مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 10-06-2002, 22:18   #1
مصوت بالعشا
عضو
 

ماهو الشعر ، وكيف ؟ .. رؤى و شذرات نقدية

من السهولة جداً أن تكتب كلاماً تلتزمُ فيه بوزن واحد ، وقافية و احدة . ولكن هل كتبت شعراً ، أم هو مجرد كلام موزون مقفى لا يمت للشعر إلا بصلة الوزن و القافية ، ثم لا شيء ..

ما هو الشعر إذا لم يكن هو (( فقط )) الوزنُ و القافية؟ ..

الشعرُ في تقديري هو (( المجاز )) . والمجاز هو قرين الحقيقة لا واقعها . وهو أن تبتعدَ عن المباشرة قدر الإمكان . والمباشرة أن تصف ما تراه مباشرة ، وبأسلوب يستخدمه الناس في الحديث العادي عن الأمور ، كأن تقول : " فلانٌ كريم" . فلو قلت مثلاً : " فلانٌ كثير الرماد " ، تكونُ إلى المعنى الشعري أقرب ؛ فأنت ذهبت إلى الاستعارة ، و استعرت صورة ، ليتكون المعنى في ذهن القارئ أو المستمع ، تكوّناً بلاغياً ؛ بمعنى أن يتصور القارئ الرماد ، ثم يصل إلى أن الرجلَ الذي يَــكثرُ رماده ، يكثرُ بالتالي بذله و عطاءه و إكرامه لضيوفه ، فيصبح كريماً ..

ولو أجرينا هذه المعادلة على نتاج أحد كبار الشعراء ، وليكن بدر بن عبدالمحسن مثلاً ، سنجدُ أنه بقدر ما يبتعد عن المباشرة و التقرير ، بقدر ما يطرح شعراً رائعاً . خذ هذه المقارنة مثلاً :

يقول أحد الشعراء العاديين :

وهبت شمال ، وبددت مقبل الغيم
والشمس بانت و السحاب إمتبدد

لاحظ أن الشاعرَ هنا كان " أميناً " في نقل ما يراه ، ولم تكن مهمته سوى صب ما يراه بحذافيرية في " قالب" وزني مُعد في ذهنه سلفاً . و لا شيء بعد ذلك ..

ثم نذهبُ إلى بدر بن عبدالمحسن ، لنر كيفَ تعامل شعرياً مع نفس المعنى . يقول بدر :

رمح الشمال اللي طعن مهجة الغــيم
شق السحاب ، وسالت الشمس منه !

بدر ، رأى أن ريح الشمال كانت "رمحاً " ، وأن هذا الرمح هو الذي أغتال هذا الغيم ، بطعنة منه ؛ أما شعاع الشمس الذي تسلل من تلك الطعنات ، فلم يكن لدى بدر إلا الدم الذي سال بعد هذه العملية ..

الشاعران في المثالين اتفقا فقط في الوزن ، غير أنهما تباعدا بعد ذلك في كل شيء ؛ وهذا التباعد هو تباعدٌ في الواقع بين الشعر وبين ما هو غير شعر . فالبيت الأول كان نظماً ، بينما بيت بدر كان كماً كثيفاً من الشعر في أوضح معانيه ..

والشعرُ دائماً و أبداً هو أبعد المسافات بين نقطتين . واللا شعر هو أقرب المسافات بين نقطتين . فمثلاً فهد عافت عندما أراد أن يصف من هي أمامه بالجمال ، كان بإمكانه أن يقول : "الله كم هي جميلة" ، غير أنه التقط معناً آخر، وذهبَ بعيداً عن المباشرة ، ليعود إلينا بعد لف و دوران شعري جميل ، و يقول :

نادت : "مشاري" ، و ردوا الناس : لبيه
من زينها ، كل الـــــخــلايق مشـــــــــاري !

وكما يقول فوهلر فيما نقله الدكتور أحمد صبحي : ( نحنُ نكتب الكثير من اللا شعر ، لنصل في النتيجة إلى النهاية الشعرية للنص ) . وهذا ما ينطبقُ كثيراً على بدر بن عبدالمحسن . فهو يبني قصيدته " الحداثية خصوصاً " على الكلام المباشر ، أو التقريري ، عير أن ذلك يكون بناءً تمهيدياً لما يُمكن أن نسميه " القفلة الشعرية " في النهاية ، والتي تكون في الغالب كثيفة الشاعرية أو الشعرية . يقول ـ مثلاً ـ في قصيدته المشهورة : ( ثلاث ملامح لوجه واحد ) :

على الغدير كانت سما ..
ويرمي الضما وجهي عليه ..
على الغدير وجه و سما ..
لين أرتما وجهك عليه ..
على الغدير ..
وجهي ، و وجهك ، والسما ..
من يسبق و يملا يديه ..
يشرب ملامح صاحبه !! ..

فعندما يقول : ( على الغدير كانت سما ) هو يصف مباشرة ما يراه أمامه ، ثم يتقدم شعرياً قليلاً عندما يضيف : ( يرمي الضما وجهي عليه ) . ثم يعود للمباشرة مرة أخرى ويقول : ( على الغدير وجه وسما .. لين أرتمى وجهك عليه ) ، ثم يقفز بفن و اقتدار إلى المعنى الشعري الذي كان يحثُ الركاب نحوه : ( من يسبق و يملا يديه .. يشرب ملامح صاحبه!!).. ولو عُدت إلى هذا المقطع لوجدت أن أكثر من ثلثيه كان كلاماً مباشراً لا شعر فيه ، بينما أن الثلث المتبقي ، أو القفلة الشعرية ، أو النتيجة ، كانت هي الشعر بصورة غاية في الثراء و الجمال والعذوبة . وهذا ما كان يعنيه فوهلر ..

ولا يمكن أن يتسع أفق الشاعر و تزداد خصوبته الشعرية ، إلا بالإطلاع والقراءة و الثقافة ، وبعد ذلك بالتمرين و الكتابة و المثابرة و الإصرار . فالموهبة ليست ، ولا يمكن أن تكون ، شرط كفاية للشاعر ، بل هي فقط شرط ضرورة . أي أن وجودها وحده لا يكفي ، إذا لم تتضافر معها جهود الشاعر الذاتية لصقل هذه الموهبة، و الرقي بها ، وإثراؤها بكل ما من شأنه توسيع مداركها و صيغها الضمنية و الشكلية . كما أن كل جهودك الذاتية من وعي و ثقافة و إطلاع تصبحُ ضرباً من ضروب العبث إذا لم تتوفر الموهبة ..

ولم يصل شعراء كبار مثل نزار أو أدونيس أو بدر شاكر السياب ومن في طبقتهم إلى ما وصلوا إليه إلا بالإطلاع والوعي و الثقافة . وأكاد أجزمُ أن شاعراً في قامة بدر ، أو فهد عافت ، لا بد وأن يكونا على درجة من الوعي ، والإطلاع ، وإستيعاب تجارب من سبقوهم في هذا المضمار ؛ وهذا لا يتأتى إلا بالقراءة و التماحك الثقافي بشتى صوره ..

وكتابة الشعر ، أعني لحظة كتابته ، تحتاج من الشاعر فضلاً على الفكرة ، والرغبة في الكتابة ، أن يكون ذا إصرار و مثابرة وصبر و تؤدة . وعملية الكتابة ذاتها إذا لم تكن معاناة ، وتحدي ، ومواجهة الرفض و العجز بالملاحقة ، فلا يُمكن أن تُفرزَ شيئاً مميزاً أو ذا قيمة . يقول الشاعر المعروف أمل دنقل واصفاً معاناته عندما يكتب الشعر : ( والقصيدة عندي أزمة حقيقية ، تتوتر فيها الأعصاب و المرئيات ، ومن ثم الكلمات ؛ أحس أن كمية الهواء الداخلة إلى رئتي غير كافية ، أختنق ، ربما أبدو عدوانياً ، وحين تجيء القصيدة أعودُ إلى سابق حالتي ) . نقلاً عن "أحاديث أمل دنقل" ..

وكان نزار يقول : ( ربما يمضي الشهر و الشهران لا أستطيع فيهما أن أكتبَ بيتاً واحداً ) . نقلاً عن كتاب "شيء من النثر " . ولو إستسلمَ نزار لعجزه في هذين الشهرين لما حضيَ عصرنا بهذا الشاعر العظيم ، غير أن إصرار الشاعر و عزمه لا يتوقف ، ولا يقر إطلاقاً بالهزيمة ، فالإلحاح على الفكرة ، وإتقان فن "الشطب " قبلَ إتقان فن الكتابة ، هو كفيلٌ في النهاية بخلق شعر متميز ، وشاعرٌ متألق ..


[c]******[/c]

وبعد ... هذه شذرات نقدية ، كل ما أردت من طرحها هنا أن أثري هذا الجانب الضعيف من المنتدى ، وأن أضيفَ شيئاً ، حسب قدراتي النقدية المتواضعة ..

التوقيع: يا مجدّله شعرك نفود .... وعالي جبينك هالنجود
وقلبك هضابٍ بينها .... أطهر مكانٍ في الوجود !

اخر تعديل كان بواسطة » مصوت بالعشا في يوم » 10-06-2002 عند الساعة » 22:26.
مصوت بالعشا غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس