مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 11-09-2008, 21:25   #24
ريما العلي
اِمْرَأةٌ لا يُكَرِّرُهَا القَدَرْ !
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ ريما العلي
 

وصيّة الشاعر المبكّرة، لمن يهمّه الأمر: سيقولون كان يحب النساء !



أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم لا المشوّه، في تابوتٍ خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدلّ ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي – الأعداء .
وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر، لا أريد اللون الوردي الرخيص ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت .
وأريد مذيعاً قليل الثرثرة، قليل البحّة، قادراً على إدّعاء حزن مقنع، يتناوب مع أشرطة تحمّل صوتي بعض الكلام .
أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلاً وعكس اللقاء. فما أجمل حظّ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودّعون في مدائحهم .. فرسانٌ ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد .. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد .
حسنا، وأنا بلا زوجة وبلا ولد. فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنوّ الأرملة على المعزي .
وذلك يوفر على الولد مذلّة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية.
حسن أني وحيد.. وحيد.. وحيد.. لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية .
أريد جنازة وتابوتا أنيق الصنع أُطلُّ منه، كما يريد توفيق الحكيم أن يطلّ، على المشيعين ..
استرق النظر إلى طريقتهم في الوقوف، وفي المشي وفي التأفف، وفي تحويل اللعاب إلى دموع، وأستمع إلى التعليقات الساخرة: كان يحبّ النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب، وكان سجّاد بيته يصل إلى الركبتين، وكان له قصر على الساحل الفرنسي اللازوردي، وفيلا في اسبانيا، وحساب سرّي في زيوريخ، وكانت له طائرة سرية خاصة، وخمس سيارات فخمة في مرآب بيته في بيروت، ولا نعرف إذا كان له يخت خاص في اليونان، ولكن في بيته من أصداف البحر ما يكفي لبناء مخيم، كان يكذب على النساء، مات الشاعر ومات شعره معه، ماذا يبقى منه ؟ لقد انتهت مرحلته وانتهينا من خرافته، أخذ شعره معه ورحل، كان طويل الأنف واللسان..
وسأستمع إلى ما هو أقسى عندما تتحرّر المخيلة من كل شيء ..
سأبتسم في التابوت ،
سأبذل جهداً لأن أقول: كفى !
سأحاول العودة فلا أستطيع .

بيروت – 1982


محمود درويش/ذاكرة للنسيان



التوقيع:
ضرورة الكتابة عنك ،
هربٌ من حماقة الكتابة إليك !
.

ريما العلي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس