مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 23-06-2012, 14:21   #2
يعرُب
 

رد : الطريق إلى دوشنبه .!





1
طلع الفجر وكنت أول الواقفين أمام بوابة المدينة ، حصلت على توصية من مرشدي حول ماذا يعني اسم " دوشنبه " وبالفعل حدث أن سألني أحد الحرس عن ذلك ، أجبته أن ذلك يعني الاثنين ، وحينما اجتزنا البوابة وجدت أن المساحة أمامي مجرد فضاء واسع لا أرى أي مباني ، أخذت دليل من خلف الأسوار ، أخبرني عن ساعتين نحتاج حتى نصل إلى العاصمة الطاجيكية ، تناولت الإفطار في قرية صغيرة ، اسمها " برني " ، يجيدون فيها صنع الشاي ، هي صغيرة مجموعة بيوت من الطين والصفيح ، تمتد على الشارع العام ، سالت دليلي عن مقبرة هذه القرية ، فأرشدني لها لا أعلم لماذا رغبت في زيارتها ؟ ، عدد قليل من القبور بينها قبة خضراء ، اعتقد أنها أخذت دخل سنة كامل من أهل القرية ، وعلى طرف القرية باتجاه العاصمة توقف دليلي وقدم مبلغ لسيدة عجوز تجلس على عتبة صغيرة أمام منزلها ، لم أفهم منه إلا كلمة " عربو " توقعت أنه يقصدني ، لا تحمل الذاكرة من ذلك المكان إلا " عربو " كنت أتمنى أن أعرف ماذا يدور داخل تلك السيدة عن تلك الكلمة وبماذا تحدث نفسها عن العرب .

انطلقنا نحو " دوشنبه " حتى وصلنا ضواحيها ، طلبت منه أن نستأجر شقة أقيم فيها لم نجد إلا غرفة جيدة عند شخص كبير في السن اسمه " عليلو " تقع في الطابق الثاني ، قلت لدليلي لن أدخل المدينة ألا بليل ، وقل أن ذلك بدعة أو خرافة المهم أن الليل يخفي بؤس المدن وأسرارها ، وقبيل الغروب بساعة ، كنت أجلس مع عليلو على كرسيين تتوجه أنظارنا للمدينة ، أغلب حديثنا بالإشارة ، إلا أن عيونه كانت تتحدث بالكثير عن تلك المدينة مما جعلني اشتم رائحة الدم مع نسمات قادمة منها .

ما أجمل أن تشاهد الرياح وهي تداعب العشب وكأنها أمواج بحر ، قدِمت بنته ووضعت ثالث الكراسي وجلست ، تترجم ما يحدّثنا به والدها ، أخبرتني عن المذبحة لكني لم أهتم للتفاصيل ، كنت اسألها عن حالها ، قالت أنها تدرس في موسكو " علوم سياسية " ، وهي هنا تقضي إجازتها مع العائلة .

ما إن بدأت قوافل الغروب تهاجم آخر الخيوط من الشمس المنسحبة حتى رأيت سيارة رفيقي قادمة ، رغم قدم موديلها إلا أنك تشعر بأمان داخلها ، يتحدث عنها وكأنها عروسه التي لا يفارقها ، ما أجمل أن تجد من يجعلك تنظر للأشياء بمتعة ، من حديثه عنها جعلني في عشق لها .

2
دخلت المدينة من جهة الحي الروماني ما إن وصلت عند أول ظهور للبنايات طلبت من السائق التوقف ، حملت حقيبتي على ظهري وطلبت منه العودة من حيث أتى ، سرت في الحي الروماني وهو عبارة عن شارع واحد لم اعتقد أن له نهاية ، على جانبيه مجموعة من البنايات الحديثة ، الإضاءة في الشارع خافتة ، وحينما تنظر للمصابيح المعلقة على الأعمدة المتراصة على طول الطريق ، تكتشف عذابات تلك المدينة ، دائما تلك الإضاءة الخافتة تُظهر لك حال المدينة في صباحاتها ، قضيت الليل أتجول في المدينة ، أتذوقها مع نسمات استنشقها ببط ، أبحث عن أسرارها المخبأة ، أعشق أن اكتشفها بنفسي قبل أن يكشفها نور الصباح .

سكنت في أحد البنايات التي تشرف على ساحة يتجمع فيها الجمهور من بعد العصر حتى وقت ليس متأخرا ، لاشيء يعكر صفو تلك التجمعات غير بعض المضايقات الخفيفة التي يعملها بعض الشباب ضد الفتيات من لابسات الجينز الذي يفلق المؤخرة إلي نصفين ، تلك المناظر تذكرني بصديق لنا انهار في العاصمة دمشق ، لم يكتفي بلذة مشاهدة جمال الأنثى ، بل أراد أن يتجاوز تلك اللذة إلى ما هو أبعد من المشاهدة ، غلبته شهوته

في كل صباح أحمل طفاية سجائري وهي تشبه علبة النيدو الصغيرة إلى أعلى نقطة في البناية وأنظر إلى الشمال حيث الجبال البيضاء ، من لم يشاهد الثلج على طبيعته لن يعرف كيف هي حالي وأنا أراقب البعيد حيث تلتقي السماء بتلك الجبال المكسوة بقطعة قماش من الحرير الأبيض مُلقاة بطريقة غير مرتبة .
3
في أحد المطاعم تقدم نحوي شاب أربعيني طلب منى أن أشاركه الطعام مع عائلته ، كان أحد طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، على درجة كبيرة من الأخلاق والالتزام ، كان يتحدث معي بصوت مرتفع يظهر للآخرين إجادته للغة العربية ، زرته في بيته ، في منطقة اسمها " كلوش " هكذا اعتقد مع الذاكرة ، مجموعة من البنايات المتشابه ، أتذكرها حينما أزور أحد الأصدقاء في مشروع الأمير فواز بجدة هناك بين البنايات اشعر أني في بلد اشتراكي . برغم بساطة شقة أبو حبيبة الطاجيكي إلا أن لمسة الجمال موجودة في كل ركن وزاوية ، وكل قطعة أثاث في ذلك المنزل الصغير ، يجمّلون الأشياء رغم بساطتها .

زرته في ورشته الصغير في السوق القديم بالحي الشعبي في الطرف الجنوبي من العاصمة ، كان يعمل في النقش على الذهب ، أدمنت زيارته كل مساء ، بجوار محله ، فتاة تبيع الشاي مع قطعة خبز بداخلها لحم مفروم لذيذة ، ليس قطعة الخبز بل الفتاة ، هي في الرابعة عشر تقريبا ، كنت اذهب للشراء منها كل يوم لأنها تذكرني بفتاه اسمها " طيبة " ، أحمل معها ذكريات سبع سنين ، أحيانا وأنا اشتري منها أحدثها بالعربي وأنتظر الأمل أن تحدثني بنفس لغتي ، امنّي نفسي بذلك ، ما هي إلا لحظات حتى تنهار تلك الأماني ، وتبقى روح طيبة بداخلها .

4
أعشق السير كثيراً في المدن التي أزورها ، سرت داخل دوشنبه حتى أرهقت شوارعها ، وأحب أن تجول في الأحياء الشعبية ، وأكره زيارة المتاحف ، من الأشياء التي لفتت انتباهي ، دورات المياه العامة ، والتي تدفع مقابل أن تقضي حاجتك مبلغ من المال ، حتى ظننت أن نصف أهل البلد يستثمرون نقودهم في تلك الحمامات .

انتقلت للسكن في الحي الشعبي ، غرفة في منزل لسيدة اسمها " فاطمة دلّو " تحدثني دائما عن أصولها العربية وأنها من الأشراف . طلبت منها وجبة شعبية ، وجدت أن أغلب وجباتهم تعتمد على العجين واللحم المفروم ، يكثرون من شرب الشاي الأخضر .

نجتمع في ساحة مجمع فاطمة ، تلك الساحة التي تشرف عليها جميع الغرف بالمجمع الصغير ، سُكانها خليط ، يجمعهم سهرات صاحبة المنزل اليومية ، والتي تبدأ من بعد العاشرة ، عشقت تلك الجلسات ، كانت ثلاث فقط ، إلا أني مازلت أحمل ذكراها بداخلي ولا تفارقني الضحكات المختلطة ببكاء المتعة .

5
خرجت منها بصبح أسير وأحمل حقيبتي على ظهري وبداخلي الكثير من ذكريات لمدينة ، لم أمنحها الكثير ومنحتي روح " طيبة " ، مجموعة ليالي ونهارات قضيتها بين ساحاتها وأزقتها ، علمتني تلك المدينة أنك تستطيع أن تشاهدها داخل عيون صبيّة ، نظري لا يفارق أفقها البعيد حيث الشمس والثلج .

على طرف المدينة أخذت سيارة وقضيت بقية النهار عند " عليلو " وابنته التي أخذتني نحو بوابة المدينة بسيارتها ، والدها وأثناء توديعه تمتم ببعض الكلمات وحينما سألتها عن ذلك قالت أنه يقول " أنها لن تمنحك أكثر من توصيلة " وضحكت .

لحظات قضيتها معها أمام البوابة وهي تحدثني عن وطنها ، قوم يجيدون حب الوطن حتى وإن كان الوطن لا يمنحهم إلا القليل وربما في بعض الأحيان يأخذ منهم الكثير ، وقبل الغروب ترجلت متوجها نحو البوابة الشمالية مرة أخرى .

أغمض عيني في كل مرة وأنا أكتب هذه الأسطر ، فأجد نفسي تطير نحو ساحة الخُلد ، هناك قابلت سيدة ، أخبرتني أنها من بنات الثلج وأنها تحمل طفلي بداخلها .






التوقيع:
مرحبا ان كان ديني جاهلية



يعرُب غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس