الموضوع: ذكريات ..!!
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 04-08-2007, 22:00   #84
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : ذكريات ..!!





.


صِبا

مرارة سقوط الشرف الرفيع في الأذى, حطَّم آمالها وأحلامها, وقادها إلى هاويةٍ سحيقةٍ بعيدة الغور. قال لها سائق التاكسي ذات تجربة: «إشباع غريزة هؤلاء بشكل سريع؛ أقل ألمًا من الامتهان البطيء والتدريجي مساء كل استعراضٍ ودمع.!».
جسدها، الذي ترهل نتيجة عوامل التعرية الطبيعية, لم يعُد يأخذ مكانًا مناسبًا لإثارة الشهوات, وصوتها الأنثوي الحالم, لم يعد شيئًا مذكورًا؛ بعد طراوة العشرين وعمر الزهور. حتى منديلها، الذي كان يشاركها فتنة التغنج وقلب النزوات, فَقَدَ طاقة الإيماءات البعيدة, التي يسيل من أجلها لعاب الرغبات.!
في إحدى ليالي الجوع الكافرة, حضرتْ إلى الملهى الليلي، تتوشح الانكسار والألم. توجهت مباشرةً نحو خشبة العرض, المزدانة بألوان قوس قزح الفرائحية. استأذنت من المغنية بأدبٍ لا يعرف الضحكات المنافقة والمتزلّفة. أخذت المايكروفون بيدها المرتعشة, ويممتْ حزنها نحو الوجوه المترنحة ذات اليمين وذات الشمال. في لحظة اندهاشٍ رهيبةٍ؛ أسكنت الصمت والهدوء في ساحات الملهى, وجعلت الأبصار والقلوب معلقة, على أرجوحة الفضول الذي يرقب النبوءة. كلّ حركةٍ كانت تتمطى بصلبها توقفت, وكلّ نأمةٍ كانت تخترق ظلمات الليل الذي أرخى سدوله بأنواع الغرائز أُخرست. كلّ شيءٍ في هذا المكان الصاخب ارتدى حلَّة الصمت, لدرجة أنه لو ألقيت حبة نردٍ صغيرة؛ لسُمعت قرقعتها على طاولات السهر المنتشية.!
لله هذا الحزن, كم هو قادرٌ على فرض احترامه في مكانٍ لا يراعي حرمة الاحترام. لله هذا الحزن, كم لبّتْ لمناسكه قلوبٌ لا تفهم معنى التلبية إلا بمتعة وغرض. لله هذا الحزن كم ترجم لغات الصمت في أجلّ المواقف التي يشتد فيها الألم ويتعذر الكلام.!
الأضواء القزحية تجمّعت بشكلٍ عاموديّ, فوق حزنها الذي سدّ بآهاته منافذ الأنفاس, وزوايا السهر المشدوهة باتت تكبر, ككرة ثلجٍ في صباحٍ جليديّ. وفي عزِّ تطايرِ الأحلام, أخذت نفسًا عميقًا من داخل ذكرياتها, التي باتت تموج كبحرٍ لجيٍّ تتلاطم أمواجه على صخور صمّاء, لا تعرف مقدار الحزن مع كلّ مدٍ وجزر, ثمّ زفرت بأبياتٍ كانت تحفظها عن حبيبها, حينما كان يغازلها ببراءةٍ لا تشوبها شائبة حيوانية:
الصبا والجمال ملك يديكِ
أي تاجٍ أعز من تاجيكِ؟!
نصب الحسن عرشه فسألنا
من تراها له؟ فدل عليكِ.!

أحست برطوبةٍ بلَّلت عينيها, وهي تناجي أيامها الخالية, كأنها أرادت أن تلطم خد الاحتقار والامتهان بعشقٍ ما زال يتنفس داخل شرايينها, كأنها أرادت أن تبادل التهميش وغايات الجنس المقيتة، بمشاعرٍ عاشت تفاصيلها أيام الفرحات الأولى, كأنها شعرت مع كلّ نفسٍ عميقٍ باختناقٍ قاتلٍ ووحشةٍ شديدةٍ, فراحت تُعيد مراتٍ ومرات:
الصبا والجمال ملكُ يديكِ
أي تاجٍ أعز من تاجيك؟!
نصب الحسن عرشه فسألنا
من تراها له؟ فدل عليك.!

الأضواء واقفةٌ بخشوعٍ وتبتّل, والأجسام الظاهرة أمامها باتت أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع.!

.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس