مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 04-09-2008, 18:40   #16
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : مختارات قصصية (بصوتٍ عالٍ).!



.


بائع الكتب المجنون
قصة الكاتبة الأفغانية: سبوزمي زرياب



توجد ثلاث حارات يربط بينها ميدان، وفي الميدان كانت توجد العديد من المحال، مثل: محال الجزارة، وبائعى الخبر والحلوى، والصيدلية، كما كانت توجد مكتبة، في الصباح كان الناس يأتون من داخل تلك الحارات ويقطعون الميدان قاصدين أعمالهم .
في النساء كان هذا السيل من البشر يعود من أعماله بعيون غائرة وشفاه صامتة ملتصقة، وكان الناس يعبرون الميدان الكبير ، ويتوزعون على الحارات الثلاث ثم يختفون بعد ذلك ، كل هؤلاء البشر أصحاب العيون الغائرة كانوا ينظرون إلى موضع أقدامهم فقط كأنهم ما كانوا يستطيعون رؤية رؤية شيء آخر، وإنما شفاهم صامتة فلا تعرف البسمة طريقها إليهم.
وقبيل الغروب بقليل كانت أبواب المحال تزدحم أكثر بالناس، وكان الناس يحملون تحت إبطهم مجموعة من الصرر الكبيرة أو الصغيرة ثم يتابعون سيرهم وهم ينظرون تحت أقدامهم ويختفون داخل الحارات الثلاث، لكن أحداً لم يكن يتوقف مطلقاً بباب المكتبة، وكان بائع الكتب يتفحص المارة بنظراته من الصباح حتى المساء من خلف النافذة، وكان الجميع يعمل حساباً له، حيث كان رجلاً قوي البنية له ملامح قوية عريض المنكبين قوي الساعدين.
وعندما يأتي المساء كان بائع الكتب ينظر إلى ساعته ويستقيم في جلسته راسخاً في مكانه ويدقق في الناس بنظرته، فكان يرى الناس الغائرة عيونهم، والذي ينظرون تحت أقدامهم وينادي قائلاً:
ـ هل من مشترٍ؟
كان كل أولئك الذين يمرون بالقرب من دكانه ينتبهون وينظرون إليه، فكان بائع الكتب يشير بإصبعه إلى أحدهم ويقول له: تعال.
فكان الرجل يقترب، ويتناول بائع الكتب من على الرف كتاباً ويقول للرجل:
ـ اشترِ هذا الكتاب.
فإذا ما كان المشتري يأخد الكتاب ويترك ثمنه فإنه لا يحدث شيء.. أما لو كان يرفض فإن بائع الكتب كان يمسك معصم يده بقبضته ويظل يعتصرها ويضغط عليها حتى يتلوى المشتري من آلامه، ويُخرج بيده الأخرى النقود ويضعها في الصندوق، حينذاك كان البائع يترك يده ويأخذ المشتري الكتاب، وينصرف، أولئك الذين يشترون الكتاب بهذه الطريقة ويختفون داخل الحارات الثلاث كانوا إذا وصلوا نهاية الحارة ينظرون هنا وهناك ثم يفتحون غلاف الكتاب وينظرون إلى تلك الكلمات المطبوعة السوداء وقد تلاصقت بجوار بعضها البعض، ويعتصرون الكتاب بين طيات أصابعهم ويمزقونه ويفركونه بين أيديهم ويلقون به بعيداً عنهم بكل ما أوتوا من قوة، وبعد ذلك يتابعون السير بهدوء وعيونهم غائرة وهو ينظرون تحت أقدامهم ببرود.
وفي الصباح كان الناس يظهرون مرة أخرى من داخل الحارات الثلاث، ويعبرون الميدان الكبير، ويذهبون إلى أعمالهم، وكانت نظرات بائع الكتب تبحث بترقب عن مشتري الأمس من بين الناس، وحين كان يجده ينادي عليه:
ـ أيها السيد.
يقف المشتري، فيشير إليه بائع الكتب بإصبعه ويقول:
ـ تعال.
كان المشتري يتوجه صوبه وهو خائف فيسأله بائع الكتب:
ـ هل قرأت الكتاب؟
كان المشتري يرد:
ـ ... نعم.
ويسأل بائع الكتب مرة أخرى:
ـ هل كان جيداً؟
ويرد المشتري:
ـ أجل، وبخاصة ذلك الرجل الجذاب، ذلك الرجل النحيف، يشير بائع الكتب برأسه بارتياح ويقول:
ـ أجل، رائع، كل شيء جذاب.
يقولون إنه حين كان يوشك الليل على الانقضاء ، وتخلو المدينة من السكان كان بائع الكتب يتناول مصباحه ويجوب الحارات الثلاث حتى نهايتها واحدة تلو الأخرى، فكان يجد بقايا أوراق كتبه الممزقة هنا وهناك فيجمعها في طرف ثوبه ويعود إلى دكانه، ويضع برفق كل كتبه الممزقة والمعصورة فوق الطاولة ويجلس خلف الطاولة وينبش شعره بأيديه وينتحب بشدة، وتنهمر دموعه من أطراف عينيه، وتأخذ شكلاً ملتوياً عند طرفي أنفه لتسقط فوق منضدة بجانب قطع أوراق الكتب الممزقة، فكان ينظر إلى الكتب وينوح ويقول:
ـ قتلوك، قتلوك أوه.. أوه قتلوك، وكان يجفف بظهر يده عينيه المغرورقتين بالدمع وينهض من مكانه ويعد نقوده ويضعها في الصندوق، ويضع الكتب الممزقة والمعصورة أوراقها داخل صندوق آخر.
وبعد ذلك يُخرج من خلف الكتب مرآة كبيرة، ويثبتها بجانب المصباح ويجلس أمام المرآة ويهندم نفسه وينظر إلى ظله وشكله، فكان أحياناً يباعد بين طرفي فمه، وأحياناً أخرى يقارب بينهما، وأحياناً ما يضع إصبعيه عند طرفي فمه وكذلك يسحب شفتيه في اتجاه أذنيه ويتأكد أن أسنانه يضاء، ثم يقترب برأسه من المرآة وينظر إلى خصلات شعره البيضاء واحدة واحدة فينزعها ويضعها على حافة الطاولة ثم يعيد المرآة ويخفيها في مكانها، وكان ينظر إلى كومة شعره الصغيرة البيضاء ويضعها على راحة يده وينفخها في غيظ فتضيع وتختفي كل الشعيرات بين كافة الأركان، وعند الصباح كان يعثر على زبون الأمس ويسأله:
ـ هل قرأت الكتاب يا سيدي؟
يرد المشتري:
ـ ... نعم .
فكان بائع الكتب يسأل مرة أخرى:
ـ هل كان جيداً؟
يرد المشتري:
ـ أجل، وخاصة ذلك الرجل الرشيق الجذاب.
كان بائع الكتب يشير برأسه ويقول:
ـ أجل رائع جذاب، كل شيء رائع جذاب.
كانوا يذكرون أن بائع الكتب هذا أصيب بجنون ذات يوم، فحمل كتبه في منتصف الليل وفر من مدينته وجاء إلى هنا وفتح مكتبة، ومنذ ذلك الوقت وهو يعيش وحيداً منعزلاً.
ذات يوم توقفت عند مدخل دكانه فنظر إليَّ بتعجب وراح يحملق فيَّ ثم قال بغير اكتراث: هل ستقرأ كتاباً؟ هل تريد كتاباً؟
قلت:
ـ نعم.
فنهض من مكانه واتجه صوب أرفف الكتب، فتقدمت برأسي ونظرت بدقة وتمعن داخل مكتبته، كانت منظمة تماماً، كل الجدران مملوؤة بخزائن الكتب، وكانت الخزائن بدورها مليئة بالكتب الضخمة والصغيرة، وكانت هناك صورة معلقة أسفل أحد الخزائن، وقد تم تفريغ ما حولها بدقة متناهية، كانت الصورة ساخرة مضحكة، إنها لمخلوق أو شيء يشبه الإنسان كان ساجداً على أطرافه الأربع واضعا يديه أمام ركبتيه، كانت أذناه كبيرتين جداً مثل حلقتين كبيرتين وقد مال بعنقه، وكان فمه مفتوحاً حتى وصل حلمة أذنه، وأخرج لسانه كأنه يقهقه ضاحكاً، وكانت عيناه مستديرتين، كانت الصورة خضراء اللون، بائع الكتب قد وضع بعنقها سلكاً أو خيطاً وعلَّق بها حلقة، كان هذا المنظر دائماً في حالة اهتزاز في الهواء وقد جلس ساجداً على أطرافه الأربع، كان هناك منظر آخر وِضع بأعلى خزينة كتب داخل إطار هو رجل في منتصف العمر له جبهة عريضة وطلعة مهيبة تنظر عيناه وتحملق في الآفاق البعيدة وقد تلاصقت شفتاه وجلس جلسة مستقيمة، وكأنما أصبح جافاً بسبب تعاقب السنين.
وعلى مسافة أبعد كان هناك تمثال حجري أبيض موضوع فوق أحد الخزائن، وكانت عبارة عن رأس رجل فقط، رجل ذو شعر طويل مليء بالتموجات وقد استرسل شعره حتى وصل كتفيه ، وكانت عينا التمثال تنظر إلى الأمام وقد انعقدت والتصقت شفتاه بإحكام شديد، قام بائع الكتب بوضع الكتاب في الفتحة الصغيرة وأعطيته نقوده وأخذت الكتاب، وأخذت طريقي في اتجاه واحد من تلك المحارات الثلاث وانصرفت، وعندما وصلت إلى نهاية الحارة لم أعلم لماذا فتحت غلاف أو صفحة الكتاب ونظرت إلى الكلمات المطبوعة السوداء، والتي كانت متراصة بجانب بعضها البعض، وكانها ساجدة على أطرافها الأربع ثم مزقت الكتاب نفسه وعصرته بيدي، وألقيت به بعيداً بكل ما أوتيت من قوة ونظرت عن بعد إلى منظر الكتاب الممزق والمبعثرة أوراقه، وسكلت سبيلي أتابع خطاي، وانصرفت.
ومن بعد ذلك كنت أسلك في العودة والذهاب الدروب المنحرفة والملتوية ولا أقترب بأي صورة من محل بائع الكتب، فلم أكن أرغب في أن يسألني بائع الكتب إذا ما كنت قد قرأت الكتاب أو لا.
مرت سنوات وظهرت شعيرات بيضاء في شعري هنا وهناك، وكان الناس ما يزالون من كل صباح يأتون من نفس الحارات الثلاث، ويجتازون الميدان الكبير ويذهبون إلى أعمالهم... وما تزال عيونهم كما كانت غائرة عميقة وشفاههم ملتصقة لا يبتسمون، وفي المساء كانوا يجتازون نفس الميدان مرة أخرى ويختفون ويضيعون وسط الحارات الثلاث، وكانت نظرات بائع الكتب مازالت أيضاً تحملق وتتفحص جموع الناس منذ الصباح الباكر، وعند المساء كان ينادي على أحد الرجال ويجبره على شراء كتاب.
وكان الناس أيضاً عند نهاية الحارات يمزقون الكتب ويبعثرون أوراقها، وكذلك أيضاً كان بائع الكتب عند منتصف الليل يجوب الحارات الثلاث حتى نهايتها وفي يده المصباح، ويلملم قصاصات أوراقه وكتبه في طرف ثييابه ويعود ليضعها فوق طاولة دكانه، ويبكي في نحيب "أوه ، أوه"
وذات يوم وبعد عدة سنوات صرت تائهاً وضائعاً أنا أيضاً بين جموع الناس التي لا تعرف الابتسامة، كنت أنظر وقع أقدامي، ويبدو لي أن عيني صارت غائرة عميقة والتصقت شفتاي ببعضها وسمعت ذات مرة شخصاً ينادي:
ـ أنت: باش.
ـ توقفت ورفعت نظري من على الأرض بهدوء: إنه ثابت القدمين محكم الخصر رشيق، أكثر عرضاً عند النصف الاعلى، أكتافه عريضة، رقبته ضخمة، شفتاه سوداء اللون، ثم استقرت نظرتي بعينيه وعرفته، لقد كان بائع الكتب المجنون.
كان شعره أسود اللون، قلت في نفسي من المؤكد أنه ينزع معظم الشعيرات البيضاء من شعره أثناء الليل واحدة واحدة، وقد بدت بعض التجاعيد حول عينيه، وكذلك بالقرب من شفتيه، وسألني:
ـ هل قرأت الكتاب؟
تذكرت أنني منذ عدة سنوات كنت قد مزقت الكتاب دون قراءته في آخر الحارة وبعثرت أوراقه وألقيتها بعيداً بكل ما لدي من قوة، وتذكرت أنه ربما يكون بائع الكتب قد عثر على قطعات كتابه منتصف الليل في نهاية الحارة، فقلت:
ـ لا.
إنحنى برأسه ثم عاد ورفعها بسرعة وقال في خجل: إني أعلم...
أعلم كل شيء، ومع ذلك قل نعم قرأته، وكان جيداً، قل.. قل.. وبلا تكلف ودون مبالغة مكثت، ولم أكن أعلم ماذا أفعل وبقيت صامتاً وكانت شفتاي قد خبطتا ببعضهما، ومرة واحدة أمسك معصمي بقوة وراح يضغط بأصابعه وقبضته، فأحسست بألم بالغ، حتى ظننت أن عظام معصمي قد تحطمت وقال:
ـ كرر ورائي.
ـ أكرر.
ونظر إلي بحياء وخجل وقال:
ـ قل قرأت الكتاب.
رددت خلفه:
ـ قرأت الكتاب.
ـ عاد وقال:
ـ كان جيداً، كان جذاباً.
ورددت أنا خلفه:
ـ كان جيداً، كان جذاباً.
ترك يدي وأطرق برأسه وقال:
ـ حقاً ممتعاً، ممتعاً.
كان معصمي يؤلمني، وكنت أرتعد من بائع الكتب المجنون، وعاد وأمسك بمعصمي بين أصابعه وقال باستحياء:
ـ تعال معي.
لم يقل شيئاً آخر، وسرت بجانبه:
طال بنا قطع الطريق وسرنا عبر حارات وشوارع ضيقة مجهولة، كان الناس يطلون من النوافذ برؤوسهم وينظرون في تعجب إليَّ أنا وبائع الكتب ويهمسون ويتهامسون فيما بينهم وينظرون ببلاهة إلى بعضهم البعض.
كانت تفوح من الحارات رائحة عفنة، تفوح من كل مكان، رائحة ضارة وقذرة.
مرة واحدة انتبهت إلى هذه الرائحة، فهي رائحة معروفة، رجعت إلى الوراء لعدة سنوات، واسترجعت أيام طفولتي، في تلك الأوقات كنا نذهب أيام الجمعة إلى المقابر، ونجلس بجانب جدي لساعات ، وكنا نبكي بحرقة.
كانت المقابر خارج المدينة، وفي الطريق إليها يوجد مسلخ كبير، وخلال فصول الصيف كانت رائحة عفونة المسلخ تفوح منه وتصل مسافات بعيدة، إنها رائحة الدم واللحم المتعفن.
وكنا جميعاً نحكم إغلاق أنوفنا بأن نضع عليها أصابعنا، وكانت العفونة تثير داخل الإنسان الرغبة في التقيؤ، وكنا نسرع الخطى، وكانت قدماي قصيرتين، وكنت أتعب سريعاً وألهث وأبكي وأقول:
ـ لقد عجزت.
فكان أحد رفاقي يمسك بمعصمي بإحكام ويجرني خلفه ويتألم معصمي، وكنت أجري بلا إرادة وتلقائية، وأحياناً ما كانت تبقى رجلاي القصيرتين معلقتين في الهواء، فكانوا يحملونني، وتذكرت أنه ذات يوم عندما كنا نمر بجانب المسلخ وكنت قد أحكمت إغلاق أنفي بإصبعي أطليت برأسي ونظرت داخل المسلخ، وكانت هناك بقايا قطع سوداء ضخمة من الدماء المتيبس في كل مكان، وهناك أيضا كتل من الدماء الحمراء الساخنة الحارة، وكانت الأبقار والخراف والجمال واقفة بلا مبالاة تضرب بأهدابها وتلوي أعناقها وتمدها وتنظر حولها.
وحولها كان يقف رجال أقوياء شداد لهم سواعد مفتولة ومناكب عريضة توحي نظراتهم بالتحفز والهجوم، شفاههم خشنة غليطة سوداء تماماً مثل ملابسهم، وكانت السكاكين والسواطير معلقة تتدلى من وسطهم، وكانت هذه الأسلحة البيضاء تبرق نوراً في ضوء الشمس، وكان أحدهم جالساً على ركبتيه يذبح خروفاً، ولم يكن قد انتهى من ذبحه حتى كان الدم يسيل من عنق الخروف كالفوارة، ولم يكونوا مغلقي أنوفهم وقد تطبعوا واعتادوا على هذه العفونة بعد ذلك وليال طوال كنت أرى في المنام نفس هؤلاء الرجال والمسلخ والخراف، وكنت أفزع من النوم.
ـ لما أغلقت أنفك؟
ـ يأتيني صوت بائع الكتب، وكنا ما نزال نطوي الطريق ومعصمي بين أصابعه، قلت:
ـ ألا تؤذيك هذه العفونة؟
قال:
ـ لا.
سألت:
ـ ما هذه الرائحة؟
قال في برود شديد:
ـ لحم فاسد ودماء.
فعدت أسأل:
- هل يوجد مسلخ قريب؟
أجاب
ـ لا..
رفع رأسه وأشار بإصبعه تجاه النوافذ وواصل في غاية البرود:
ـ لا.. إن هذه الرائحة تهب وتأتي من تلك المناطق.
تملكني الخوف، وكنت أرى الناس الذن يختلسون النظر من النوافذ.
ـ سألت بائع الكتب:
ـ ما شأنك بي؟
ـ قال:
سأتحدث معك.
سألت نفسي فيما يتحدث معي، ولكني لم أقل له شيئاً آخر.
ووصلنا ميداناً صغيراً.
جر بائع الكتب يدي وقال:
ـ إجلس.
جلست وجلس هو أيضاً، وقال بلا أدنى مقدمة:
ـ عليك أن تشتري كل كتبي.
نظرت إليه بعدم اكتراث.
ـ لا، لا لن أشتري.
سأل غاضباً:
ـ لماذا؟
ـ قلت: لا يوجد معي ذلك القدر من المال.
مال بعنقه وقال:
ـ سأمنحها لك بمبلغ زهيد .
قلت مرة أخرى:
ـ لا يوجد معي أي شيء من المال على الإطلاق.
رفع صوته عالياً وقال:
ـ سأمنحك كل الكتب "مجاناً" ودون مقابل.
صرت حائراً وقلت:
ـ لايوجد مكان لدي مكان أضع فيه هذه الكتب.
قال:
ـ ولكنك ستأخذها.
عدت أقول:
ـ لا لن آخذها.
في هذه المرة قال ملتمساً:
ـ أنظر ستأخذها.
أجبت قائلاً:
ـ لن آخذها.
لوى عنقه وقال:
ـ خذها.
خفض من صوته، وكأنما يهمس في أذني وقال:
ـ خذها، واذهب أيضاً مثل الآخرين إلى نهاية الحارات ومزقها وبعثرها وإلق بها بعيداً، ولكن قل لي إني سآخذ هذه الكتب! قل!
مكثت صامتاً، شقتاي ملتصقتان ببعضهما، فصرخ بائع الكتب:
ـ قل!
كنت أنظر إليه وأنا صامت بلا حراك، وعاد وقبض بأصابعه على معصمي وضغط بشدة، فتصورت أن معصمي قد كُسِر وكنت أتلوى من شدة التألم، وزاد بائع الكتب من الضغط على معصمي وقال:
ـ ردد ورائي، سآخذ الكتب.
وكان الصوت منخفضاً مختنقاً، كان الألم يعتصر معصمي، ولم أعد أستطيع السيطرة أو التحكم بأصابعي، ونظرت إلى ظهر يدي فإذا بالشرايين والأوردة قد انتفخت وازرق لونها.
ـ حسناً ستأخذ الكتب؟ حقاً أنت مسرور مني؟ ابتسم.
انتابتني الحيرة ، فلم أكن أجد أو أفهم العلاقة بين هذه الأسئلة، وكنت أراه وقد بدأ يتلطف.
إن كافة الكتب التي قد رأيتها في المكتبة وكانت منتقاة ومنظمة ومرتبة في مواضعها بدت في نظري يشع منها النور والضياء، وراحت عناوين الكتب تكبر وتكبر وتتضاخم، كرر قائلاً:
ـ ابتسم أرني الابتسامة.
كنت أنا مثل كل أهل المدينة لا أعرف الابتسامة، وقد التصقت شفتاي، فعاد غاضباً وأمسك بمعمصي وبدأ بالضغط عليه وقال:
ـ قلت لك ابتسم.
ـ قلت: كيف أبتسم؟
وبدا صوته لي خفيضاً، وكما كنت قد سمعت أنه أثناء الليالي كان يجلس أمام المرآة ويهندم نفسه، فقد أدخل طرفي إصبعيه عند جانبي فمه وجذب طرفي فمه في اتجاه أذنيه حتى بدت أسنانه البيضاء واحدة تلو الأخرى وقال:
ـ هكذا.
أصابتني الدهشة منه، فالوضع الذي كان عليه فمه لا يشبه الابتسامة على الإطلاق، خاصة وأنه هو أيضاً لا يذكر الابتسامة، وقد صرت أنا كالحجر، التصقت شفتاي، كنت أشير بأهدابي بهدوء، وكنت أنظر إليه، فاشتاط بائع الكتب غاضباً، وكانت ترتعد شفتاه وقد انتفخت عروق عنقه وازرق لونها وغارت التجاعيد الموجودة في جبهته وحول عينيه، وكان يلهث بأنفاسه ورفع إصبعه مهدداً وصرخ غاضباً:
ـ إذا لم تبتسم سأذبحك كما تُذبح الطيور.
وتردد صدى صوته مرة أخرى في أذني:
ـ إذا لم تبتسم سأذبحك كما تُذبح الطيور.
وبدت صورته أمامي غاية في السوء.
كان جالساً على ركبتيه فتذكرت جزار المسلخ، وبدت هيأته وصورته في منتهى القذارة ولا أعلم لماذا لم أخشه على الإطلاق، وكنت أرمقه بعينين خاليتين، ولكني لم أكن قادراً على أن أباعد بين شفتي، كان بائع الكتب ينظر إليَّ في ذهول وقد بلغ به الغضب مداه، فانتفض فجأة وأمسك شعري بكلتا يديه وراح يهز رأسي، تطاير شعر رأسي في الهواء ثم عاد وسقط فوق كتفي وكاد لحم رأسي يحترق الألم، وعاد وصرخ مرة أخرى:
ـ ابتسم.
كانت أسناني وشفتاي قد التصقت، فكنت أنظر إليه دون أن أتحرك وكأني صرت صخرة، وراحت شفتاه ترتعد بشدة واحمرت عيناه، وكذلك ظهر الاحمرار والاحتقان واضحين على شرايين وأوردة عينيه وتلاحقت أنفاسه بصوت مسموع، ثم قفز فجأة وأمسك عنقي بقبضتيه، وبينما كان يضغط على حلقي صرخ:
ـ ابتسم.
كان فمه مفتوحاً بطريقة غير عادية، وكان صفا أسنانه ظاهرين بالكامل، وكان لسانه الأحمر ممتداً، قال مرة آخرى:
ـ ابـ.. ابـ.. ابتسم.
وكنت أرى بداخل فمه، في حلقومه المعقد، في خلقته ولونه الأحمر، كانت خلقته المعقدة المتداخلة ذات اللون الأحمر تهتز وترتعش، كانت قبضتاه تضيِّقان خناقي أكثر فأكثر، وكانت أصابعه تضغط بشدة وهي تؤذي عظام عنقي، كانت أنفاسي محتبسة وقد سقطت يداي المعلقتان بجانبي كأنهما حجرين، لم أكن أود أن أتحسس بيدي جسمي، كنت مُغضباً منه، كنت مستاءً من قبحه، وكنت أرى طبقات حلقومه المعقد في تركيبته ذي اللون الأحمر وهي ترتعش، كان يصرخ :
ـ ابـ.. ابـ.. ابتسم.
ضاق بشدة تكور أصابعه وأخدت بقع سوداء تتراقص أمام عيني ثم البقع اللامعة، تخيلت أن رجالاً يتعاركون خلف النوافذ، ويصرخ أحدهم في الآخر:
ـ ابـ..ابـ...ابتسم.
زادت البقع السوداء واللامعة ابتساماً أمام عيني، لم أعد أرى شيئاً، تخيلت أنني أسمع صوتاً مكبوتاً يأتي من بعيد:
ـ ابـ... ابـ.. تـ... تـ... س.. م.




سبوزمي زرياب
كاتبة من أفغانستان ولدت عام 1950 في كابول، وحاصلة على درجة الدكتوراة في الأدب الفرنسي الحديث.
القصة من كتاب: الخفافيش وقصص أخرى من أفغانستان
ترجمة: محمد علاء الدين منصور وعبد الحفيظ يعقوب حجاب
المجلس الأعلى للثقافة في مصر ـ الطبعة الأولى 2002



.

التوقيع:
ما أشدَّ فِطام الكبير!
مالك بن دينار


:
:
الموقع الشخصيّ

.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس