الموضوع: رع ـشة خلخال ـي
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 26-03-2011, 00:01   #3
قرّة العَينْ
عضو شعبيات
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ قرّة العَينْ
 

جـنـون الـعـاشـقـين - الجزء 1

جنون العاشقين - الجزء 1

قاربت الساعة على إعلان وشك بزوغ الفجر بعد ليلٍ سرمدي طويل أبى أن يزيح ظلاله الحزينة من على عينيها. كانت مستلقية على فراشها، محاطةً بتلك الجدران الباهتة التي سجلت أحداثاً غير منسيّة، وتذكرّها دوماً بمدى جمال العاطفة التي استوطنت روحها وقلبها دون أدنى فرصة لتحررٍ محتمل. رغم البرد، قررت النهوض من فراشها. عقدت يديها على صدرها، وعلى مهل توجهت نحو الشرفة. أزاحت الستار جانباً برفق، وألقت نظرةً خجولة على الخارج حيث خيّم الصمت. تأملت بضع نجوم مبعثرة في السماء. إلتفتت يميناً حيث اتخذ طيرٌ من إحدى زوايا شرفتها مرقداً له، بدا غارقاً في نومٍ عميق، مستسلماً بعد نهارٍ حافل. تمنت حينها أن تحظى ببضع ساعات من النوم، يحررها من تسلط الظنون، ويخلصها من "وشوشة" الأفكار وصخبها.

أسدلت الستار، ثم إستدارت حيث واجهت المرآة. تأملت تقاسيم وجهها، التي مُزجت بمثالية بين السحر العربي الأصيل والوهج الفارسي النادر، واستعادت ذكرى كلماتٍ ذات سحرٍ شكسبيري، قيلت لها على لسان فارسها العربي الذي أشاد في مناسبات عدة بأصولها الفارسية، وعبر مراراً عن تقديره وإعجابه بأول إمبراطورية عالمية، امتدت شرقاً وغرباً بفضل سواعد أجدادها الأولين. إنها تتفهم ميوله وانبهاره. فمثل هذه الحضارة، التي تعود الى مئات السنين قبل الميلاد، كانت ولا تزال موضع اعجاب بالنسبة للمثقفين والمطّلعين والمستشرقين بطبيعة الحال. ويدين العرب للفرس تحديداً في نواحٍ عديدة من الحياة كالعلوم والفن والأدب، فتتلمذوا الطب على يدي ابن سينا، وتعرّفوا على قواعد اللغة بفضل سيبويه، وتولعوا بقصائد الفردوسي. ويستمر الكرم الفارسي ليسبغ على العرب، هذه المرة، بأثمن موارده وأنفس جواهره، فكانت هذه الفتيّة الغرّاء التي، وبين يديها، تعلم هذا الرجل المبتدئ أصول الحب، وأدرك معها حقيقة العشق. فغالباً ما تغيب هذه الحقيقة عن رجال البادية لأن جزءاً كبيراً منهم ينظرون الى الحب كعلاقة عابرة، ومحرّمة، ولا ترتقي الى مستوى العواطف الصادقة، بل تبقى محصورة في مفهوم ضيق لا يتجاوز حدود الشهوة والغريزة الصرفة. وآخرون يفتقرون للثقة والإيمان بضرورة استمراريتها لأسباب تقليدية مترسبة في ثقافة العلاقات. لذلك، فإن إرشاده لأسمى المشاعر الانسانية وتوجيه مسار حياته نحو زخم الحب بعد ركود وجمود سيبقى سبباً وجيهاً لجعله مديناً لها طوال عمره. إن مزج الثقافة العربية بمخرجات الحضارة الفارسية وانجازاتها، كان له أبلغ الأثر بلا ريب. ولا أحد ينكر ذلك، وبالأخص هو! لأنه يدرك تماماً هذه الحقيقة، ويعيشها كل يوم كأهم واقع في حياته ولا غنى له عنه. فهذه الأنثى الغنية بالكمال والعذوبة هي جزء من سلسلة المكرمات والعطايا الفارسية. لذلك ليس غريباً على الإطلاق أن يعترف بأنها هبة لابد أن يقبلها ويصونها، ولا مجال لوقوع الأخطاء أو الإهمال. وهي بلا شك محظوظة به وممتنة لوجود هكذا رجل في حياتها، فهو انسيابي كقطرات الندى على بتلات الأقحوان في صباح يوم ربيعي صافٍ، لكنه أيضاً درع صلب وعنيد غير قابل للاختراق والتطويع. انه كما يريد ان يكون. يتخذ اسلوبه الخاص، ويفرض حضوره وشخصه بسلاسة وذكاء حاد دون أن يكون مثقلاً أو فارهاً. انه أنيق بلا تكلف، وبسيط بلا ابتذال. غالباً ما يفوح بأريج مزيج راقٍ من الأطياب الشرقية، الذي يجمع في تركيبته خلاصة المسك، وشذرات من الخزامى والكافور بإحساس مفعم بالرجولة. ان التوازن المتقن للنسب والمقادير المؤلفة لهذا العطر يعكس حتماً توجهه الدائم نحو الدقة والمثالية. يكتفي ببضع بصمات من العطر الساحر على عنقه ومعصميه كل صباح حتى تتشربه خلاياه فيتحول إلى نداء صارخ للاندفاع نحوه وتقبيله. أهداها ذات يوم قارورة من العطر ذاته مصنوعة من زجاج ليردام البلوري البديع، إسطوانية الشكل، ذات مظهر حريري يكشف عن المحتوى الذهبي شديد الصفاء. أحاطَ عنق القارورة بشريط من خيوط الذهب، تتوسطه ماسة متألقة في بريقها. كان التصميم الأنيق للقارورة مغرياً بحيث أعجبها بالقدر ذاته الذي افتتنت به بسحر العطر. لم يكن يهديها بإفراط، فلم يكن يريد تحويل الهدايا الى عادة تفقدها قيمتها ورونقها. كان حذقاً في انتقاء المناسبات واختيار الهدايا الفاخرة التي لا يكتفي بها كما يبتاعها، ولكن يضيف اليها لمساته الخاصة، ليضفي عليها طابعاً حميمياً وشخصيا. انه صاحب ذائقة متفردة انعكست كذلك وبشكل ملفت على قصائده التي لا تماثل قصائد أخرى. ليس محترفاً، فهو شاعر هاوٍ ولكن يحظى بملكة مميزة عكستها الأبيات الشعرية التي أهداها لها. لم يهديها قصيدة غزلية كاملة قط، فهو بالكاد يستوعب نموذجها الأنثوي الخصب بكل المعاني الجميلة التي لم يجد لها مرادفاً ولا مثيلاً، فكان عصياً أن يسترسل في وصف دقيق لها. إن انجذاب أحدهما نحو الآخر كان قدراً محتوماً وأمراً بديهيا،ً والتفاعل الحميم بينهما كان جلياً في شتى النواحي، فحينما يتبادلان أطراف الحديث، لا مفر لكليهما من الوقوع في سكرة الحب. فكل الحواس والأفكار منجذبة حينئذ نحو الآخر. صوته الرخيم يخوض رحلة طويلة معها ويعبر أجزاء جسدها دون استثناء حتى يتمكن منه تماماً. لكنه هو الآخر ليس ذا حصانة أو مناعة، فهو أيضاً يذوب في صوتها العذب، يرتعش مراراً على إثر ترديدها لـ"هلا" و"لبيه"، ويفيض نشوة حين سماع صوتها أوان استيقاظها صباحاً. فلصوتها طراوة الفطائر المحلاة، وانتعاش الفواكه الاستوائية، مغرية، لذيذة، وناضجة. هكذا هي في كل الأوقات. يبقى صوتها النقي المتفرد أعجوبة ينهار أمامها كرجل، وتحمله طوعاً الى حيث الجنان والمرتفعات التي لا يطالها البشر، مستغرباً كيف يمكن لمثل هذا الصوت اللطيف الآسر أن يصد تأثير جفاف الأجواء أو رداءة التكييف أو ساعات طوال من النوم! كأنما هذه الأنثى حورية على الأرض أُهديت شهداً سماوياً يمنحها هذه الخصلة الفريدة. إنها باختصار فيض من الإلهام والإبداع في كل تفاصيلها. فما من طائل ليقاوم فتنتها، فمقاومته لن تفضي الا لمزيد من التعلق في شباكها، وبشكل اضطراري ينصاع مستسلماً لها، مقتنعاً انها قدر لا مهرب منه ولا مفر. بل انه، على نحو ما، يميل الى الاستسلام لها. فذاته المتعالية بحاجة الى تهذيب من نوع خاص ولا ضير في قليل من المرونة إن كان من ضروريات استمرار العلاقة. تارة يصيغ أجمل العبارات في الثناء على جمالها الآثم، الخارج عن كل قانون، المتخطي لكل مألوف. هذا الجمال القاتل الذي أعياه وأهلكه وأسقطه مراراً قبالها مترنحاً ومهووساً يلتمس منها قليلاً من الرحمة وكثيراً من الحب. وتارة يكتفي بنظراتٍ ذكية لماحة يستدرج من خلالها أنوثتها ومفاتنها المترفة بشذى عطرٍ ألِف جسدها وانبثق من كل مسام من مساماته منذ الأزل، فيداعب بأنامله عنقها باحتراف العاشقين، وينتقل مراوغاً إياها الى وجنتيها، فشفتيها صعوداً الى شعرها. وتحين اللحظة الفارقة حين يحتضنها بشغف، فجسده الملتهب يتضور جوعاً، ويرغب بشدة جسدها المخملي، ولا يمكنه حين العناق إلا أن يتجرد من كل الذكريات والأفكار فلا يتبقى سوى الشعور الغامر بنعومة الحرير ودفء الزبدة وطراوتها. هذا الملمس المثير، الذي لا يستطيع له تفسيراً ولا وصفاً، يأخذه فيما وراء كل واقع وحقيقة، ويتجاوز به كل منطق. ولا يكتفي منها أبداً، فهي كما المقبلات الفاخرة الشهية، تزيده شهوةً ورغبة، وتجذبه إلى جسدها الذي بدوره يلتمس منه مزيداً من الحب الشرس البدائي، والرغبة السادية المستبدة. هكذا تريده، مسيطراً، حاداً، قادراً على تملك نسماتها، فلا يمضي شهيق أو زفير دون أن يعلن الاذعان تماماً لسلطته وإمرته، ولا يغفى لها جفن دون أن ينتهز هو هذه اللحظة في فرض حكمه وإثارتها من جديد. هكذا أغواها، وهكذا احتواها فملكها. إن ديمومة الجاذبية المطلقة بينهما تجعله متيقناً بأنها ليست مجرد نزوة عابرة قابلة للزوال في حياته، وليست حالة بسيطة على قدر من التواضع الذي يتيح له إدراكها والتعبير عنها. فلا يمكن أبداً اختزالها في تشبيهات لا ترتقي الى مستوى فتنتها وتميزها. سيبخسها حقها فعلاً لو وصفها كمنظر غروب يأسر الوجدان مثلاً، أو كقصيدة غزلية لشاعر متمكن تبهر السامعين، أو كعبير عطر قهقر خلجات النفس التي لم تجد بداً من الانصياع لأريجه. حتماً لا.. إنها ليست كذلك! ليست لحظية، ليست فانية. إنها امرأة أسطورية أزلية تشق طريقها بسلاسة لتقوده نحو الهيجان، وأحياناً كثيرة نحو الجنون، تكاد تعصف به، وتقلبه أيما منقلب على نحو يجعل من كل التعبيرات المجازية السابقة ساقطة وباطلة. ورغم ذلك يعشقها عشقاً تجاوز حدود الزمان والمكان، وكسر كل القوانين، وألغى المفاهيم كافة. عشقاً يجعل من المألوف والوارد اشتعال الخزف القاشاني! ومرور التيارات الكهربائية خلال قطعة من خشب الأبنوس العتيق! عشقاً يجعل من تفاحة نيوتن تحوم في الهواء! ويحوّل الأرض الى متوازي أضلاع أو أي شكل هندسي آخر! نعم، إنها أصعب من كل سؤال وأحجية، وأعمق من كل التفاصيل، وأكبر من كل المدركات الحسية الممكنة. هكذا أنثى، مفعمة بروح أرق الزيوت العطرية ومفرطة في نداوة حريرية آسرة .. فتاكة في جاذبيتها.. هكذا أنثى.. ملعونة.. ملعونة! محدثاً الفارس العربي نفسه.. أدرك هذه الحقيقة البغيضة، فأية لعنة حلت عليه بسببها؟ وأي عار يمكن أن يلحق به جراء عجزه عن تخليص ذاته من قيودها ومن سحرها المتطرف؟ الخزي كل الخزي لرجلٍ فضحت ضعفه أنثى!


يُتبع..

قرّة العَينْ غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس