مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 06-06-2002, 18:18   #1
مصوت بالعشا
عضو
 

ابن سعيد : شاعر التفاصيل ، والبحث عن الشعر في الأراضي البكر ..



بكل صدق ، وبعيداً عن أية مجاملة ، أجد أن عبدا لمحسن بن سعيد يقف بكل إقتدار و تميز و أحقية ، في المقدمة ، أو في الطبقة الأولى بين الشعراء الشعبيين السعوديين . أهم ما يتميز به هذا الشاعر ، رغبته العارمة في البحث عن كل ما هو جديد ، وطرقُ ما لم يطرقه شاعرٌ قبله ؛ وهو بهذه الصفة يتلذذ بأن تكونَ الأرض التي يأخذك إليها ، أرضاً بكراً ، لم تطأها أقدام إنسان قبل أن يكتشفها ذات ليل ٍ شعري عبد المحسن ؛ وهذا بمنتهى الاختصار سبب تميزه و تألقه . فهو هنا كالرحالة المكتشفين ، لا يمل من البحث ، ولا يكل من التعب ، ولا ييأس من التنقيب ، والجري وراء كشف تلك الأصقاع من العالم المجهولة أو الغائبة أو المغيبة عن الإنسان المعاصر ..

وهو ، شكلاً ، شاعر تقليدي ، إنما من حيث المضمون فهو حداثي بكل ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد و تداعيات ..

والكلمة لديه تحملُ مخزوناً من المعاني ؛ وهذا المخزون يفجره عبدالمحسن شعرياً ، بحيث تشعر أن هذه الكلمة عندما يوظفها في سياق قصيدته ، تتشكل تشكلاً جديداً ، وتحملُ ما لا تحمله ذات الكلمة في الكلام الشفهي أو المكتوب المتداول ، من أبعاد و أدوار و دلالات . يقولُ مثلاً :

غيـوض وما يغيـض الـنرجـس إلا ضـحـكة النــوار
( نعم) والجــــــــود لو يفنــا فنا من زود حبـه لك !

لاحظ كلمة " نعم " في السياق ، وكيف أصبحت جزءاً لا يكتمل المعنى ، ولا تتألق الصورة ، إلا بها ، ثم تذكر أن هذه الكلمة نرددها جميعاً كل دقائق تقريباً ، وربما أنها أكثر الكلمات استهلاكاً يومياً في لغتنا الدراجة ؛ غير أنها هنا أصبح لها دورٌ آخر ، ومذاقٌ آخر ؛ ولكي تصلُ إلى ما وصلتُ إليه ، تصور الجملة دون "نعم"، ستصبح الجملة بكل تأكيد سردية ، تحملُ حالة من حالات العطف و التكرار الممل ، هذا التكرار ، قـَطعته هذه الـ "نعم " رغم أنها إعتراضية ، بكل جمال و عذوبة ، لـ " يتأكد " المعنى أولاً ، وليصبح لهذه الكلمة دور لغوي وشعري آخر ..

ويقول في قصيدة أخرى :

ليت البحر ما لحن أنشودة الخوف
ولا جمعني بك مــع (الملح) قــــارب !

فــ " الملح" لديه يرمز للبحر ، ويرمز للعطش ، ويرمز للبياض ، وهو يأتي هنا استجابة لكل تلك التداعيات أو الأبعاد في الوقت ذاته... ليصبح للـ " الملح " مهمات شعرية و رمزية جديدة في قواميس هذا الرائع ..

وعندما نتحدث عن الشاعرية ، أو كما يصر البعض على أنها " الشعرية " ، نجدُ أنه فارسها الذي لا يُشقُ له غبار ، و رائدها الذي لا تنكسرُ له راية . فلديه بذخ شعري قل ان تجده عند 99% من شعراء اليوم ؛ فلا تكاد تجد لديه شيئاً يُسمى "المباشرة " أو " التقريرية " ، علة الشعر الأولى ، وبالذات عند شعراء العامية في المملكة . فالمعنى الشعري لديه هو إما صورة ، أو تكنيك معنوي ، وبين هذين الحدين يكتبُ عبدالمحسن، ويحلقُ و يتألق . خذ مثلاً هذه الأبيات الباذخة الشامخة :

وينك تعبت اسأل عن النرجس الشيح
وينك تــــعلّــت قاع والســـقف واطي


فكي ازاريـــــــــــر الحكي ودي اصيح
لاشك أخاف يشق صــــــوتي خياطي


يادمعتين الثلج يـــــــوم ابتدا يسيــــح
جيت اجـــــلدك وادمت كفوفي سياطي !

ويقولُ في باذخة أخرى :

أنفضي بعض شالك فوق وجه الغديـــــر
يمطر الغيم عطر .. وتنبت الأرض ماس

ولو تــحـب الـنـجـوم أصبعك بس الصغير
يمسي البحر فضّه ، والشواطي نحــاس

وجنتك مغربـيّــه في حـــيا .. جت عصير
وباسها لين حَــمّر ، وجهها يوم بــاس !

وفي ثالثة يقول :

واذا صار العـنا رحـله.. با ســمـيك آخـر المشـــــوار
واذا صــارالبخل عـمـرالجزايل فاســمـــك : المهـــلك

تجـين أحلى من البشـرى ، تغـيـبـيـن وتـشـيـن الـدار
هديــــه للزمـــن جـــيتي من الله عن طــــــريق أهلك

صـحيـح المـدح لويقـدر يـقـوم بـنفـســه ويخــــتــار
غــــــــدا عـبّـاد شمس ٍ لا لمــح زولـك تـوجّـه لـك !

ويقول في رابعة لا أحلى و لا أجمل :

من وين أنا جيت؟مدري! اسأل أوطاني
الظاهر أني مثل بعض الشـــــــجر نـابت

والموت ياناس لوجـــرحي تعدانـــــــــي
والصـــــالبه من ركيزات الصبر عابــــــت

والله لأحلق شــــــــــوارب جرحي الثاني
كان آخــــر أربع جروح من القهر شابــت


وفي بيت شارد ، يدل على تمكنه إلى حد الإعجاز من أدواته الشعرية ، في التكنيك المعنوي تحديداً ، يقول :

أنا كل ما طلبت الله يردك زدتني بـبعـــــاد
رح الله لا يردك ، يمكن الدعوات مقلوبــه !

وفي بيت على نفس المنوال :

الاماكن هي لهم ، إن غــَـــدى قدري مكان
التعب لارقابهم لي صرت بالصف الأخـــير!

وبعد ، فإنني لا أجد إلا أن أتوقف عند هذا الحد ، لضرورة الاختصار لضيق الحيز في المنتدى ، لأقول : أن مشكلة هذا الشاعر ، حسبَ قراءاتي له في منتدى شعبيات ، هي تحديداً تواضعه المسرف ، ومحاولاته التقليل من قدر نفسه ، بمناسبة و دونما مناسبة . ربما أن التواضع محمودٌ في كل الناس ، إنما في الشعر ، ولدى الشعراء ، فإن النرجسية ، والشعور بالذات في أرقى درجات عظمتها ، هي حافزٌ للشاعر ، والشاعر العظيم ، لأن يُحافظ على مكانته أمام نفسه ، وبالتالي أمام الآخرين . فكلما أحس الشاعرُ ، أو الفنان ، بعظمته ، كلما صغرت في عيونه العظائم ليبحث عن عظائم أكبر ..

يقول المتنبي :

وتعظمُ في عين الصغير ِ صغارها
وتصغرُ في عين العظيمِ العظائمُ !

وأنت ـ ياعبدالمحسن ـ شاعر عملاق بكل ماتحمله الكلمة من معنى ، فلماذا تـتـقزم عندما تتحدثُ عن نفسك ؛ كن نرجسياً تصبح أعظم و أعظم ..



التوقيع: يا مجدّله شعرك نفود .... وعالي جبينك هالنجود
وقلبك هضابٍ بينها .... أطهر مكانٍ في الوجود !

اخر تعديل كان بواسطة » مصوت بالعشا في يوم » 06-06-2002 عند الساعة » 18:35.
مصوت بالعشا غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس