مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 17-11-2003, 02:37   #74
الجازي
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ الجازي
 

ياميّ

هاقد بلغنا قمّه عاليه فظهرت أمامنا سهول وغابات وأوديه , فلنجلس ساعة ولنتخيل ولنتحدث قليلاً ..

نحن لانستطيع البقاء هنا طويلاً لأني أرى عن بعد قمّه أعلى من هذه وعلينا أن نصل اليها قبل الغروب , ولكننا لن نترك هذا المكان الاّ وانتِ فرحه , ولن نخطو خطوه إلا وأنتِ مطمئنه .

قد قطعنا عقبه صعبة المسالك , قطعناها بشيْ من التلبّك , وأني أعترف لكِ بأنني كنت ملّحاً لجوجاً غير أن الحاحي كان نتيجة مقرره لشيء أقوى مما ندعوه اراده , وأعترف لكِ بأنني لم أكن حكيماً في بعض الأمور ولكن أليس في الحياة مالا تبلغه أصابع الحكمه ؟

أليس فينا ماتتجّر الحكمه امامه ؟ ولو كانت اختباراتي ياميّ تماثل بوجه من الوجوه مااختبرته في ماضي لما أعلنتها , ولكنها جاءت جديدة غريبه وعلى حين غفله .

ولو كنت إذ ذاك في القاهره وأظهرتها لكِ شفهياً وبصوره بسيطه خاليه مما في الشخصيات من المرامي الذاتيه لما حدث بيننا سوء تفاهم , ولكن لم أكن إذ ذاك في القاهره ,, ولم يكن لدّي من وسيله الاّ المراسله – والمراسله في هذه ( المواضيع ) تُلبس ابسط الأمور ثوباً من المركبات وتُسدل على وجه المجردات نقاباً كثيفاً من الكلفه , فكم مره نريد أن نبدي فكره بسيطه فنضعها في مايتيسر لنا من الألفاظ , تلك الألفاظ التي تعوّدت أقلامنا سكبها على الورق , فينتج عن كل ذلك " قصيده منثوره " أو مقاله خياليه .. اما السبب فهو اننا نشعر ونفكر بلغه أصدق وأصح من اللغه التي نكتب بها .. نحن بالطبع القصائد المنثوره والمنظومه ونحب المقالات الخياليه وغير الخياليه , بيد ان العاطفه الحيّه الحرّه شيء والبيان في المراسلات شيء آخر .
مذ كنت صبياً في المدرسه وأنا أبتعد بقدر استطاعتي عن التعابير القديمه المتداوله لأنني كنت ولم أزل أشعر بأنها تخفي الفكر والعاطفه اكثر مما تظهرهما , ولكن يبدو لي الآن انني لم أتملّص مما اتبرم منه – يبدو لي انني كنت منذ سنه ونصف سنه حيث كنت وانا في الخامسه عشر , ودليلنا على ذلك ماأثمرته رسائلي من سوء التفاهم .

أقول ثانيه انني لو كنت كنت في القاهره لوقفنا أمام اختباراتنا النفسيه وقوفنا امام البحر أو أمام النجوم أو أمام شجرة تفاح مزهره , ومع كل مافي اختباراتنا من الغرابه فهي ليست بأغرب من البحر أو من النجوم أو من الشجره المزهره , ولكن من العجائب اننا نمتثل ونستسلم الى معجزات الأرض والفضاء وفي الوقت نفسه نستصعب تصديق مايظهر في ارواحنا من المعجزات .

كنت اعتقد ياميّ , ومابرحت اعتقد أن بعض الاختبارات لاتحدث الاّ إذا اشترك بها اثنان في وقت واحد , وربما كان هذا الأعتقاد سبباً أولياً لتلك الرسائل التي جعلتك أن تقولي لنفسك " يجب أن نقف هنا " الحمدلله لأننا لم " نقف هناك "
الحياة ياميّ لاتقف عند مكان من الأمكنه ,وهذا الموكب الهائل بجماله لايستطيع سوى المسير من لانهايه إلى لانهايه , ونحن , ونحن الذين نقدّس الحياة ونميل بكل قوانا الى العذب والنبيل في الحياة , نحن الذين نجوع ونعطش الى الثابت الباقي في الحياة لانريد أن نقول أو نفعل مايوعز الخوف أو ما ( مايملأ الروح شوكاً وعلقماً ) .

ونحن إذا احببنا ياميّ شيئا نحسب المحبه نفسها , لاواسطه للحصول على شيء آخر , وإذا خضعنا خاشعين أمام شيء علّوي نحسب الخضوع رفعه والخشوع ثواباً , وأذا تشوقنا إلى شيء نحسب الشوق بحد ذاته موهبه ونعمه .

ونحن نعلم أن أبعد الأمور هو أخلقها وأحــقّــها بميلنا وحنيننا , ونحن – انت وانا – لانستطيع حقيقة أن نقف في نور الشمس قائلين " يجب أن نوفر لأنفسنا عذاباً نحن بغنى عنه " لا ياميّ , لسنا بغنى عن من يرينا بعض مافي ارواحنا من القوى والأسرار والعجائب , وفوق كل ذلك نستطيع أن نجد السعاده الفكريه في أصغر مظهر من مظاهر الروح .
ففي الزهره الواحده نشاهد كل مافي الربيع من الجمال والبهاء
وفي عيني الطفل نجد كل مافي البشريه من الآمال والأماني .
لذلك لانريد أن نتخذ أقرب الأشياءوسيله أو مقدمه للوصول الى أبعدها , كما اننا لانريد ولا نستطيع أن نقف أمام الحياة ونقول مشترطين " أعطنا مانريد او لاتعطينا شيئاً – إما ذاك واما لاشيء " لا ياميّ , نحن لانفعل ذلك لأننا نعلم أن الثابت في الحياة لايسير كما نشاء بل يسيّرنا كما يشاء .

وأيّ مطمع لنا وسبعة الآف ميل تفصلنا , في اعلان سرّ من أسرار ارواحنا سوى التمتع باعلان ذلك السّر ؟


ماذا ياترى يبغي الطائر إذا ترّنم والبخور اذا احترق ؟ أو ليس في هذه النفوس المستوحده سوى المنازع المحدوده ؟
أنا بعيد عن الوادي ياميّ . جئت هذه المدينه – بوسطن – منذ عشرة ايام لعمل تصويري , ولو لم يبعثوا الّي بكمية من الرسائل الوارده الى عنواني في نيويورك لعشت ايام اخرى بدون رسالتك .

هذه الرساله التي حلّت ألف عقده في حبل روحي , وحوّلت الأنتظار , وهو صحراء الى حدائق وبساتين , الأنتظار حوافر الزمن ياميّ وانا دائماً في حالة الأنتظار .

أسير في مكان مهيب مسحور وفي عيني نور وفي قدمي عزم , اسير بجانب خيال أجمل واظهر لبصيرتي من حقيقه الناس كافةً , أسير وفي يد حريرية الملامس ولكنها قويه وذات اراده خاصه , وليّنة الأصابع ولكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود , وبين الآونه الأخرى ألتفت فأرى عينين مشعشين وشفتين تداعبهما ابتسامه جارحه بحلاوتها .

قلت لك مره إن حياتي مقسومه ألى حياتين واني أصرف الواحده منهما بين العمل والناس والثانيه في الضباب . قد كان ذلك بالأمس , أما اليوم فقد توحدت حياتي وصرت اشتغل في الضباب , واجتمع بالناس في الضباب ., هي نشوه محاطه بحفيف الأجنحه , فالوحده فيها ليست بالوحده , وألم الحنين الى غير المعروف أطيب من كل شيء عرفته . هي غيبوبه ربّانيه ياميّ , تدني البعيد وتبيّن الخفي وتغمر كل شي بالنور , انا أعلم الآن أن الحياة بدون هذا الأنجذاب النفسي ليست سوى قشور بغير لباب , وأحقق أن كل مانقوله ونفعله ونفكر به لايساوي دقيقه واحده نصرفها في ضبابنا .

وانتِ تريدين كلمة ( نشيد غنائي ) أن تحفر في قلبي ! تريدينها أن تنتقم لك من هذا الكيان الخافت الذي يحملني وأحمله , لندعها تحفر وتحفر وتحفر , بل لننادي جميع الأناشيد الغنائيه الهاجعه في الأثير , ولنأمرها أن تنتشر في هذه البلاد الواسعه لتحفر الترعات , وتمد السبل وتبني القصور والأبراج والهياكل , وتحوّل الوعر الى حدائق وكروم لأن شعباً من الجبابره قد اختارها وطناً له .

انتِ ياميّ شعب عظيم من الجبابره الفاتحين ..

وفي الوقت نفسه أنتِ أبنة صغيره في السابعه تضحك في نور الشمس وتركض وراء الفراشه وتجني الأزهار وتقفز فوق السواقي .. وليس في الحياة شيء ألذّ وأطيب من الركض خلف هذه الصغيره والقبض عليها ثم حملها على منكّبي ثم على كتفي ثم الرجوع بها ألى البيت لأقص لها الحكايات العجيبه الغريبه حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً .

جبران

التوقيع: صدر حديثا ل الجميلة المبدعة نوف محمد الثنيان الشاعرة والقاصة http://eqla3.net/book/hakaya.html
الجازي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس