مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 23-08-2008, 18:48   #14
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!




.


صراع مع الموج…
عائشة توفيق القصير

من ركن قصي في القاعة..أخذ يرقبها بطرف خفي…
كان يعلم أنها تقترب..وتقترب.. فازداد تركيزه المزعوم على كتاب (الكالكلس ) (1)الذي يتصفحه…
– بيردون "آبدول"…
قالتها بنبرة هادئة خافتة تستأذنه -بلكنتها الـ "مكسيكية" القويّة- في الجلوس على مقعد مجاور… وكان قد اعتاد مناداتهم له في الولايات المتحدة بآبدول لثقل كلمة "عبدالله" على ألسنتهم… رفع عينيه إليها..
– أوه! "خوليانا" (2)؟! تفضلي…
فجلست لتنهمك في حل بعض مسائل الكتاب، و بحث النتائج على آلتها الحاسبة… وعاد عبد الله لسابق حاله وقد استحالت كلمات الكتاب إلى رموز لم يكلّف نفسه بمحاولة فكّها…
كان يغرق..أكثر فأكثر.. لكنه في هذه المرة، قرر أن يترك الصراع!

ثلاثة أعوام من صراع أمواج الغربة ليست سهلة إطلاقا! عندما يجرفك تيار الحياة، ويسحبك تراجع الموج إلى عمق المحيط… عندما تفارق قدماك أرض وطنك اليابسة الثابتة الصلبة، و تُحجب عنك أشعة الشمس، فتتركك مبللا..رطبا..ترتجف… عندما تمضي ثلاثة أعوام بفصولها الأربعة تشهد الناس سعداء بعناق سلاسل الفضة المائجة، بينما أنت في صراع معها، تصر وحدك دون الآخرين على الخروج منها..على صراعها للوصول إلى أرض اليابسة… عندما تعاني… فتملّ ساقاك مواصلة الرّفس، و تتمزّق رئتك من فرط الإجهاد ونقص الأكسجين، و يختنق قلبك وقد جفّت شرايينه فما عادت تصله حاجته من الدماء… عندها… ستجد في الاستسلام للموج لذة عسلية النكهة… سيتوق جسدك المنهك إلى الاسترخاء… وإلى إغماض عينيه… وستتجاهل أنك بموافقتك على عناق سلاسل الفضة الممتدة من الماء..مثلهم.. إنما تعلن نهايتك…نهايتك كإنسان ذي مبدأ، و قيمة..
وتطلب الغرق!

اكتظّت القاعة كعادتها بما يقارب المائة طالب وطالبة. خلاف عادته، لم يشعر "عبد الله" في يومه هذا بتلك الرغبة الملحة في أن يلقي نظرة يتيمة تجاه الركن القصي من القاعة، فخوليانا كانت تشاركه للمرة الأولى ركنه الذي يجلس فيه!
كانا يتشابهان إلى حد مثير للانتباه. فكلاهما يعشق الأركان، ويبتسم للجميع دون أن يضحك لأحد على وجه الخصوص…كلاهما كانت تلاحقه لمزات السّاخرين لاستغراقه الشديد في الدراسة وعدم مشاركته في احتفالات السكن الطلابي الصاخبة…كلاهما كانت تتناوله الألسنة فتصمه بالشذوذ إذ لم يكن هو ليصادق الفتيات، و ما كانت معرفتها بالشباب تتعدى حدود الزمالة داخل القاعات… وكلاهما كان يحضر إلى تلك المحاضرة بالذات، قبل حضور الجميع، ويدرس الآخر من على بعد!
وظل الخاطر يلحّ على عبد الله… ما الذي دفعها لترك ركنها، و استئذانه في الجلوس وهي تعلم أن المقعد ليس لأحد؟!!

ضجّت القاعة بالحياة بعد هدوء نسبي. لملم "البروفسور هيكس" أوراقه وخرج من القاعة يتبعه بعض الطلبة، بينما البعض الآخر يتناقش داخل القاعة حول مسائل استعصت وغمضت عليه. وما كانت بعبد الله رغبة في الاتجاه إلى غرفته-إن صح التعبير- في السكن، و الانضمام إلى زميله في الحجرة "جيسن" وعصبة المجانين التي تزوره هذا الوقت من كل يوم! في الوقت نفسه، لم يكن يرغب في الذهاب إلى مقهى الحيّ الطلابيّ، ليزداد رثاء لحاله وهو يجلس وحيدا يرقب الطاولات وقد ضمت من الأعداد اثنين اثنين…بينما هو في مقعده البارد يرتشف قهوته المرة بلا سكر!
انتبه من أفكاره على صوتها..هاهو الموج يدنو… وهو يحرق علم الصراع…ويستسلم…
– نعم؟!… التفت صوبها متسائلا…
– أنت عربي.. أليس كذلك؟!
– وأنت مكسيكية ( قالها بلهجة من يعني: كلنا يعلم..فلم تسألين!! )
– مسلم؟
اكتفى بهزّ رأسه… ينتظر منها الوصول إلى صلب الموضوع…
– قريب من مكة؟
– جدا!
أطرقت تفكر برهة، وتقلب أوراقها وهي تتشاغل بترتيبها… وسمح عبد الله لنفسه بأن يتأملها… يتأملها بتلك النظرات التي طالما حرّمها على نفسه حتى ما عاد يطيق الاحتمال!
و تلاشت خيالات "عيون المها" في فكره، وهو يطالعها. كانت لها عينان ضيقتان حادتا الرسم… يفيض لضيقهما الدفء بهدوء غامض، لا يحظى به إلا من يقترب منهما ويتجاوز بنظراته أمواج رموشها السوداء وهما تنبلجان تارة عن بدر لفه الظلام والسحاب في ليلة عاصفة، وتارة أخرى توصدان بوابتهما لتدفعانه خارجهما فيلفه البرد…
عادت للحديث وهي ترفع حقيبتها على كتفيها، وتحتضن ملفها استعدادا للانصراف…
– حظا موفقا في اختبار الأسبوع القادم!
وخرجت بخطوات رشيقة سريعة، ليس لوقع حذائها الرياضي أدنى دبيب.
– امتحان؟!! وأي امتحان؟!!.. ساءل نفسه قبل أن يردد ضاحكا…
– إيه أيّها البدويّ… قد ولت أيام القحط، وهاأنت أمام البحر تلقي إليه بعقلك وقلبك دفعة واحدة!!!

مر أسبوعان وخوليا تكرر صنيعها، فتجلس في نفس الركن…وتواصل طرح الأسئلة الغريبة ذاتها عن تقاليد مجتمع عبد الله، و عدد أفراد عائلته، وطريقتهم في الحياة ومفاهيمهم..احتفالاتهم…وما إلى ذلك من أسئلة تعد بين الطلاب تعديا على الخصوصية الفردية، لكنه كان يتقبلها بصدر (قلب؟؟!) رحب…
كان يستمع إليها عن قرب، ويدرسها من على بعد… لو كانت مثل غيرها من الطالبات لاختصرت على نفسها الطريق و دعته إلى كوب من القهوة أو وجبة عشاء كما جرت العادة… وكما فعلت من قبلها بعض الفتيات فقابلهن بالرفض الشديد… لكنها بترددها البادي وخجلها كانت تثير إعجابه، و تجذبه نحوها أكثر… فقرر أن يلقي بتحفظاته و جموده السابق إلى الجحيم، ويكون رجلا في مبادرته… لكنها سبقته، ففي نهاية محاضرة الأسبوع التالي تقدّمت إليه بنظرات واثقة…
– آبدول، هل بإمكانك أن تلاقيني في المقهى، الساعة الثامنة مساء؟!
هز كتفيه موافقا…كمن لا يجد حرجا في الأمر… لكن جوابه لم يشفها فكأنها استشعرت فيه بعض التردد…
– آ..هذا إذا لم يكن لديك ما يشغلك… فعندي…أمر أحب أن أصارحك به…
لم يستطع عبد الله حبس ابتسامة بدا أن لها جذورا عميقة متأصلة في قلبه… صمت قليلا وهو يتفحص قسماتها، وهي تتشاغل بالنظر إلى ملفها…
– أنا عادة ما أذهب إلى المقهى في ذلك الوقت… أراك هناك!
وانصرفت… لتتركه يواصل الغرق… ويتلذذ به…

بعد مشاورات مع "جيسن"، ضحك فيها الآخر عليه -وهو يعطيه درسا مختصرا حول (أتكيت) مقابلة الفتيات-حتى دمعت عيناه، قرر عبد الله أن يشتري لخوليا باقة من الورد بما تسمح به ميزانيته. وكان في انتظارها في تمام الثامنة إلا خمس دقائق…
وفي الثامنة وخمس دقائق أقبلت في معطف أسود طويل… يتماشى سواده الوثير مع لون عينيها… مد لها الورود، فتقبلتها بحذر وتساؤل… ودون أن تنبس ببنت شفة…
طلبا كوبين من القهوة، ثم عم الصمت بينهما طويلا…حتى بدأت في الحديث بهدوء وتردد..
– آبدول.. لا أدري من أين أبدأ حديثي…أنا في الحقيقة –
ومدت يديها أمامها على الطاولة، وهي تداعب خواتمها في ارتباك…
– ماذا؟… قال لها بابتسامة تشجيع، يستحثها على مواصلة الحديث…
– منذ شهرين وأنا..أفكر.. في هذا الأمر… ولكن-
– ولكن…؟
– ولكني حتى الآن لا أجد الشجاعة الكاملة لأن أتخذ قرارا…
رفع يديه إلى الطاولة بهدوء، بينما هي تركز نظراتها على طبق السكر الموضوع أمامها دون أن ترفع نظراتها إليه ولو مرة واحدة… ببطء اقتربت يداه من يديها الناعمتين…
– أنت لا تعرف كم أحترمك…وأقدر فيك…ذلك الاختلاف الذي-
وصمتت طويلا… وحين لامست يداه أناملها، انتفضت فجأة وسحبتهما، و طالعته مذعورة كمن يستيقظ لتوه من حلم جميل…
– آبدول!!! ماذا…ما الذي…
– خوليا…كم تبدين رائعة وأنت مذعورة…!
– كيف تجرؤ؟!!
– لم تصارعين نفسك..أنت الأخرى؟!! كنت مثلك يا خوليا…لكنني قررت بأن أستسلم لذلك الموج…أن أغرق…أن أتلذذ بالغرق…إن كان سببه أنت!
نهضت من كرسيها بغتة، فسقط مقعدها إلى الوراء… تحلّقت حولهما أنظار الطلبة في فضول…
– لا أصدق يا آبدول!!! أنتم إذا..مثلهم.. تماما مثلهم! ماديون، استغلاليون..تافهون أغبياء..
تصعدت الدماء إلى وجهه، وأحس أن رأسه سينفجر…تمنى لو أن الأرض تنشق لحظتها فتبلعه… صفعة انهالت على فكره، فبدأ يراجع حديثها كله منذ البداية ليرى أنه قد فهمه..ولكن بلغة أخرى!
– منذ رأيتك في الجامعة…و حلم تيقظ في مخيلتي… حلم العالم المتكامل المثاليّ الذي لم أجده في وطني ولا هنا! حلم عالم الشرق الشامخ الأبي..عالم الأنفة!! شهرين أمضيتهما أبحث في كتب ديانتكم و بلادكم…وأقرأ كل ما كتب عنكم… وكنت أنتظر محاضرة "الكالكلس" بفارغ الصبر كي أواجهك بما استعصى عليّ فهمه عن ثقافتكم ومفاهيمكم… كل شيء في دينكم بدا جميلا ساحرا… يفوق الخيال… ويسدّ بروعة ثغرات الأديان الأخرى…
– خوليا…لحظة..امنحيني لحظة واحدة فقط…أنا لا-
قالها هامسا يحاول أن يهدئ من ثورة حديثها و علو صوتها… لكن حديثها كان عاصفا يطير بكل شيء…
– أشكرك على هذا التطبيق الواقعيّ…لدينكم..أمامي… أشكرك على تنبيهك لي أن دينكم مثل بقية الأديان تماما… كلام جميل..بل غاية في الجمال..إنما على الورق..والورق فقط!
– لا تحكمي على…أنا لم يسبق و-
سحبت حقيبتها من على الطاولة… مسحت دمعة كانت قد انسابت على وجنتها السمراء من فرط الغضب… وقبل أن تغادر كلية طالعته و في عينيها ألف قول وقول…
– أشكرك على أن منعتني من خطو أغبى الخطوات في حياتي… وحفظتني من معارضة أهلي..إذ كنت أنتوي الذهاب معك لأعلن إسلامي!!
وأغلقت عينيها وطردته بعيدا..بعيدا عن محيطها.. وخرجت ليلفحه هواء رحيلها…
نهض من مكانه ببطء… قال لعامل المقهى أن يشرب قهوتهما ويسعد بمرارة طعمها… رمى ببعض القروش في وجهه… رفع الورود من على الطاولة… قذفها في أقرب سلة مهملات… سحب خطاه باتجاه سكن الطلاب…كان الجو ممطرا عاصفا… و كان عبد الله يختنق…ويختنق…
لاح له طيف أمّه، و سمع توصيات أبيه…
– أملنا فيك كبير…يا عبد الله!
شعر بأنه يتضاءل ويتضاءل… ركل كلبا في الطريق..ثم ما لبث أن اصطحبه إلى حجرته…
كلاهما كان ضالا.. لا وطن له.. كلاهما كان مبللا..يرتجف.. كلاهما كان يعوي.. في ظلام الليل!


ـ

(1) الكالكلس: مادة الرياضيات (مستوى متقدّم)
(2) خوليانا هي النطق الإسباني لـ : جوليانا


.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس