الموضوع: تُــرَاث.!
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 05-09-2008, 23:49   #30
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

أهلاً بكِ محلّقة دائمًا ياشايعه


تأصيل مفردة (السنبوك)



سنبوك: مفردة قاموسية لنوع من سفن الغوص والأسفار
وهناك من يميّز بين نوعين من السنابيك , إذ يصطلح على سنبوك الأسفار والتنقل بالسنبوك اليماني والنوع الآخر يستعمل في رحلات الغوص والأسفار القريبة , ويصل طول السنبوك إلى ما يقرب من 150 قدما وقد تصل حمولته إلى 300 طن
ولابدّ من الإشارة إلى عدم التثبّت الذي وقع فيه من تناولوا البحث عن السنبوك من حيث الاتفاق على تأصيل تسميته أو حجمه وحمولته. فأما تسميته بالسنبوك فنجده عند الزبيدي :" السنبوك كعصفور , السفينة الصغيرة وهي لغة أهل الحجاز" .
وفي كتاب رفع الإصر تأكيد على التسمية والحجم ( ويقولون على المركب الصغير : سنبوك ) , وفي موضع آخر من الكتاب ( والسنبوق كعصفور زورق صغير والعامة لا تنطق به إلا سنبوك بالكاف ) .
وكذلك عند الزمخشري في الكشاف: "وركبت في القارب إلى الفلك وهي سفينة صغيرة تكون مع الملاحين, وسمعت أنهم يسمونه السنبوك"
وفي (شفاء الغليل) للخفاجي ترد المفردة باعتبارها مما دخل المعجم العربي فيقول: "السنبوك سفينة صغيرة تستعمله أهل الحجاز ", وعاد ثانية إلى المادة في حديثه عن ( س ن ب ك )
وذكر السنبوق بالقاف وليس بالكاف كل من الجاحظ في كتاب فخر البيضان على السودان, ولعلّه من النصوص المبكرة جدًا التي تناولت السنبوك ولم أرَ أحدًا أشار إلى وجود هذا النصّ ممن تناولوا السنبوك لأن ذكر الجاحظ له وهو من الكتّاب المتقدمين سيدحض من قال بأن تسمية هذا النوع من الزوارق متأخرة ولا ترقى إلى أبعد من العصور الوسطى في أحسن تقدير.وذكره الفيروز أبادي بالقاف: "السنبوق كعصفور زورق صغير" , وكذلك العيدروس في النور السافر في حديثه عن تغريق القاضي أبي السعود.
وذكره ابن بطوطة لأربع مرات وليس لمرتين كما ذهب إلى ذلك (هانس كندرمان ) , فلقد ذكر المادة في رحلته من البصرة إلى الأبلّة, وعند وصوله إلى مقديشو, وفي حديثه عن نيّته في مغادرته الحجاز إلى عيذاب من ساحل البحر الأحمر، وكذلك عند تناوله الحديث عن ظفار وعادة خلع الكسوة السلطانية على المراكب الوافدة من الهند
وذكره بالصاد والقاف ( صنبوق ) ابن المجاور في (صفة بلاد اليمن)
وللمقدسي في أحسن التقاسيم تسمية أبدل فيها السين شينا وحذف النون من المفردة ( شبوق ) , وإلى هذا الرأي ( حذف النون ) ذهب الزبيدي في التاج.
وفي تأصيل السنبوك بين المعجميات المختلفة نجد أن هناك تنوعًا كبيرًا فمنهم من يرجعها إلى اللغة الفارسية في مادة (سنبك ) كما عند الخفاجي في الشفاء ( قيل من سنبك الدابة على التشبيه , ولم نره في كلامهم قديما ), وهو رأي أدي شير أيضا في كتاب الألفاظ الفارسية: ( تعريب الفارسي سنبك , وأصل معناه الرجل وطرف الحافر، فكانت السفينة تصنع على هيئة الرجل أو الحافر أو النعل فسمّيت بها ), ونقل عن البرهان القاطع قوله ( سنبك بسكون النون وضمّ الباء ، سفينة صغيرة ومنها مأخوذ ما نسمّيه الآن سنبك: وهي سفينة صفيرة مصنوعة على هيئة النعل ).
وهو مذهب طوبيا العنسي أيضا في كتاب تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية.
أما من ذهب إلى إن المفردة ذات أصل يوناني أو لاتيني فهناك انستاس الكرملي: السنبوك والسنبوق لغتان معربتان وهما بمعنى واحد , وهو نوع من العود كانت تصنع منه هذه السفن على هيئته فسمّيت به.
وهذا ذات ما كتبه المستشرق الهولندي دوزي أيضا , في معجمه إن :
"سنبوق من أصل لاتيني Sambucus وهو مركب يحمل ثمانين طنا ومائة طن وله شراع كبير "
وكذلك كاظم الدجيلي في بحثه ( السفن في العراق ) الذي يذهب فيه مذهب الكرملي
وللسيد هانس كندرمان آراء طريفة نقلها في كتابه مصطلح السفينة عند العرب عن باحثين حاولوا تأصيل المفردة في لغات كثيرة كاللغة الهندية والمدغشقرية والماليزية, ففي محاولة إرجاعها إلى المعجم الهندي ينقل عن Vullers : هو زورق صغير قوي مرافق ويرجع أصل الكلمة ربما إلى الهندية ( شنبوك ) بمعنى الصدفة أو بيت حيوان الحلزون , ويرجع Gal أصلها إلى الكلمة المدغشقرية ( سامبو ) Sambou أو Tsambou أو من لغة ماليزية Sumbeu
ولكن محاولة صاحب التاج هي الأهم والأكثر جدية رغم إنها لم تجد من يتبنّاها , إذ يرى أنها جزء من الفضاء المعجمي العربي : "فلقد أكدّ إنّ اللفظة ليست مما استدرك على الجوهري, بل إن النون عنده زائدة, لذلك أورد المفردة في مادة ( س ب ك ) وهو ضرب من العدو, قال ساعدة بن جؤية:
وظلّت تعدّى من سريع وسنبك...تصدّى بأجواز اللهوب وتركد

ويؤكد الزبيدي إن ( في أصالة النون نظر ) وينقل عن الصاغاني في التكملة : هو فنعول من السبق .
وقد يفسّر لنا هذا النص سقوط النون في لفظة شبوق التي نقلها المقدسي في كلام له عن الأشياء في تسميتها أهل الأقاليم , فلو أسقطنا النون عن سنبوق فسيبقى ( سبوق ) وهنا يكون إبدال السين شينا أمرا مألوفا أو قد جرى على التصحيف , فالزبيدي يرى إن السنبوق مصحّفة عن السبوق من السبق وهي إشارة دالّة على سرعته التي يوفّرها صفر حجمه وعمله في السواحل القريبة , ففي اللسان نقلا عن التهذيب إنّ العرب تقول للذي يسبق من الجيل : سابق وسبوق , قال الفرزدق :
من المحرزين المجد يوم رهانه... سبوق إلى الغايات غير مسبّق
والزبيدي لم يكن ببعيد عنها وهو اليماني الذي نقل لنا عن الصاغاني إن السنبوق لغة جميع أهل سواحل اليمن .
أما زيادة النون فلو لم نأخذ برأي الصاغاني والزبيدي من إنها زائدة وفي أصالة وجودها في السنبوق نظر , فأنها ربما تكون قد أضيفت إليها فيما يُعرف بين علماء اللغة بتربيع الفعل الثلاثي , وهو معروف في العربية ولهجاتها وفي اللغات السامية الأخرى . وتنشأ صيغة الإضافة هذه على الأغلب من وزن فعل المضاعف العين بعد فكّ التضعيف وإدخال حرف على الثلاثي يكون إما بعد فاء الفعل وإما بعد عين الفعل وهذا تعويض عن التضعيف مع دلالة جديدة في المعنى
وفي مادة سبق يكون حرف النون قد دخل الفعل بعد فائه ( سنبق ) فالنون أحد الأحرف الزلقية المجهورة الثلاث ( ل ن ر ) التي تدخل على الفعل الثلاثي لتربيعه وزيادة معناه. فالعربية لغة اشتقاقية وتركيبها يكون مزجيا لا نحتيا, لذا فهي تعتمد في نمائها وزيادة معانيها لمواكبة عصرها والتواصل معه من خلال توليد الكلمات من أصول عامة وذلك بإضافة أحرف معينة إلى تلك الأصول أو تكرار بعض الأحرف أو تقديم وتأخير مع الاستعانة بتغيير الحركات.
وينقل البير مطلق رأيا آخر في تأصيل المفردة وإرجاعها إلى المعجم العربي لـ ( كاهانه ) فأنها عنده من أصل عربي ( Shabbak ) تحوّل في الايطالية إلى ( Zambesso ) وانتشر في القرن السابع عشر في البحر الأبيض المتوسط , فلقد عُرف في اسبانيا بـ(Chamambequi) وعاد اللفظ إلى العربية عن طريق التركية, ولفظه في التركية ( سومبكي ) .
ورغم طرافة هذا الرأي فأنه لا يخلو من تعسّف ظاهر في عملية الاشتقاق التي قادت المفردة إلى معجميات مختلفة لترجع إلى اللغة الأم بنطق غير مستقر ومختلف عليه بين سنبوق وصنبوق وسنبك وسنبق كما عند تيمور في معجمه الكبير وشبوق وسنبوك .
وأشير هنا إلى إن وجود نصّ مبكر للجاحظ لم يتناوله بالإشارة من تحدّثوا عن السنبوق أو لم يقعوا عليه يؤكد أن المفردة كانت متداولة منذ العصر العباسي الأول وربما أسبق من هذا التاريخ لورودها بصيغة مستقرة تماما في هذا النصّ, وتنقض رواية الجاحظ ما نقله الزبيدي عن الخفاجي من إن السنبك ليس من الكلام القديم.
وقد يريد الخفاجي في روايته ـ كما نقلها الزبيدي ـ" السنبك الدالّ على الزورق لا الدالّ على حافر الدابّة لأنها معروفة بهذا المعنى في اللغة العربية منذ الجاهلية وعصر صدر الإسلام, ففي شعر لعلقمة الفحل :
لا في شظاها ولا أرساغها عنت .... ولا السنابك أفناهن تقليم"

والمادة معروفة في المعاجم العربية.
بقي أن أشير إلى حجم السنبوك وسعته وأماكن انتشاره واستعمالاته, ففي أقدم إشارة إليه ( الجاحظ ) نخرج بصورة عن مركب كبير يتّسع لألف رجل محارب بعدّتهم وعتادهم : ( إن ملك الزنج إذا غضب على أهل مملكته ولم يتّقوه بالخراج , بعث ألف سنبوقة في كلّ سنبوقة ألف رجل ), وهي إشارة تعزّزها بعض روايات ابن بطوطة من أن السنبوق كان يستعمل في السفر والتنقل في البحر الأحمر وسواحل اليمن.
أما الروايات التي نقلها الرحالة والجغرافيون الأوربيون وأصحاب المعجمات العربية فتشير إلى أن السنبوق يتّسع إلى خمسين طنا وأحيانا إلى مئة وثمانين طنا ويدفع ( خالد محمد سالم ) الحمولة لتصل إلى ثلاثمائة طن والطول إلى مئة وخمسين قدما , وبإمكانه الوصول من نقطة انطلاقه من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الصين.
وكان السنبوك حسب إشاراتهم من سفن النقليات الشراعية الكبيرة التي يمكن مشاهدتها في البصرة والخليج والبحر الأحمر لنقل الحجاج إلى مدينة جدة في الحجاز وموانئ البحر الأحمر الأخرى.
وأما الإشارات إلى صغر حجمه فهي كثيرة أوردها الزمخشري والخفاجي والصاغاني والزبيدي وابن بطوطة وأدي شير والعنيسي وأحمد تيمور ودوزي ..
ولا يخرج توصيفهم عن إنه سفينة صغيرة تستعمل في النقل والإبحار في مسارب الأنهار وفي البحر قرب السواحل لاستقبال السفن الكبيرة الوافدة من مناطق بعيدة والرحلات البحرية القريبة وفي الحمولة والتوجه المغاصات.
أن السنبوق جزء أساسي من نمط العيش في العراق والخليج العربي وبحر العرب وخليج عمان وسواحل اليمن والحجاز ولقد أتسع نطاق استعماله حتى شمل حوض البحر المتوسط , فلقد انتشر السنبوق في القرن السابع عشر حتى عُرف في اسبانيا وتركيا وايطاليا واليونان , وكان معروفا في صيدا باسم سنبك
ولقد عُرف منذ زمن بعيد وليس كما حاول البعض إرجاعه إلى فترات متأخرة .
والمفردة كما أرى إليها تأصيل واشتقاق من جذر سبق كما أشار إليها الجوهري وأكدّها الزبيدي في تاج العروس.


منازل ـ صلاح حيثاني




التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس