مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 04-07-2012, 18:23   #20
محسن سبعان
شـــاعــر
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ محسن سبعان
 

في نهاية العام 1399 كان هناك ثمّة ممرضة بإحدى المستشفيات النجرانية تحقن وليداً بشكل خاطيء. فكان نتاج الأمر طفل نصفه الأيسر شبه مشلول. وحين كبر كان لا يستطيع اللعب مع أقرانه. فقط يراقبهم، وحين يحتاجون أحداً يكمّل فريقهم الصغير في ملعب الحي. يرغمونه, ويقبل على مضض على أن يكون حارسا للمرمى بعد أن يتم تصغيره مراعاةً ليده اليسرى التي لا تعمل، ورجله اليسرى العرجاء.



محمد عام 1415هـ



هكذا عاش حتى بلغ ربيعه الخامس عشر. بين آلام مصاحبة له جرّاء خطأ حقنةٍ طبية. جعلته ضعيفا مدى الحياة بنصف جسد. يجر رجله اليسرى جراً ويخضع لعملياتٍ متعددة لمحاولة إحياء الشعور في يده اليسرى. علّه يستطيع التحكم بها بدلا عن انكفائها تحت صدره بشكل لا إرادي. ولا تنجح أبدا تلك العمليات. ولكن أمل والديه لا ينقطع بالله ويحاولون مراراً أن يجعلون من ابنهم شخصاً أقلّها يمشي بشكل معتدل كبقية الناس. شخص حين يذهب للمدرسة يكون أول الواصلين وحين يخرج يكون أولهم وليس العكس.
كان محمد الإبن الأكبر لوالديه. ترافقتُ وإياه بنفس الحي الصغير ونفس المدرسة الصغيرة التي كانت مُعدّةً لأن تصبح اصطبلاً للخيول قبل أن تُستأجر من قبل وزارة التعليم وقتذاك. بعدها انتقلنا للمدرسة المتوسطة خارج الحي. وبدأنا نتعرف بأصدقاء كثر ليسوا من نفس الحي الذي ننتمي له أو تنتمي له مدرستنا الإبتدائية. وبدأ شغفنا بالحياة يزداد وبدأنا نتعلّق بأهداب الفضول الذي يقودنا لإكتشاف كل ما حولنا. الإنتقال للمدرسة المتوسطة كان انتقالا لعالم آخر. كان شيئا أكثر مما نتوقعه أو نحلم به. هكذا كنا أطفالاً. حين أتذكر تلك الأوقات أدرك كم هو الفارق كبير. بين سكّة الآمال و مقطورة الخيبات.
في العام الثاني من دراستنا المتوسطة. غاب فجأة محمد عن الدراسة. كانت عشية ذلك اليوم أيضا مبللة بالعتم حيث كان ثمّة أشياء أسمعها في المنزل من أفواه الكبار. لا أتذكرها جيدا ولكنها كانت تشي بخطر. الصباح حمل إلينا الخبر. محمد في حبس الشرطة. لأنه قتل أحدهمّ
كانت تغشى المدرسة سحابة من الذهول والصمت. اتذكر وقتها أن الطابور الصباحي لم يبدأ كالمعتاد. الحصص الدراسية. الفسحة في العاشرة أيضا كانت أطول مما يجب. كل شيء كان متلبّكاً يومها. كانت مقطورة الخيبات تأتي على كل سكّة حُلم في تلك المدرسة.
ليلتها كان القدر يدفع يحقنة أخرى في جسد الصبي المعاق، أخرى أقعدته حتى الآن لمدة ثمانية عشر عاما في انتظار لحظة رحمة. وكان العالم الجديد الذي بدأنا نراه في المدرسة المتوسطة يتحول إلى ليل كئيب لا يريد أن ينتهي. كانت ليلة مشؤومة ساقته لدفع الضرر عن نفسه بيده السليمة التي ما فتيء يشحذها كل ساعات يومه ليتكفّى غلبة أقرانه عليه في كل شجار أو ممازحة أو لعله كان يعوّض بها ما نقص في يده اليسرى المتوقفة من أولى أيام حياته.
مذ تفعّلت ذاكرتي وبدأت تسجل الأشياء وأنا أعرف كم كان محمد يحاول بناء نفسه بيننا كأطفال صغار. بتمرين يده اليمنى لتصبح أقوى من أيدينا. أتذكر كيف حين كنا نلعب الكره. يقتعد طوبة صغيرة خلف المرمى، وفي يده اليمنى مشدّ حديدي يحركه بين أصابع كفّه. بينما يده اليسرى بضآلتها الواضحة منكفّة بشكل لا إرادي تحت صدره. دائما كان يفعل ذلك. اتذكر كم كان يغالب المسافات ويتعارك معها كل يوم حيث المسافة التي يقطعها صحيح جسم في نصف ساعه. تتطلب من محمد أن يجر رجله اليسرى لمدة ساعة أو أكثر حتى يقطعها.
العالم الذي كنا نراه في المدرسة المتوسطة كبيرا وغريبا ويثير فضولا، فجأة تم انتهاكه. وأظل نهاره سحابة قاتمة، ولم يعد ذلك الشعور بالإنطلاق يراودنا ونحن نعبر الطريق العام شمالا منطلقين نحو مدرستنا ومخلّفين عالمنا الأولي في الحي وراءنا. كنا نفتقد أحداً كان يؤخرنا وهو يترقّب فسحة أكبر بين السيارات العابرة كي يتجاوز الطريق.
ومنذ اللحظات الأولى التي تلت تلك الأيام العصيبة، وُضعت أعيننا نصب بيتٍ القتيل في انتظار كلمةٍ تخرج من خلف أبوابه تطلق للجسد المعاق - والمحقون مرتّين بأخطاء قدرية - حرّيته.
هذه الأيام عدت لألبوم صور قديم قدم هذه الثمانية عشر عاماً. كنت قد أخفيته كي لا أراه وأرى ما أرسل القدر من خيبات لطفولتنا. وجدت صورته هي هي لم تتغير ووجدت أقرانه وأنا قد تغيرنا كثيرا لكنّا في الحقيقة لا نزال مسجوني اللحظة تلك ننتظر أن تنتهي وأن تعود لنا حياتنا التي سرقها القدر والسجن والخيبات التي مرت مقطورتها على سكّة حياتنا، ولا زلنا نصوّب أعيننا صوب منزلٍ أهل القتيل، كما كنا بدء الأمر، ننتظر لحظة رحمة ربانية هم لها سبب. ننتظر مجيء ذلك الذي لا يزال في قلوبنا طفلا وفي حياته طفلا آملين عفو ذوي الدم وهم بيت عفةٍ ومروءة وكرم، ومن عفا وأصلح فأجره على الله.

مانع دواس.

محسن سبعان غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس