقطع دموعك، ويتلون وجهك، وفي النهاية لا بد أن تتوقف، ثم ستنظر إلى وجه رئيسك وهو ينتظر جوابك ، ولن تَعْدم من يبلغك لاحقا انك كنت كالأبله (يعني الأحمق مش المدرِسَة)، أبله رغم أن رئيسك قد خلع المايوه ولبس بدلته بأناقة لا أناقة فيها.

أجبته، ارتحت قليلا حين أعجبت إجابتي شيخ الغفر.. دخل مرة أخرى في دائرة اللت والعجن، ودخل معه فيها البقية، أذن لا بد من سرحان جديد، لكن بالعربية وليس بالإنجليزية..: يا غلام اضرب عنق هذا الذي يرسم صورا عارية في المكتب ولا يستحي على وجهه ووجه اللي خلفوه!!!، يا أبا سندس هل لك في إبريق من عصير البرشومي أصبه فوق رأسك ثم تلعقه بلسانك ،،يا خثعمه ما رأيك في أن أزوجك جاريتي بهيسه وسأعطيك (دسكونت) على مهرها، يا أبا نواس أنشدني قصيدتك في مدح كافور ابن زعفرانه،،،، وإني وإن كنت الأخير زمانه/ لأت بما لم تستطعه الأوائل….

انتهى الاجتماع، وحين عدت إلى مكتبي بدأ اجتماع آخر لموظفي قسمي لأبلغهم بما تم التوصل إليه في الاجتماع الكبير، أنا الرئيس هذه المرة، أثناء الاجتماع، انتبهت فجأة إلى نظرات إحدى موظفاتي، بدت سارحة… لمَستُ فخذي..تخيَلْتُ أنني أرتدي مايوه سباحة نسائي.
.
.
حوار..

- لا تحادثني رجاء، إذ أرد عليك فأنا أرتكب معك خطيئة التعبير عن مشاعري.
- طيب، لن أفعل، أكره لك التلوث بالخطيئة.
- وأيضا لا تقل لي أنك تحبني أو أي كلمة مشابهة من كلمات المراهقين، هذه الكلمات الغبية لا تأثير لها علي.
- طيب، إن كانت بلا تأثير فحقا لا داعي لقولها.
- لا تغضب، مجتمعنا يعج بالذئاب.
- ما غضبت.
- طيب ليه ساكت؟!!
- ما اعرف، منعتني من الحديث، وحرمتني من شعوري.
- أسمح لك بأن تكلمني عن حقوقي عليك فقط.

ابتسم..
شعر بالأسى..
وغادر.
.
.
أستاذ وعشق وفلسفة..

عرفته وهو يستكثر على قلبه أن يُحب من جديد.

تلك مرحلة تجاوزها.. وقلق أخذ نصيبه منه.. وأرق جميل ما عرفه منذ زمن طويل، علاقته بالحب – كما يقول - ذكرى، وقصيدة، ومقالة، ومشهد يتذكره من فلم قديم، وشكوى لصديق، ومكالمة هاتفية طويلة، وتأمل هادئ لوجه زوجته، ومتعته بأطفاله، وصلاة لله في محرابه. علاقته به ابتسامة تلوح على محيّاه الجميل حينا بعد حين دون أن ندرك كنهها أو سببها، ذاك المحيّا الذي ما نظرتُ إليه إلا تساءلت: كيف يجتمع الحزن العميق والفرح العابث في سيما إنسان واحد، في أشد لحظات فرحه لا تكاد تخطئ حزن قلبه في لمحة، وفي اشد لحظات حزنه تلمح في وجهه بهجة البشائر، حديثه المفعم بالغناء للإنسان، نظراته التي تجعلك مسكونا فيه، إشارات أصابعه وهو يتحدث موافقا أو معارضا، سهومه حين يسمعك فكأنه ليس معك بعقله وقلبه، وهو معك بهما معا، نبرات صوته الأجش، ضحكته الحيية وغضبته الباسمة، كان يقول أن همومه الإنسانية أكبر، همه في مجتمعه الصغير، وواجباته تجاه مجتمعه الكبير، وإحساسه الدائم بالواجب كل ذلك أجدى من العبث، وأن يحب في خريف أيامه فذاك عبث، وعبث لا يطاق. وبدا أن لا شيء من هذا كله سيتغير، وأن الوقت سيطول قبل أن أسأله: فيك شيء ؟!!

أصبح ساهما وما عاد معنا لا بعقله ولا قلبه، يبتسم لكن ليس لنا، ويضحك أو يغضب لكن أيضا ليس لنا بل ولا معنا، في البداية لم يكن الأمر واضحا، لكن الصمت تحول إلى عادة، وتقلص الحديث عن الهم في المجتمع الصغير، والواجب تجاه المجتمع الكبير، حل بدلا عن ذلك وأشباهه من الحوارات صمت طويل، صمت فسره لنا بالتعب من الكلام ويحب الآن أن يسمع أكثر مما يتكلم. وواقعا لم يكن يبالي بأن يسمع، وما عاد راغبا في الكلام لا معارضا ولا موافقا، وفي لحظة صفاء قال: تعّرف خالد، شكلي أحب.

وأعترف أني بهتُ كما بهت الذي كفر..
أستاذي يحب..

ابتسمت، وهل يعيش مثلك بلا حب، أنت متورط أزلي بالحب، نفسك، وأهلك، والأصدقاء، والوطن، والدين، والله، وكل شيء، حتى البهائم والجمادات لها نصيب من حبك، أعرف أنك تحب، وأعلم أنك مسكون بالجمال. لا، لا يا خالد، لا أقصد هذا المعنى، أقصد أني أحب امرأة، امرأة مختلفة، هي الأجمل، الأذكى، الأكثر حضورا، الأكثر تأثيرا...، واسترسل الرجل الخمسيني في مجموعة طويلة من هذه الـ(أكثر)ات.

يحب امرأة يراها مختلفة..
ثم يبثني فرحة قلبه..
وأعترف أني شعرت بفرحة أخرى..
لكن بماذا أجيب قيسي المعاصر ؟

- يا سيدي أخشى أن تكون مراهقة الخمسين..
- مش انا.
- لعلها طفلة تلهو بك..
- لا هي مختلفة، لو كانت تلهو لعرفت ذلك.
- طيب، وهذا الحب إلى أين؟
- ما أدري.
- ما فهمت !!
- يعني كلامنا كان كله عن الحب للحب.
- والقيم والمبادئ؟
- ما أدري.
- وعقلك.
- هذه المرة مضى إلى حيث لا أعلم ولا أريد أن أعلم.

فجأة رن الهاتف..
وتغير وجه الاستاذ وهو يقول: أهلا..
كان في كامل جماله..
وبتعبيره الشهير: أنا في لياقتي يا شباب.
.
.
استأذنته وانصرفت..
لم اشغل نفسي كثيرا بالصواب والخطأ..
وفي الطريق شعرت أني أحبه أكثر..
أكثر.
.
.
ذكرى..

كانت جدة محمد البليهد رحمه الله ترفع رأسها عاليا حابسة لدموعها، حتى لا يقال أنها تبكي..
كانت تخشى أن تتهم بالجزع..
كانت تتصبّر..

.
.
الحياة مريرة كلها..
فلم تسألني عن أشد المرارات ؟

الموت..
المرض..
فراق الأحبة..
الوحدة..
الخوف..
ربما..

قلت لي مرة: أن أحزاننا تكون بقدر آمالنا.. لعلك كنت تقصد أن خيبة الأمل حزن آخر، ومرارة أخرى، يومها لم أشعر برغبة في الحديث، شُغلتُ بذكرى قديمة بعض الشيء، وها هي تعود مع كلامك عن الحياة حين تكون مرة، هل تطلب حكاية، هل اكتفيت من شقاء الآخرين فجئت تبحث عن الشقاء في قلبي لتحكيه للناس..؟!!

لا بأس، إذن لأحدثك عن طفلة لم تكن كالأطفال – ها أنت تبتسم لأنك تعتقد أن الأطفال سواء، ربما ولكنهم في قلوب أمهاتهم ليسوا كذلك- ، كنّا في بداياتنا، وكانت طفلتنا الأولى، الطفلة التي لم أنجب بعدها غيرك، كم كانت جميلة، وكم كنتُ فرحة.

سعادة بالغة أن تجدُك وقد شغلتك الحياة بحياة، وشغلتك الأيام بشيء منك، معك، ولك، وبك، تلعب، تضحك، تمرض، تنام، تنهض، تأكل وتشرب مع شيء تحبه وترعاه، ويكبر أمام عينيك ويكبر معه فرحك وأملك ويومك وغدك.

لكنها لم تكن إلا بشرى، والبشائر تزول ليبقى ما بعدها..
لم تبق معي أكثر من أربعة أعوام وأشهر..
وكانت آخر صورها ابتسامة عذبة بصحبة دمية..
مَرِضَت لأيام قلائل وأنا استرحم الله..
ثم ماتت وكان يراد لي أن استرجع أمره بالصبر.

تخيلْ ذاك القادم من المقابر ليعزي زوجته ثم لا يعرف ما يقول..
وتلك الزوجة التي تبكي بصمت آلام زوج وفقدان بنت، ثم عليها أن تتصبر لأن الله شاء ذلك، ولأن لله عصافير في الجنة وشفعاء كما قالت لها إحداهن بعد أن أخذت كل ما يخص الصغيرة الراحلة حتى لا تراه، وحتى لا تتجدد ذكرى يريدون لها أن تموت، وتصبّرت، وزعمت أني نسيت.. وشغلتني وأباك الأيام.

بعد زمن كان علي أن أجمع أشياءنا الصغيرة لارتحال جديد: أدوات، ثياب، أوراق، صناديق صغيرة..حين لمحت تلك الدمية، نعم، لم يروها حين كانوا يقتلون الذكرى.

عادت تلك الابتسامة العذبة..
وبعثت تلك الطفلة فيّ من جديد..
كانت مرارتي أكبر، وكان وجعي أشد..
بكيت كما لم أبك يوم ماتت..
ومرضت كما لم أمرض يوم ذاك.

المرارات كثيرة..
لكن الذكرى المتجددة هي الأكثر ألما.
.
.
تقاسيم..

تناول العود..
أنّ بين يديه..
أحس بالكآبة تعصر قلبه..
حاول أن يرفه عن عوده ..
لم يستطع..
تحول العود إلى نائحة..
وتحولت تقاسيمه إلى حنين ..
أعاد ضبط الأوتار..
لا جدوى..
أصر على البكاء ..
واصل.

أذن المؤذن لصلاة الفجر..
خشع ..
أمسك ..
عاودته الكآبة في الصلاة..
كان الإمام يقرأ آيات عن الجنة ..
: هل في الجنة عود؟
هل سيسمعون تقاسيمه؟!
آه.. كم سيعجبهم ذلك..
هل ستكونُ معه هناك..
أم ستغار من الحور العين؟!!
الله، الله، الله…جنات وأنهارا…
سلّم الإمام، استغفر الله ثلاثا ..
أشرق وجهه..
في الطريق إلى البيت نسي الإمام والجنة والحور العين..
تذكرها..
تذكر تقاطيعها البهية..
تعابيرها الجميلة..
سؤالها: (تحبني؟!!).

شاء أن يقسّم لها في ليلتها الأولى..
نظر إلى عينيها ..
حرك أوتاره..
: (عزفك حلو)..
استمرَ..
استغرقه العود ..
استغرق فيه..
اختفى الزمان وغاب المكان..
عاد..
التفت مستجديا نظرات الاعجاب..
لمح ابتسامه.

: (وحيد) ..
أنت فنان..
أنت ملك اللحن..
لم يقل كلمه ..
يخجل من كلمات الحب..
(ما أعرف أتكلم…)
غازلها بالعزف..
وأحبت فيه العود..

لم يقسّم بعد الصلاة ..
نام..
وما عرف سر بكاء العود.
.
.
أب..

غافلته وحملت مجموعة من الملصقات الصغيرة: صور لفراشات، عصافير، فاكهه، أشكال غريبة، حروف ملونة..
ووضعتها أمام البائع وهما يهمان بالخروج..
تخيلها ملتصقة على الجدران .. على المناضد ..على الكراسي .. على الأسِرّة..
لا…لا، لن يسمح بذلك..
لن يشتري شيئا من هذا..
وبجفاء أمرها أن تعيد الملصقات إلى مكانها وعاد معها.

حثها على شراء الوان، دفتر مزخرف، مجلة أطفال، كرة مطاطية، لكن دون جدوى، لم تتخل عن فكرة شراء الملصقات الصغيرة، توسلت وأكدت أنها لن تلصقها إلا على دفترها الصغير، رفض، بل ستفعلين كما فعلت في المرات الماضية.

تذكر أحاديث زوجته عن الدلال الزائد، ودارت في ذهنه مجموعة من نظريات التربية الحديثة التي تؤكد صحة موقفه، أعاد عرضه بشراء اشياء اخرى، رفضت، لم تكن تريد إلا الملصقات.. إذن تحول الموضوع إلى عناد، فليكن، هو أيضا عنيد، لن يشتري.

اركبها السيارة متصنعا الغضب، وقال كلمات تأنيب لم تفهمها، ظلت صامته طوال الطريق، واجمة، لم يبالِ..
حين وصلا كانت نائمة، انحنى ليحملها.. لمح على وجنتيها بقايا دموع، وضعها على سريرها بهدوء، وقبلها كما يفعل كل مساء، قص على زوجته باسما ما حدث، صوّبت تصرفه، وحين أشار إلى حزن الطفلة قالت: دلع بنات، لا تهتم.

بقي صامتا، لم يعلق على شيء،
لكنه بدأ يهتم..

عاد بعد ساعة إلى غرفة الصغيرة، تأمل وجهها الضئيل، بدا له غاضبا، متسائلا، شعر برغبة في تقبيلها وفعل، التاع، دمعت عيناه، ندم، ليتها لم تنم، إذن لاسترضاها، حاول أن ينام، لم يستطع، حاصره الهم، أزعجه الأرق، شعر بالضيق، للحظات كره زوجته وحديثها عن الدلال الزائد، لعن كل نظريات التربية الحديثة، نام، استيقظ مبكرا، مازالت نائمة.

نقل امتعاضه إلى عمله، لم يرفع ورقه، لم يصدر قرارا، وبقي واجما، بعد ساعات اتصل بالمنزل، كلمته الصغيرة، كانت هادئة، فرحة بحديثه ، سعيدة بملاطفته، نسيت الموضوع، واستقبلت يوما جديدا، اطمئن، غمرته السكينة واجتاحته نشوة فرح.

في المساء اشتريا كل ما طلبت من ملصقات، لم يسألها أين ستلصقها.
.
.
أوراق..

دفتري الصغير..
دفتر الأحبة والصديقات..
مساء التعاسة، مساء السأم..

لماذا احتفظتُ بك كل هذه السنوات؟
أي قيمة لما كُتب فيك ومعك..
تعليقات المراهقات السخيفة..
حكايا الطفولة الجميلة..
عبث الصديقات..
وجملة "الذكريات صدى السنين الحاكي" كما كتبتها أمي على الغلاف تشجيعا لي على القراءة والكتابة دون أن أفهم معناها.

ابنتي نادية: مع خالص تمنياتي لك بالنجاح والتوفيق والمستقبل الباهر.. أستاذتك نوره خميس…
كم فرحت حين كتبت الأستاذة هذه الكلمات البسيطة ، أي مجاملة من مدرسة لمراهقة أتمنى لك النجاح والتوفيق!! طيب وبعدين؟ أين الإحساس؟ يجتاحنا الحب دون أن نفكر في معنى كلمة حب، يومها لم يشغلني الإحساس.

أختي نادية: عقبال الشهادة والزواج، والأولاد والبنات، ثم رسم لقلب مجروح يخترقه سهم تتساقط منه قطرات من الدم وعين دامعة، ثم اختك ليلى…
أه يا ليلى ما أجملها تلك الأيام حين اختصرنا الزمان في زوج وأولاد وقلوب مجروحة، كم أتمنى لك الآن ما تمنيته لي حين ذاك، ما أقسى الأيام، كنت تنتظرين فارس الأحلام على فرس ابيض فأتاك فارس الواقع على سيارة فارهة وثلاث سنوات من الخيبة والعذاب، أما الفارس الثاني فقد جاء لرفع لقب مطلقة والحصول على لقب: مقهورة.. لن أحدثك عن فارس أحلامي، تزوجت المستحيل، وأنجبت اليأس.

ابنتي نادية: أتمنى لك العمر الطويل والعمل الجليل الصالح، عمك إبراهيم…
مدرس الدين الوقور..كنتَ حين ذاك اقرب أعمامي إلي نفسي، هنا بعض كتبك المهداة عن فقه المرأة، وعن تحريم الغناء وحلق اللحية، لم يكن للكتب تأثير علي لأني احب الغناء ولا شأن لي بقص اللحية أو حلقها.. كم أبعدتك عني الأيام بعد أن رفضت خطبة ابنك خليل، تحدثت عن أهمية إكمال دراستي وعن التباين بين شخصيته وشخصيتي، كذا قلت، لكن الواقع هو أنني لم اكن لأعيش في بيت لا (دش) فيه ولا غناء، ولا قيمة للناس عند أفراده إلا بقدر ما في أجسامهم من شعر.

ماما نادية: أتمنى لك السعادة في حياتك العلمية والعملية، أبقاك الله قرة عين لي ولأبيك، أمك نبيلة…
أمي الحبيبة، السعادة.. ماهي السعادة، هل تحققت أمنياتك، أم لم تتحقق؟ لا أدري، سئمت الانتظار وسئمت التفكير وسئمت حتى الإحساس، كم احسد متبلدي الشعور، هل السعادة هي بلادة الشعور وخواء العقل؟ أخاف أن أقول نعم، أما قرة عين لأبي فلا أظن، الأقرب أني أصبحت مع مرور الأيام هما من همومه.
.
.
أغلقت الدفتر، وأدارت المسجل، وتراجعت بسأم والسامر يصدح:
مالي ومال الناس لما حبيتك ما خذت رأي الناس.
.
.
الفاتحة..

كبر وقرأ الفاتحة..
ثم كبر وقرأ الفاتحة..
ثم كبر وقرأ الفاتحة..
ثم كبر وسلم بسرعة مقتديا بإمامه وزاد تسليمة ثانية من عنده.

كان المسجد مكتظا بالمصلين، أزعجه الزحام، لم يكن يعرف الميت، لكنه حضر مع صديق ممن يطلبون الأجر ويرجون الثواب بالصلاة وزيارة المقابر، كانت تعابير وجهه أقرب إلى الذهول، قطع شرود أفكاره صوت يطلب إفساح المجال لعدد اكبر من الناس لالقاء حفنات من التراب التماسا لأجر المشاركة في الدفن، اندفع إلى الحفرة مزاحما الباقين، انحنى قليلا وألقى ما اجتمع في يده من تراب.. فجأة سقط عقاله في الحفرة، التقطه بسرعة وأزال عنه حبيبات الرمل، أحس انه دفن شيئا من جسده مع الميت، قدم تعازيه وانصرف ممتعضا، كان حزنه لسقوط عقاله أشد من حزنه على المتوفى، غمرت روحه الكآبة، وتحولت كآبته إلى خوف، وتحول خوفه إلى قلق.

بعد يومين وفي حادث مفاجئ مات أخوه الأكبر، تذكر قصة العقال، رفض الفكرة بسرعة، كيف لعاقل أن يربط بين سقوط عقال على قبر ووفاة أخ؟ لا علاقة بالتأكيد، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم واستعاذ به من الأفكار الغبية.

أثناء مراسم الدفن وحين كان الناس يلقون ما بأيديهم من حثيات تراب وقف بعيدا..
بين الحين والآخر كان يتحسس عقاله .
.
.
حب حلو..

طاخ، طاخ...
.
.
نزلتُ من سيارتي، ونزلت من سيارتها، ومع النظرة الأولى ألقيت أول أسلحتي، وحين وقفت أمامي قطعة كاملة ألقيت أسلحتي الباقية، كانت شقراء جميلة، شيء مختلف، بدت وكأنها من ممثلات السينما …، ابتَسَمَتْ وأنا أيضا، ثم اصطلحنا بعد أن كررنا الإغراء الباسم مع كلمات الاعتذار، وافترقنا على أمل في لقاء افضل… شعرت بها تماما….لقد أحبتني..

في اليوم التالي أوقفتني (الدورية)، في القسم حصلت على مخالفة هرب من حادث وأشياء أخرى قال الضابط المناوب أنه سيغض الطرف عنها حفاظا على مستقبلي!!!، لقد زعمت الشقراء أني صدمتها، ثم تحرشت بها جنسيا، ثم هَرَبْت!! ولأنها امرأة ولأنهم (جنتلمانات) فقد كذبوني وصدقوها، ولم يشفع لي عندهم شيء مما أعرفه عن نفسي، لا جمالي ولا بهائي ولا اعتقادي أنها (حبتني)، كان تأثيرها عليهم اكبر.

أخبرت أصدقائي بالقصة.. لم يستطع أيا منهم أن يتجاوب مع مشاعري أو يقبل فهمي لما حدث:..طيب..حبتك..تشتكي عليك ليه؟!! أنت مثل الباكستانيين اللي في الشركة، كلما ابتسمت له وحده قال: حبتني!!، يا أخي روح شوف وجهك في المنظرة، بعدين تعال تبلى على بنات خلق الله!!! ذهبت لأرى وجهي في المرآة: والله حلو، رغم أنوف كل الباكستانيين في الشركة.

أحبتني، أنا متأكد، لا يمكن أن تخفى علي نظرات الحب، مازلت أتذكر، كانت عيناها فاترتين، لكن شيئا ما حدث، لا افهمه، كيف فسرت ابتسامتي على أنها تحرش جنسي؟!! هي أيضا ابتسمت، هل يعني ذلك أنها تحرشت بي جنسيا!!!، أعتقد أنها أحبتني لكنها أحبت سيارتها اكثر مني، رغم أن التلف في سيارتها كان صغيرا بالمقارنة بما حصل لسيارتي، ولكني ضحيت في سبيل الحب، ولم تفعل هي، كيفها، لقد خسرتني إلى الأبد، قبلها أيضا خسرتني سكرتيرة رئيسي في العمل، السكرتيرة قبيحة، تلبس ملابس الصيف في الشتاء والشتاء في الصيف، وتضع دهن عود على الجينز، وتغطي وجهها بطبقة ألوان تسميها مكياج!!، دائما كنت أتساءل ما الذي أعجب رئيسنا في هذه المخلوقة؟!! هي مغرورة؟!! لا تبتسم، وجهها كله كان يقول حين يراني: شاب حلو!!!.. ثم تكتم حبها، مسكينة، أعوذ بالله، ..حبتني!!!، لكن ما تعترف، قبح وعنطزة، ليتهم يستبدلونها بسكرتيرة أخرى، أشعر أنها رجل عديم الإحساس يضع باروكة.

وصلني (ايميل) من عبدالله يقول: شوف عندكم في الدمام ما فيه حريم، الحريم عندنا، الفرق بين اللي أشوفه واللي أنت تشوفه زي الفرق بين مارلين مونرو وعنزة جاركم بوسعد، وكتب لي عن مغامراته هناك، وكيف يتسابقن عليه البنات، غريب، أظنه يكذب، أنا اجمل منه (أحلى واملح وأخف دم)، كيف لو رحت عنده، بالتأكيد سأتحول إلى (فتنه)، ولن تتهمني إحداهن بالتحرش الجنسي لأني ابتسمت، ولن تتكبر علي قبيحة لأنها سكرتيرة قبيح آخر، لكنها حظوظ، الحلو يجلس والقرد يسافر…. زمن ..
.
.
العصافير..

في زاوية ركنية من المطبخ يقبع قفص صغير بداخله عصفوران صغيران من عصافير الزينة الملونة، الاب يستعجل الجميع لركوب السيارة، تقف فاطمه (ذات الستة اعوام) امام العصافير وعلى وجهها علامات الضيق والتأثر.

- بابا: عصافيري!!
- ما بهم؟!!
- كيف ندعهم ونسافر؟!!
- لا تخافي، سنضع لهم كفايتهم من الأكل والماء حتى نعود.
- لكن ألا يمكن أن نتأخر؟ لم لا نضعهم عند بعض الجيران؟
- لا، لن نتأخر إن شاء الله، كما لا يجب أن نشغل الناس بأشيائنا الخاصة.
- لكنها عصافيري، أخاف عليها.
- لن تموت عصافيرك، وستعودين إليها، لا داعي للخوف، هيا إلى السيارة.

.
.
.

- بابا، مات العصفور الازرق.
- لا بأس يا عزيزتي سأشتري لك عصفورا غيره.
- لكن عصفوري الأزرق الذي مات يختلف، مات جائعا.
- لا داعي للحزن سأشتري لك غيره، السوق ملآن بالعصافير الزرقاء والحمراء والخضراء.
- متى ستشتري لي عصفورا ازرق؟ أريده الآن.
– اسمعي فاطمه، وصلنا الان، ونحن متعبين، والسوق مقفل، انتظري إلى الغد، وسأشتري لك اجمل العصافير.
– لكن عصفوري الأخضر سيموت هو الآخر.
– لماذا؟!!!
- بالتأكيد سيموت من الوحدة، كيف يمكن ان يعيش بدون زوجته؟
- وما أدراك أنها زوجته؟!!
- لأنهما كانا دائما مع بعضهما، صدقني بابا سيموت إن لم تحضر له زوجته؟
- لن يموت، لا تخافي، وغدا ستكون زوجته عنده.
- بل سيموت مثلما ماتت زوجته، سيموت..
- خلاص..نامي أنت معاه..هاها.

.
.
- حياتي، يبدو أن ابنتك نامت في الصالة وعينيها على عصفورها الباقي، ليتك تحملها إلى غرفتها.
- حاضر، لا تقلقي أنت ايضا، سيكون لها عصفورها الأزرق غدا، وسنشارك جميعا في مراسيم الزفاف.
.
.
.
في الصباح لم يكن القفص في مكانه،
ولم تكن فاطمة على سريرها.

كان القفص وفاطمة والعصفور معا،
كانت نائمة في الصالة، وقد احتضنت القفص بذراعها الصغيرة،
وبدى العصفور سعيدا، كان فرحا بزوجته،
ما شعر بالوحدة
.
.
المصعد..

ابتسم مقبلا على طاولة الطعام، كانت كل الأشياء حوله بيضاء: الثلاجة، الفرن، الميكروويف، غسالتي الصحون والثياب، نشافة الملابس، وحتى قطعة الرخام الرئيسية حول مجلى المياه، هو ذوقهما المشترك في (أشياء) المطبخ، لاحظ بقايا الـ(كورن فلكس) والحليب على الطاولة، ومع ابتسامة يحبها كثيرا وضعت أمامه كأسا من عصير البرتغال، نصف رغيف خبز ساخن، مثلث جبن، قليل من العسل..ثم جلست على الكرسي المقابل بعد أن أعادت جملتها الصباحية: القهوة ستكون جاهزة بعد قليل.

تأملت وجه (أبونا) كما تسميه حين تتحدث عنه مع الأخريات، كان أبونا يأكل بسرعة كعادته فيما كانت هي تحدثه عن صخب الأطفال وطرائفهم قبل ذهابهم إلى المدرسة، يبتسم، يضحك، يعلق، يتأمل.

– بس تعرف، البارح حلمت فيك حلم غريب.
– خير..حلمتي أني حصّلت كنز؟!!
- لا، شي ثاني.
– أيش يعني؟!!
- لا..تعرفني أنا شاطره في تفسير الأحلام، حلمت الحلم وفسرته بعد.
– يا سلام، شوقتيني ، قولي الحلم بسرعة، أحب أسمعك يا شاطره.
– حلمت أنك راكب مصعد..والمصعد يطلع، ويطلع، ويطلع، وما يوقف..وفي هذه اللحظة كانت كلتا يديها بأصابعها التي تومئ بحركات الارتفاع تدريجيا قد تجاوزتا مستوى رأسها ورأسه.
– وبعدين؟!!
- ولا شيء، قمت، خلص الحلم.
– يا سلام..طيب..أيش فسرتيه؟!!

لمعت عيناها وهي تقول بفرح ظاهر: فسرته انك ترتفع وترتفع في دنيا الناس، ويصير لك مقام كبير، وكلهم يحبونك ويحترمونك، ابتسم لها، أسعدته طريقتها في التعبير: ...والمصعد يطلع، يطلع، يطلع ولا يوقف..وأنت ترتفع، ترتفع، وترتفع في دنيا الناس..نهض عن كرسيه، وفعل شيئا لم يفعله منذ زمن، قبلها..ثم انصرف ليرتدي ملابسه.

بعد دقائق كانت معه، تنتظر أن يطلب منها أن تقفل أزارير ياقته، تخفي ابتسامتها وهي تراه يتأملها صامتا وأصابعها تداعب رقبته وقد وضع كفيه مستسلما على كتفيها، (تسكير) الياقة هو عملها الصباحي الأخير بحضرته..

- باااااي..
انتبهي على نفسك.

حين غادر البيت، دارت هي على غُرفِه، رتبت ملاءات الأسِرّة، غسلت صحون المطبخ، قامت ببعض التنظيفات هنا وهناك، أخيرا ذهبت إلى غرفة النوم، استلقت وهي تفكر في عالمها الصغير: أبونا وابنه وبناته ، ابتسمت قبل أن تدخل في نوم متقطع انتظارا لابنتها الصغيرة أولى القادمات من المدرسة.

وهناك غير بعيد عنها بدا مرحا على غير عادته في الصباح الباكر، لم يفارقه وجهها وهي تقول له: والمصعد يطلع، ويطلع، ويطلع.. فسرته انك ترتفع وترتفع في دنيا الناس، ويصير لك مقام كبير، وكلهم يحبونك ويحترمونك.....لم يكن الرجل ينتظر أي ترقيه في عمله، وما كان يتوقع أي زيادة في دخله، وما تعود أن يبني آماله على عطاء من أحد دون أن يعمل لهذا العطاء ويخطط له، وفوق هذا كله لم يكن من أولئك الذين تسوق الأحلام حياتهم متفائلين بها أو متشائمين..لكنه كان سعيدا بحلم زوجته، وحين تذكر مرة أخرى ارتفاع يديها وحركات أصابعها التي: تطلع وتطلع.. أحس أنه يطلع فعلا.. وابتسم.

- البنات جو من المدرسة؟
- نعم، وناصر بعد.. كلهم بخير..الحمد لله.
– و (انتي) بخير؟!!
- الحمد لله، وأنت؟!!
- ممتاز..ثم تابع ضاحكا: من الصباح وأنا اطلع واطلع..والمصعد مش راضي يوقف.
ضحكت قبل أن ترد عليه: تضحك على أحلامي؟ اعتقدت أنك نسيتها..بس تشوف إذا ما رقوك في الأيام الجاية..
– إن شاء الله، إن شاء الله..بااااي..
اقفل الهاتف وواصل يومه بين أوراقه وأنشغل بدنيا المراجعين والمعاملات الرسمية والأصدقاء والزملاء.

في طريقه إلى منزله مساءً عاد له وجهها الهادئ وحركات يديها: والمصعد ..يطلع، ويطلع، ويطلع.. فسرته انك ترتفع وترتفع..دخل المصعد..أحس أن المصعد يطلع ويطلع ويطلع ولا يتوقف.. رافقه شعور غامر بالسعادة والامتنان ..يبدو أن أحلامها تتحقق..
.
.
- أي دور يا أستاذ؟!!
بعد دقائق سأله أحد الداخلين إلى المصعد الواقف.
.
.
فيما يرى الصاحي..

ليلى..ليلى..

ثم التقت عيناه وسط الظلام بعينين يعرفهما تماما..اخترقته بنظراتها..وجم..اقفل عينيه..فكر في تفسير مناسب..لم يجده..تناوم.. نام..في الصباح كان كل شيء جاهزا كالعادة..الغترة بجانب المكواة..الثوب جاهز..الحذاء يلمع..المنشفة مع ملابسه الداخلية في الدولاب الصغير بجانب الحمام..أدوات الحلاقة..، كانت هي في المطبخ..

مع هدير الماء فوق رأسه ابتسم، تذكر ليلى، وتذكر البارحة، وتذكر تلك العينين الحائرتين النافذتين إلى أعماقه..ارتبك..لا يوجد لديه أي تفسير..من ليلى هذه؟..لم تكن تحلم.. من يحلم لا يفتح عينيه مذهولا..لا يخاف..كنت خائفا..كنت كمن يخفي فضيحته، انْتَبَهَ على قرصات الصابون داخل عينيه..أزاله بسرعه..كميات اكبر من الماء.. بقي في الحمام اكثر مما اعتاد..من ليلى ؟!! ستسأله الآن..ستسأله ولا جواب..

جلس على الكرسي المقابل لها تماما..تهابه بعض الشيء، لكنها هي من كان أكثر هيبة هذا الصباح، شعر بالخوف، أحرقته نظراتها..تبتسم وهي تقترح عليه أن يأكل قليلا من هذه البيضة المسلوقه، هذا الجبن جيد..هذا الخبز صنعته لك بنفسي في البيت..آه يبدو أنها نسيت الموضوع..حاول استرداد بعض هيبته..سألها عن الأطفال..وانتقد بعض الجيران، وحين وقف أمامها بعد أن استكمل زينته قالت له باسمه كعادتها كل صباح: ملكي..ملكي يا أبا عبدالله..لم يبتسم ..غادر البيت.

وصل مكتبه..انشغل بالأوراق..المراجعين..الأصدقاء..الحاسب الآلي..لكنه لم ينس ما كان منه في المساء..وعيناها ..تلك النظرة القاسية..ذاك البريق المؤلم.. لِمَ لم تقل له شيئا هذا الصباح، لِمَ لم تعاتبه؟!!

مغفلة؟!!
متناسية؟!!
خائفة؟!!!..
الله أعلم..
غطس بين أوراقه مرة أخرى.

الثانية بعد الظهر..رن جرس الهاتف..أهلا..مساء الخير..الأولاد؟ نعم جاءوا من المدرسة..تغدينا..تحب أن نبقي لك شيئا من غذائنا ؟!! هي الأكلة التي تحبها...شعر بالملل من هذا الروتين اليومي المتعب على الهاتف، حاول أن ينهي المكالمة متعللا بانشغاله..صمت قصير .. ثم سؤال :

- على فكره..من ليلى؟!!!..
- أي ليلى؟!!..
- ليلى التي ذكرت اسمها البارحة مرتين؟
- أوه ..لا تشغلي بالك ..لا أتذكر..ربما كنت احلم..
- لم تكن تحلم..
-...
- لن أسألك مرة أخرى..
- ...
- مع السلامة.
.
.
حصة

في الثامنة عشرة من عمرها كانت أختي الوحيدة تعيش حالة حب، وفي مجتمع محافظ كالذي نعيش فيه، وفي بيت تُراعى فيه التقاليد والأعراف كبيتنا، ويُكثِر أفراده الحديث عن الأخلاق والآداب والقيم، كان لا بد لأي حديث عن القلب والحب أن يخضع للسرية الشديدة، وأحيانا للخجل المربك، ويصبح الإعلان عن المشاعر الخاصة والحميمة أمرا مستهجنا دون وجود مبرر مقبول لهذا الإعلان، وفي حالة الحب الذي تعيشه بخوف وخجل كانت آخر عناقيدنا تعلم أن إظهار الحب لا بد له من موافقة مبدئية ثم إعلان رسمي.

كانت حصه واضحة جدا حين أبلغت أمي أن هناك من يرغب في خطبتها، وأنها تعرفه عن طريق أخته أولا، ثم عن طريق الهاتف ثانيا، وأن الشاب قد صارحها برغبته في التقدم لخطبتها رسميا، لم تبد أمي أي اعتراض، بل حددت موعدا لمقابلة الشاب، وبسبب غياب والدي في إحدى سفراته الطويلة طلبت من أخي الأكبر استقبال الخاطب، والتعرف عليه، ورغِبتْ حصه في تواجدي أثناء هذه المقابلة، ثم أصرت على حضوري حين اعتذرت بالمشاغل: هل يوجد شاغل أهم من مستقبل أختك؟!!، هكذا قالت لي.

بدا لي في العشرين من عمره، أنيق الهندام، أسمر البشرة، حسن الحديث، وكانت مقابلتنا أشبه ما تكون بزيارات المجاملة، لم نعده بشيء، وطلبنا منه الانتظار حتى نستطيع التعرف عليه اكثر، وكان الرجل متفهما لهذا كله، قلت له: أمهلنا أسبوع، حتى حضور الوالد، وعسى الله أن يقدم الخير للجميع، حين غادرنا سألتني حصه منفردة عن انطباعي عنه، قلت: يبدو أنه مناسب، لكن لا بد من السؤال، قالت: طيب، ثم فاجأتني ببعض المعلومات التي تعرفها عنه، وكان من ضمن معلوماتها أشياء عن عائلته، ثم عقبت قائلة: هذا لا يهم، نحن معتدلون في هذه الأفكار، المهم أن يكون متعلما وأن تكون أخلاقه عالية، أليس كذلك؟!! رددت بابتسامة ولم اعلق، أحسست أنها ترغب في موافقتنا.

بعد يومين، قال لي أخي بعد أن أجرى تحرياته: جيد، يعمل في وظيفة ممتازه، المستقبل أمامه واسع، مؤدب، متدين باعتدال، بعيد عن مساوئ المراهقين، ولكن هناك مشكله.. ولم افهم المشكلة بعد كل ما تقدم حتى قال لي بهدوء: عائلته، هم من وسط اجتماعي اقل، قلت: المال لا يهم، كلنا بدأنا فقراء، ابتسم لي متابعا: بل اقصد الأصل والنسب، وقدم لي بعض التفصيلات.

حين راجعت أوضاعنا الاجتماعية، وعصبياتنا القبلية، تأكد لي إننا نواجه عقبة كأداء وليس مشكلة صغيرة يمكن حلها بالاعتدال كما تتوهم أختي الصغيرة، عقبة لا يمكن الخروج منها إلا بتمرد عنيف يبدأ من حصه نفسها، تمرد سأكون أنا المعتدل الذي ترتجي عونه أول من يقاومه وربما بعنف شديد، ولكي يخفف أخي من اثر الصدمة ذكّرني بأن أمنا أيضا ليست من أصول عربية صريحة، ثم اخبرني أن الرجل وبهدف تعريفنا بعائلته يدعونا إلى العشاء في منزله، وافقت لأجل حصه مرة أخرى، فقد أصرت أن أقبل هذه الدعوة.

كان بيتهم كبيرا، ولأمر ما أحس الشاب أن الموافقة إن صدرت فستصدر مني وليس من أي أحد آخر، لذلك بالغ في مجاملتي حتى الإحراج، عرفني بأنسابه.. كان أحدهم اسود اللون (عبد، كما قالت لي نفسي حين رأيته)، وكان الحوار أثناء العشاء سيئا جدا بمقاييس بيتنا حيث نراعي ألفاظنا حتى مع اقرب الناس لنا، وحيث للوقار صولته الكبيرة، ودار الكلام كله حول ما نعتبره نحن سخافات، وأحاديث لا تنفع، ومزح ومداعبات سمجه، حتى طريقة إعداد الأكل وترتيبه على المائدة وديكور الصالون ونوعية الضيوف لم تناسبني.

حين خرجنا من المنزل، كان وجه أخي أقرب إلى العبوس، سألني عن انطباعي قلت له بنزق: قل لأختك (لا تورطنا) مع هؤلاء الناس…هؤلاء (ما يناسبونا) اطلاقا، هم من طبقة اجتماعية تختلف عنا، هم شيء مختلف، ولأني اعرف أمي قلت له: اطلب من الوالدة أن توجه دعوه لعائلته: أمه وأخواته، وافقت .. ووجهت لهم هذه الدعوة، وحين غادرت عائلة الشاب منزلنا، قالت أمي بهدوء..(لأ)..وكانت (لاؤها) كبيرة جدا، وحاسمة جدا..وبررتها بأسباب اجتماعية بحتة.

حين استنجدت بي أختي في اليوم التالي خذلتها بلطف شديد، اعتقدت أنها إذا أقنعتني فسنستطيع معا إقناع البقية برأينا (وكنت اقدر على ذلك لو أردته) لكن دون جدوى، في المساء اتصلتُ بأخينا دون علمها وقلت: حصه لن تتزوج هؤلاء الناس أبدا وأفهمته أن عليه بصفته أخوها الأكبر أن يعتذر للشاب بلباقة وأدب ودون إحراج.

بكت حصه، وحاولت دفعي لأكون أقوى من التقاليد العائلية، وحاولت من جهتي إفهامها أن المجتمع أقوى منا بكثير، وأن أهلنا لن يرحمونا أبدا، وذكرت لها صادقا أن الاتصالات كانت قد بدأت من بعض أعمامنا مذكرة بأهمية المحافظة على التقاليد، وأهمية أن نكون كما كنا دائما واعيين لقراراتنا بزعمهم، وكيف أن هذه المكالمات تحمل في طياتها صورا غريبة من التهديد بل والتوعد، أخيرا وافقت مكرهة.. وخضعت لقرارنا مجبرة ومكسورة بلا حيلة، لم يكن من طبيعتها التمرد، كانت أقرب إلى والدي في طبيعته الصابرة منها إلى أمي في طبيعتها العنيفة..مع مرور الأيام أحسست أنها نسيت الموضوع وحاولنا معا كأخوة إشغالها بالعزائم والحفلات العائلية والموافقة على ذهابها لكل الأعراس الصيفية والمناسبات الخاصة، وبذلنا لها الكثير من أموالنا، وحين حضر والدي لاحقا لم نخبره بشيء، وتعاملنا مع الموضوع وكأنه لم يكن..

بعد سنتين تقدم لها ابن خالها، لم توافق عليه بداية، أصرت على الرفض، و أصر أبي وأمي على الموافقة بأسلوب الوالدين.. الإلحاح الشديد ومحاولات الإقناع المشوبة بعواطف الرحم والقرابة، وتحت الضغط المتواصل وافقَت، ورفضت أنا، كنت اعلم أنها توافق مجاملة لهم، وكنت اعلم أيضا ان ابن خالي شاب سيئ بأغلب المقاييس الفكرية والأخلاقية، شرحت وجهة نظري لوالدي قلت لهما : لا، أنتم تخطئون، لكن حصه خذلتني بموافقتها هذه المرة، رفضتُ حضور حفل الخطوبة أولا، ورغم انفي تواجدت في حفل الزواج حتى لا اظهر بمظهر المعارض، لكنهم جميعا كانوا يعلمون أنى قلت: لا، بعد سنتين انتهى هذا الزواج بالطلاق دون أبناء.

تزوجت حصه مرة ثانية لاحقا، وأنجبت طفلين رائعين، لكني مازلت اشعر أنها غير سعيدة، وما زلت أحاسب نفسي على خذلاني لها في تلك السنوات التي احتاجتني معها، هل أخطأت بحرماني لها من الرجل الذي احبها وأحبته؟ هل اصبت؟ لا ادري، ولا اعرف كيف كانت ستكون العواقب لو لم اعترض، لربما كانت اليوم اكثر سعادة، واكثر جمالا وفرحا.

سنوات مرت على هذه القصة، وحين زرتها مؤخرا طلبت مني أن أوصلها إلى السوق، وأصرت على أن انزل معها ونمشي من محل إلى محل، وعبرت أيضا عن رغبتها في أن نتعشى معا في مكان عام، فعلتُ هذا كله مجاملة لها، وأخذا بخاطرها كما نقول في الخليج، حين عدنا إلى بيتها قالت لي: لم تسألني لِمَ طلبت منك كل ذلك؟ قلت: عادي، اخوكي، وحبيتي تمشين معي، بس!!!، ضحكت وقالت: لا..ليس هذا فقط، لكني أحببت أن تشير إلي البنات والنساء في السوق، ليقولوا لبعضهن، وبينهن وبين أنفسهن: حظها هذي المره…زوجها حلو..، ما يدرون انك اخوي، ضحكت قائلا: القرد في عين أمه غزال، ابتسمت كما تبتسم الأمهات حين يفخرن بأبنائهن، وحين ودعتها قبلتني على خدي ويدي وهي توصيني بعاطفة جارفة ألا اقطعها من الزيارة…حين تركتها وركبت سيارتي عائدا .. دمعت عيناي ….
.
.
فواتير مدرسة لغة عربية..

العشرة أيام الاولى:
-شيك الراتب (الفصحاء يكتبونها صك الراتب)..
ثم تأتي الفواتير تبعا (لا أعرف كيف يقول الفصحاء كلمة فواتير)..
- فاتورة الجوال (النقال، المحمول، المزعول، المزفوت...الخ).
- المساهمة في فواتير الماء والكهرباء.
- راتب الخادمة مع المساعدة في راتب السائق.
- سداد المشتروات (أي المشتريات) من الدكان (الصغير يسمى بقالة، الوسط يسمى تموينات، أما الكبير فيسمونه هايبر رغم أنف الفصحى والفصحاء).
- هدايا لتلك التي تزوجت، وتلك التي أنجبت، وتلك التي سكنت بيتا جديدا (طيب هي سكنت بيت جديد، أنا أيش دخلني فيها؟!!) ، والرابعة ... الخ، وأيضا كنت سأنسى الوالدة التي يتغير وجهها حين لا أفرحها بهدية كل شهر (حتى لو غرشة عطر، كأن العطر رخيص، لكن ما نقدر نتكلم، الوالدة..)، والوالد الذي يحب أن يقول: هذا الشماغ (من شمغ يشمغ فهو مشموغ) شرته لي بنتي الكبيرة الاستاذة، وأيضا أخواني وأخواتي الذين ولدو بعدي للأسف (الاسف جاء للترتيب لا الولادة) لأجل يفرحون ويحبون أختهم الكبيرة على قولة الوالدة، (وهنا لا يهم التعبير بالفصحى).
- اشتريت بعض الوسائل التعليمية للبنات.. أصرف على الحكومة يعني.
- تسديد ديون الشهر الماضي (الفائت).
- أسوء شيء في الحياة أن يتزوج أقاربك وصديقاتك تباعا وفي فترة قريبة.
- وبقية الشيك (اقصد الصك) ما أدري (لعل لا أدري أكثر فصاحة) أين تروح، لكني أعرف أنها (تروح) إلى جيب (وجيب كلمة فصيحة) ما.
- كنت سأتحدث لكم (لكنّ) عن مصاريف فساتيني (الكاجوال واللي مش كاجوال) وعطوري وأشيائي الأخرى، لكن الأستاذ كاتب القصة قال لي: وشدخل الناس بأشيائك الخاصة، وبفساتينك؟!! تلك إضافة لا تخدم النص على الإطلاق.

العشرة أيام الثانية:
- حين لا أملك إلا القليل من المال أتحول بقدرة قادر إلى الحكمة والتقوى..
(هات يا) نصائح للبنات في الفصل (الصف) عن التوفير والصلاة مع تعليمات وإرشادات عن أهمية التقليل من الذهاب إلى السوق (لأن الشياطين كلهم وكلهن في السوق يغازلون بعض)، هم يفهمون أني لا أحب السوق، والواقع أنه مكره أختك (أعرف هي أصلا أخاك) لا بطل (بطلة يعني)، لكن من المناسب أن تكوني أحيانا أنتِ كما يريدك الناس لا أنتِ كما تحبين (مرات أحب أكتب كلام كبير..).
- متى يأتي هذا التعيس وأتزوج وأفتك (أفتك فصيحة أيضا) من المصاريف، الخوف لا يطلع تعيس فعلا وأضطر أصرف عليه هو الأخر (هذا إن كان طيب) إن لم يكن (طيبا) فسيعفيني من التفكير تماما لأنه سيسرق الراتب بحجة التعاون معي في بناء بيت سعيد !!.
- أفضل شيء تعمله التي (اللي) ما عندها فلوس أن تقرأ، وتقرأ كثيرا، ولا بأس بمتابعة التلفزيون ( بالفصحى تلفاز، أو رائي، مرة تفلسفت في البيت، قلت لأمي: افتحي الرائي من فضلك يا أماه، زعلت أسبوع لأنها اعتقدت أني أتهمها بالرياء خصوصا وأن طلبي فتح الرائي كان بعد فراغها من صلاة العشاء مباشرة ولم يشفع لي أن قلت لها: من فضلك، ولا حتى الهدية الشهرية اللي (التي) مع الراتب، فهمت لاحقا أني كنت (أتطنز عليها)).
- في الفضائية تتحدث عن حقوق المرأة العربية المنتهكة وما أدري أيش (ما أدري ماذا) وتطالب بثورة نسائية، راااايقة..(هي اللي رايقة مش (ولست) أنا).
- الوالدة ما تعطيني وجه..( يعني بالإنجليزية: نو فيس)، هي (ذهينة) تعرف أن الراتب خلص.
- سألت كاتب القصة: اللي ما عندها فلوس تقرأ كثيرا ليه يا أستاذ، و(اش معنى) في نصف الشهر؟..
أجابني بهدوء: تعرفين، أنتِ ما تصلحين بطلة في قصة، البطلات ما يتلقفون (أي لا يتدخلن فيما لا يعنيهن).

العشرة أيام الأخيرة (سوداء زي الزفت) :
- طلبت مني زميلة سلفة صغيرة لآخر الشهر.. ابتسمت لها وقلت: ما فيش (لا يوجد)، من السعادة في الحياة أن يكون اصدقاؤك (اصدقاؤكي) أغنياء، تتسلفين (تقترضين) منهم، ولا يقترضون منك، ويكفلونك إن احتجتي كفالة ولا تكفلينهم، أنانية.. عارفة.
- تشتكي من زوجها وتصرفاته وأنه أخذ راتبها كله، لا تتعبين نفسك ما رح تكسرين خاطري ابد، أصلا حتى لو كسرتيه ما عندي شيء..(عليكم (وعليكن) ترجمة ما سبق للفصحى لأني تعبت من التحوير أو التحويل أو هما معا).
- الأخت سعودية؟!! لا، تو جايه من المكسيك.. سؤال غبي على أخر الشهر، يعني ما عندها وسيلة تعارف إلا هذه الطريقة، لو كلمتني عن زين الجو في الرياض هاليومين كان أفضل، الأنكى اللي حبت تتعرف علي عن طريق الكلام في الأسهم.. يعني أنتي شايفتن وجهي وجه أسهم.. (خطأ، مش قصيمية..).
- يا ربييييه، من تسلفني وأرجع لها فلوسها بعد أسبوع إن ذكرتني، إن لم تفعل (يعني ما ذكرتني) أتصرف وكأني ناسية... نذالة؟!! والله أنا طيبة لكن أخاف أقول لكاتب القصة: ليه خليتني نذله؟!! يرجع يقول لي: بطلات القصص لا يتلقفن.
.
.
حاورته، قلت له يا استاذ، لا هي قصة ولا هم يحزنون، لا فصحى ولا عامية، لا أنا ولا أنت، ولا حوار ولا موضوعية... ابتسم لي للمرة الأولى وقال: تجريييييييييييييييييييب، وأنا حر مع بطلاتي أكتبهن وأكتب بهن كما أشاء.. (قالها بالفصحى).
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس