مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 03-12-2007, 19:17   #1
بابل
أديب
 

معركة ضمائر مُتداخلة



؛
لا أعلم لمَ لا أذعنُ للغةِ السرديةِ الواضحة , كما لو أنني أخشى أن أتعثر بلغةِ الفضائح , والتي من المؤكّد أنّها استلقت على ضِفافِ الحكاية .

.......................


الإهداء بالتساوي ...

للعيد الكئيب , المظهر المُزيّف..

للتشرّد المُميّز , مؤخرة لساني ..

لأولاد الحارة , فُتات الضمير ..

قرب فمي , جُلَّ الكعكة ..


.......................





لطالما أحببتُ أن أتجرّد منّي كُلّيّاً , من أفكاري اللعينة , وأحكامي الذاتيّة المُطلقة , ولكم وددتُ أن أقف في الجهةِ المقابلة ؛ لكي أتجسّس عليّ بشكلٍ محايد , كما لو أنني لا أعرفني , لا .. بل كأنني أخطر أعدائي الوهميين , فأتربّص بي , أسترق السمع بإنصات مُبالغ فيه , وذلك قبل أن أتعارك معي, من قريب جدا , وفي أسوأ حالتي من بعيد .

كنتُ عادةً في معاركي الذاتيّة أستخدم كل الوسائل المألوفة , وبشرطٍ أن تكون وسائلي مُمكنة , أمّا من اليوم فصاعداً فعليّ أن أتخلّى عن وسائلي التقليديّة , عليّ أن أتراشق معي بشكلٍ مغاير , بشكلٍ مُبتكر , أن يكون تراشقاً حديث الإفراز , مُقيّداً بالجنون المُتحرّك , مُبللاً بالعبقريّة الرثـّة , ممزوجاً بـِ اللعنة الساخرة , محدّقاً في مؤخرة ضحكة شهيّة مازالت في طور النشوء .

هكذا ببساطة.. أوَد أن أجفّ ذهنياً , أن أتكوّن من جديد , أن أختار طريقي بنفسي , أن أشاهدني بلا رتوش , بلا أصدقاء قدماء , بلا أهل أعرفهم , ولا أمٍ تتصل بي كلّ الأوقات للاطمئنان على وجباتي الغذائيّة .

هكذا ببساطة .. أريد أن تنشب معركتي الذاتيّة في منطقة زمانيّة عمياء , ومكانيّة خرساء , أستخدمُ فيها كل الأسلحة الغير مشروعة , أعمدُ للتمادي .. إلى أن أوشك على أن أتحوّل لدمارٍ شامل , فأتلقّفُ الخوف بلساني و أمضغ قلب الفاجعة .

ومع كل هذا الحرص المُضني , والدافعيّة العالية , والجشع الدموي , إلا أنني في ذات الوقت أوَد أن أستلّ ذاتي منّي , فلا أحفلُ بأي انتصار , بل لا أكترثُ لأي شيء , تماماً كعدم اهتمامي بسائرِ الأيام التي يقذفها القدرُ في طريقي ولم يتساءل , هل أرغبُ أن أعيشها أم لا !


وَ




معركة الطفولة ..



كان الصراع مع الذات , أقدم من طفولتي المحشوّة باللذة , فقد كانت تمر عليّ الأيّام دون أن أشعر بها , كنتُ أجيدُ تلويث بطون الأيام , أُفخّخها بالتمرد , أؤذيها بسخاء , ولا أدري إن كانت تتألم أم لا , ربما لم أولِها طرف اهتمام ؟ صدقاً لا أدري , المهم أنّها أذعنت لـِ إرادتي حيث انتصرتُ في كلّ معاركي ضدي وضدها , والأهم من كل ذلك أنّني كنتُ أستلذّ بمشاهدةِ أيامي وهي مصابة بنزيفٍ حاد , يتسرّب من أطرافها سائلٌ أحمرٌ لزِج ؛ اختلطت به الساعات مع الدقائق .. "الوقت لم يخضع للحساب الزمني" .

كانت كل الجمادات تقفُ في صفّي , تتعاطفُ معي , تمدّني بالقوةِ والتحمّل , تساعدني علانِيَة , فيتعزّز رأي أولئكَ الذين لم يتفقوا على شيء سوى أنّني أتقن الفشل بمهارة.

أذكر أنني كنتُ أموت داخلياً بلذّة وهدوء ؛ ربما بسببِ أنّي لم أذق طعم النجاح قط , ولا حتّى استمراء الحرص على أن يحترمني الآخرين , قطعاً لم أكن آبه لشيءٍ على الإطلاق .

فقد كنتُ الطفل الذي أبغض الألعاب التي أَحبّها ؛ لأنّه لم يستطع الحصول عليها , الطفل الذي لم يتنازل عن استحقاقاته العاطفيّة , وفي ذاتِ الوقتِ لم يطالب بها , الطفل الذي لم يخبّئ الأشياء الثمينة والسريّة تحت سريره ؛ لأنّه لا يملك سريراً ولا أشياء ثمينة , الطفل الذي سكب اللبن عمداً ؛ لأنّ أحدهم قال : إيّاك أن تسكب اللبن , الطفل الذي كان متأكداً أنّه لو طال قليلا لكان بإمكانه أن يلمس السماء بيده , وبعد أن طال أكثر ممّا كان يتمنّى صارت السماء أبعد , الطفل الذي سكن تحت أخذيةِ أقاربه ؛ لأنّهم لم يعرفوا حجم تمرّده وحاجته لهم , الطفل الذي نبذ ذاته , و اختبأ في تجاعيد جدته , الطفل اليتيم الذي افترسهُ الليل , وامتهن خنق الكلام , الطفل الذي استأنف الإنصات جيّداً لغرف النوم المغلقة بإحكام ؛ فاكتشف أشياءً أشبه ماتكون بكهفٍ خالٍ من الصمتِ وتفوح منه رائحةَ أسرارٍ مكتومة للأبدِ فوق الأسرّة , الطفل الذي لم يخسر أي شيء ؛ لأنّه لم يكسب شيئاً إطلاقا , الطفل الذي لم يعرف الابتسامة الصادقة إلا عندما ينام ؛ لأنّه يحلم بأنّه يقتلُ الأشباح و أعمامه , الطفل الذي رغب بالهروب من كل شيء حتى منه , الطفل الذي استنزفته الأمراض لدرجة أنه عندما لا يمرض يسأله من حوله " عسا ماشر تراك طولت ماجاك مرض " , الطفل الذي شبع من الكوابيس وتقيّأ الأمنيات , الطفل الذي تعلّم في عمرٍ مبكرٍ كيف يبني المجهول وكيف يستأنف الجرّ والرّفع وكلّ ممنوع من الصرف , الطفل الذي بات ليال وهو يحلم بأنّه يشبه الرجال وعندما يستيقظ صباحاً يأتي من يخبره أنه ليس منهم , الطفل الذي خطفته مافيا النفايات الأخلاقيّة وطلبت فيه فدية مستحيلة وهي " أن يغامر أحد ليستلمه .. فقط ".

الطفل , المفلس , الوقح , اللئيم , الشتّام , اللعّان , السّاخط , الحاقد , الحانق , الفاسق , الفاجر , المتشائم , الباصق ,
الطفل الأجرب كالطاعون , الموبوء كالقمامة , الصريح كالأب المتسلّط , الجارح كالابن العاق ,
الطفل المُهمَل ، المُهمِل , الفوضي وما زال .

الطفل الذي ..
جرّب الفشل بإرادته , وسهر ليال في إعداد خطة محكمة , ليبلغ ذلك الهدف النبيل , وفعلها بإتقان وانتقام .





وَ



بلغ الطفل من العمرِ عتيّا ..



ها أنا رجلٌ و طويتُ السنين طياً , كبرتُ كما يجب , بات عندي شارب لا بأس به أحفه كل أسبوع , وأحلق ذقني مثلما كان يفعل الكبار الذين كنتُ أحسدهم .

لكن الشيء الغريب ؛ هو أنني لم أعد أستلذ بمعاركي و موتي الداخلي , مثلما كنتُ أفعل في طفولتي , فقد امتلأ موتي بالضجيج , بعدما توغلت في أجزائه الحياة الرتيبة .

لمَ ؟!

ربّما لم أعد أمتلك المهارة الكافية ؛ لأُحطـّم بصرختي الوقت الفائض عن حاجتي , و إدارة معاركي الذاتيّة بشراسة , كما كنتُ أفعل في ليالٍ أبددها في شنق أنفاسي ..

وعليك أن تلاحظ يا أنا , أنني سوف أعترف باعترافٍ لن يتدنس بلساني , فلطالما حمّلتهم السبب فيما يعتريني من تناقض , أمّا الآن .. فعليّ أن أعترف , و أعلن تمرّدي عليّ , فأنا المسؤول الوحيد عن هذا التناقض الذي مزّق فمي .


فما أنا إلا الرجل الذي هذّبَ أرصفة الشوارع بأسئلته الحادة , الرجل الذي اغتال وقته بسؤالٍ خانق ؛ فلقيت سنواته حتفها , الرجل الذي راوغ الأرق في حلم يقظة ؛ فسرق الليل نعاسه , الرجل الذي نفض حزنه كلما تراكم عليه ؛ ففاضَ وجعه , الرجل الذي عدِل في توزيع الأقنعة على أيامه ؛ فماتت ملامحه , الرجل الذي نزع وجهه وقت المساء و ارتدى النافذة ؛ فشاهد بلاهته ,
الرجل الذي تحفّه زنزانته الاستفهاميّة , وتضيق .. تضيق .. يختنق .. يختنق .. أكثر .. فأكثر ؛ في كل مكان ,
الرجل الذي يتمنّى أكثر من ألم ؛ من أجل أن تتصارع آلامه ؛ لـِ يقف محايدا , لكنّه ألم وحيد يصارعه , الرجل الذي يتحدث مع نفسه من أجلِ أن يكتشف ما الذي يجعل الآخرين يتمتعون في حديثه , فيكتشف سخافته , الرجل الذي نزع حماقته وركلها بقدمه ؛ لكنّها لاتلبث أن ترتطم بحائط الواقع فتعود إلى جوفه , الرجل الذي سخرَ من كل شيء ؛ ليواري ضعفه , الرجل الذي لم يستطع أن يركز في شيء محدّد ؛ لأنّه في نفس الوقت يفكر في كل شيء , الرجل الذي قرّر أن يتحلّى بالسماجة , لكسر حاجز اللباقة الرتيبة , الرجل الذي أضناه التفكير بماذا سيشعر بعد موته الحقيقي وهل هناك متعة للشهرة وهو وحيد في قبره؟!
الرجل الذي لم يندم على شيء سوى شيء وحيد ؛ وهو أنّه لم يندم على أشياء كثيرة , الرجل الرتيب ؛ لأنّه كل يوم يلعن الرتابة , الرجل الذي استخف بالجميع ؛ ولم يلمهم عندما استخفوا به , الرجل الذي لم يملك خزانة ملابس "مجرد مسمار في الجدار" , الرجل الذي لم يقوَ على الثبات ؛ فهرول كثيرا ؛ لكنّه عكس الاتجاه الصحيح , الرجل الذي لم يُخلص في شيء بقدر إخلاصه في جلد ذاته , الرجل المُكبّل بالألوان الباهتة عندما يشاهد لوحة تشكيليّة , والسخرية السامجة عندما يشاهد فلماً سينمائيّا , واللامبالاة حينما يستفرغ مبادئه أمام الجميع , الرجل الغاضب القاسي كهلاك ؛ والذي في نفس الوقت تنطق نيابة عنه عيناه اللتان تفيضان بالتعاطف كنجاة , الرجل المُرتبك حد سقوط الأشياء من يده ؛ في اشتياقه آخر المساء , الرجل المُتّزن حد الافتراس بعد أن يستيقظ من النوم , الرجل الصعب حد القنوط , السهل حد الاستسلام ,
الرجل الصامت في وقت النهار كالعقل العربي , الثرثار الكاذب في الليل كالأنظمة العربية والمومسات , الرجل المُنصت كلحظة اللااكتراث والتي لم تعد تهتم بالعقل العربي ولا بأنظمته , الرجل صاحب العاطفة الخشنة والصلبة والتي تكسّرت في أول حضور لصوتٍ ناعم , الرجل القابل للتقلّص والتمدّد , الرجل المُهيّأ للانصِهار والتجمّد .

الرجل الذي يفكر هذه اللحظة ماذا عليه أن يفعل ؟!
وإلى متى وهو مازال يخوض مع ذاته هذه المعارك الخاسرة لكليهما ؟!

الرجل الذي اقتنع بأنّه دائماً يكون كما لا يشتهي .


و بعد تفكيرٍ عميق واستبصارٍ ثاقب وإدراكٍ متفرّد ؛ قرّر الرجل أن يرمّم معركته الذاتيّة الفاخرة بعناية ؛ لـِ يعيدها إلى نسختها الأصليّة , لذلك سوف يمتطي راحلته بمهارة وينطلق باتجاه معركته , فيعتلي ظهر نجاحه الطارئ ؛ من أجل أن يقطف ثمار الفشل . المهم أن يختار معركته وطريقه بنفسه .. ولا يهم إن لم ينتصر .



انتهى ..

بابل غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس