مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 08-09-2007, 21:50   #6
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!



.


إنه هناك.. فوق.
عواض العصيمي*


التفت في منتصف كلامه إلى الخلف، ثم نظر إلى أعلى، جهة السماء.
كان يتحدث عن أصوات الحمام التي تنتقل معه إلى سكنه. بلع ريقه، واشتكى مجدداً من امتناع النوم إلى أصدقائه الجالسين على الأرض بين كراسٍ خشبية محطمة. قال إن ما يسمعه من الحمام في النهار، يهبط عليه في الليل مثل رش الماء، بل يعيد نفسه مرات ومرات، إلى أن ينقضي الليل دون أن ينام. ليس توهماً، قال، بل أصواتها التي تسمعنا إياها وهي واقفة على قوائمها في الأقفاص، كما تفعل الآن. ثم سأل، بعد أن عاد من عند زبون أراد زوجاً منها: هل تسمعونها الآن؟ ردوا بالإيجاب. كانت أصوات الحمام لحظتها تتردد داخل أقفاصها البلاستيكية البيضاء التي بدت أكثر اتساخاً في الظل. قالوا إنها تصل إليهم في هذه اللحظة، بالمقدار نفسه في سائر اللحظات. طوال الوقت، يهدل الحمام بالطريقة نفسها، كذلك الببغاوات تصوت في أقفاصها على طريقتها، وأيضاً تغرد العنادل، وعصافير الكناريا، والدوري، وبقية الطيور في السوق. شرحوا له ذلك مراراً، وفي كل مرة كان يهز رأسه موافقاً على كلامهم، غير أنه بعد وقت قصير يجدد الشكوى، ويقول أنه يسمع أنيناً نافذاً كالطعنة، وليس هديلاً كما يصفونه. بعد جدلٍ، فهموا أنه والحمام يستحيل أن يعيشا في مكان واحد، إلا إذا تخلى الحمام عن هديله، أو وجد هو علاجاً لمشكلته الغريبة. أخذوه إلى شيخ دلالي الطيور، فعرض عليه أن يكلم له بائع طيور البلابل عله يوافق على استخدامه مؤقتاً ريثما تخف الحالة. علل اقتراحه قائلاً أن أغاريد البلابل جميلة وباعثة على الشعور بالارتياح النفسي والمزاج الرائق. لكنه حضر في صباح اليوم التالي مبكراً على غير عادته. قال إنه تلقى، في إغفاءةٍ قصيرة ظفر بها آخر الليل، أفظع حلم في حياته. فرح أصدقاؤه بخبر نومه أخيراً. هنئوه، ارتجلوا له من الكراسي المحطمة كرسياً شبه متماسك الأعضاء، ثبتوا الكرسي على مسافة أمتار من واجهة محل بيع البلابل، ثم قدموا له كوب شاي احتفالاً بانتهاء محنته. لكنه جاشت عيناه فجأة، ولما لم يقوِ على التماسك واقفاً، ترك قامته تنهار إلى الأرض. قعد إلى جوار الكرسي، وهو ينقل بصره بين الحمام والعنادل وبقية الطيور. إنه الأنين نفسه الذي سمعته من قبل، قال، أتسمعونه مثلي؟ فاجأتهم حدة انفعاله، ما حدا بأكثرهم تعاطفاً معه إلى أن يضغط بأسنانه على شيءٍ دبقٍ وجده في فمه من دون أن تكون لديه أدنى فكرة عنه. أما هو فصعد بصره إلى السماء المقشرة في نظره من أية مسافة تطير فيها هذه الطيور وتعود حية. فقد بدت رغم اتساعها وعلوها الهائل مكمناً قريباً جداً لشيءٍ خطرٍ يوشك أن ينقض على المكان. شيءٌ في غاية التوفز، ولديه من قوة الفتك ما لا يمكن تقديرها. وهو هناك منذ اتسع المكان فصار سوقاً واعداً للطيور من كل الأصناف والأحجام. أول ما أحس بوجوده الخفي، لاحظ في عيون الحمام وَجَلَ الطرائد، ورآها تضطرب حياتُها في الأقفاص، وتنظر إلى أعلى بالتناوب، كما لو أنها تترقب انهياراً وشيكاً لسقف المحل. بعد مرور وقت لا يعتبر قصيراً في حياة الطيور الخائفة، سمع منها الأنينَ يزدادُ صوتُه، ويعلو في الأقفاص ضجيجُهُ، إلى أن استقر في روعه أنها يعذبها سماعُ أنينها، كما يعذبه سماعُه في الليل، إنها مثله، قد تغفو، لكن أنينها لا ينام.


ـــــــ

قاصّ وروائي سعودي.
.

فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس