مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 28-08-2003, 21:01   #55
الجازي
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ الجازي
 

رساله إلى مي تتجلى فيها فلسفة نستطيع من خلالها قراءة جبران خليل جبران ..

عزيزتي اللآنسه مي

انت حاقده علي , ولك الحق , ومعك الحق ,وما علّي سوى الامتثال فهلا نسيت إثماً اقترفته وانا بعيد عن عالم المقاييس والموازين ؟ هلاّ وضعت في " صندوق الذهب " مالا يستحق الحفظ في الصندوق الأثيري ؟

ان مايعرفه الحاضر يجهله الغائب وليس من العداله ان تحسب جهل الغائب وليس من العداله ان تحسب جهل الغائب جريمه فالجرائم لاتكون الا في موضع الآدراك والمعرفه , وانا لااريد ان اسكب سهواً قليلاً من الرصاص المذّوب او الماء الغالي على اصابع العارفين المدركين لعلمي ان الجريمه نفسها عقاب المجرمين وان مصائب اكثر الناس في ما أسند اليهم من الأعمال .

لقد أستأنست بذلك العنصر الشفاف الذي تتلاشى امامه المسافه والحدود والحواجز , والنفس المستوحشه لاتستأنس الاّ بذلك العنصر ولا تستصرخ سواه ولا تستنجد غيره . وانتِ – انتِ التي تعيشين كثيراً في عالم المعنى تعلمين ان العنصر الشفاف فينا يتنحّى عن جميع اعمالنا ويبتعد حتى وعن أجمل ميولنا البيانيه وأنبل رغائبنا الفنيه , فهو وإن جاور الشاعريه فينا لاينظم ذاته نشيداً نشيداً غنائياً ولا يضع خفاياه في الخطوط والألوان , كل بشّري يستطيع التكلف بمنازعه واللعب بمطامعه والمتاجره بافكاره ولكن ليس بين البشر من يستطيع التكلف بوحشته او اللعب بألمه او المتاجره بجوعه وعطشه , ليس بين الناس من يقدر ان يحوّل احلامه من صوره الى صوره او ينقل اسرار نفسه من مكان الى مكان .
وهل بأمكان الضعيف والصغير فين ان يؤثر على القوي والعظيم فينا ؟
هل بأمكان الذات المقتبسه وهي من الأرض أن تحوّر وتغيّر الذات الوضعيه وهي من السماء ؟
ان تلك الشعله الزرقاء تنير ولا تتغيّر وتحوّل ولا تتحوّل ولا تأتمر .
هل تظنين حقيقةً , وأنتِ ابعد الناس فكراً, ان " التهكم الدقيق " ينبت في حقل يفلحه الألم وتزرعه الوحشه ويحصده الجوع والعطش ؟
ينبت في حقل يفلحه الألم وتزرعه الوحشه ويحصده الجوع والعطش ؟
هل تظنين ان "النكته الفلسفيه " تسير بجانب الميل الى الحقيقه والرغبه في المجرد المطلق ؟
لا ياصديقتي , انتِ أرفع من الشك والأرتياب . الشك يلازم الخائفين السلبيين والأرتياب يلاحق منّ ليس لهم الثقه بنفوسهم , أما انتِ فقويّه ايجابيه ولكِ الثقه التامه بنفسك فهلاّ كنتِ مؤمنه بكل ماتضعه الايام في راحتيك ؟
هلاّ حولتِ عينيك عن المظاهر الجميله الى الحقيقه الجميله ؟
انا في غربتي منتصب كالحلم والحقيقه , فكنت كلما كتبت اضعت نفسي في الماضي اعود الى الحاضر فأجدها وكلما فقدتها اعود الى ظل الأيام الجميله التي قضيتها بينكم فأذا بالألفاظ والأحلام والأفكار تتحول في فمي إلى سكوت عميق ..
اجلس على شط البحر وانظر الى ابعد نقطه من الأفق الأزرق وأسأل ألف سؤال وسؤال :
تُرى هل لنا من مجيب في ربوعكم ؟
تُرى هل تنفتح الأبواب الدهريه ولو لدقيقه واحده عن " تلك الأنظمه السريه النافذه حولنا في الحياة قبل أن يضع الموت نقابه الأبيض على وجوهنا ؟" وانتِ تسالين مااذا كنتُ لا " استطيب الفائده في التفكهه بلا اجهاد " اني أستطيبها الى درجه قصوى ولكن بعد ان اترجم لفظها الى لغتي الخاصه !!!
أما الأجهاد فسّلم نصعد عليه لنبلغ العليّه . انا افضّل الصعود الى عليّتي طائراً ولكن الحياة لم تعلّم جانحيّ الرفرفه والطيران فماذا افعل ؟ وانا أفضّل الحقيقه الظاهره , وأفضّل الحاسه الصامته اكتفاءً وأقتناعاً على الحاسه التي تحتاج الى التفسير والتعليل . غير اني وجدت ان السكوت العلوي يبتدىء دائماً بكلمه علويه .

اظن ان مقالتك في " المواكب " هي الأولى من نوعها باللغه العربيه . هي أل بحث في مايرمي إليه الكاتب بوضع كتاب , حبّذا لو كان بأمكان أدباء مصر وسوريا أن يتعلموا منكِ استجواب ارواح الكتب دون اجسادها واستفسار ميول الشعراء النفسيه قبل أستقصاء مظاهر الشعر الخارجيه . يجب علّي ان لا أحاول اظهار امتناني الشخصي على تلك المقاله النفيسه لنني اعلم انها كُتبت وانتِ منصرفه عن كل شيء شخصي . واذا حاولت اظهار امتناني القومي بصوره عموميه اوجب علّي ذلك كتابة مقالة في تلك المقاله وهذا امرٌ يحبه الشرقيون في الوقت الحاضر من الأمور التي لاتجاور الذوق السليم ! ولكن سيجىء يوم اقول في " ميّ" ومواهبها , وستكون كلمتي هائله ! وستكون عريضه ! لنها صادقه ولآنها ستكون جميله .
ان الكتاب الذي سيصدر في " المستوحد " " ربما اقوم بتغييره بأسم آخر وهو مؤلف من قصائد وأمثال والثاني كتاب رسوم رمزيه بأسم " نحو الله " وبهذا الأخير انتهي من عهد وابتدىء بعهد آخر . وأما " النبي " فكتاب فكرت به منذ الف سنه ! ولكنني لم اكتب فصلاً من فصوله حتى اوآخر السنه لغابره .
وماذا عساي أن اقول لكِ عن هذا النبي ؟
هو ولادتي الثانيه ومعموديتي الأولى , هو الفكره الوحيده التي تجعلني حريّاً بالوقوف امام وجه الشمس , ولقد وضعني هذا النبي قبل ان احاول وضعه , والفّني قبل أن أفكر بتأليفه , وسيّرني صامتاً وراءه سبعة الآف فرسخ قبل أن يقف ويملي علي ميوله ومنازعه .

ارجوا ان تسألي رفيقي ومعاوني العنصر الشفاف , عن هذا النبي وهو يقص عليك حكايته , اسألي العنصر الشفاف , اسأليه في سكينة الليل عندما تنعتق من قيودها وتتملص من اثوابها وهو يبوح لكِ باسرار هذا النبي وبخفاياه عجزت وعجز قلبي عن حلها .

انا أعتقد ياصديقتي أن في العنصر الشفاف من اعوم ما لو وضعنا ذرّه منه تحت جبل لأنتقل من مكان إلى مكان آخر, وأعتقد , بل وأعلم , اننا لانستطيع أن نمد ذلك العنصر سلكاً بين بلاد وبلاد فنعلّم بواسطته كل مانريد ان نعلمه ونحصل على كل مانشوق إليه وبتغيه .

ولدّي أمور كثيره اريد ان أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر , ولكن عليّ أن أبقى صامتاً عنها . وسوف ابقى صامتاً حتى يضمحل الضباب وتنفتح الأبواب الدهريه.. لتقول لي " تكلّم , فقد ذهب زمن الصمت وسر فقد طال وقوفك في لال الحيره "

هل تعلمين أي متى تنفتح الأبواب الدهريه ويضمحل الضباب ؟

والله يحفظك ياميّ ويحرسك ويرعاك

المخلص
جبران خليل جبران

التوقيع: صدر حديثا ل الجميلة المبدعة نوف محمد الثنيان الشاعرة والقاصة http://eqla3.net/book/hakaya.html
الجازي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس