الموضوع: حصه... قصة قصيرة
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 04-07-2005, 09:28   #1
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

حصه... قصة قصيرة

.
.
في الثامنة عشرة من عمرها كانت أختي الوحيدة تعيش حالة حب، وفي مجتمع محافظ كالذي نعيش فيه، وفي بيت تُراعى فيه التقاليد والأعراف كبيتنا، ويُكثِر أفراده الحديث عن الأخلاق والآداب والقيم، كان لا بد لأي حديث عن القلب والحب أن يخضع للسرية الشديدة، وأحيانا للخجل المربك، ويصبح الإعلان عن المشاعر الخاصة والحميمة أمرا مستهجنا دون وجود مبرر مقبول لهذا الإعلان، وفي حالة الحب الذي تعيشه بخوف وخجل كانت آخر عناقيدنا تعلم أن إظهار الحب لا بد له من موافقة مبدئية ثم إعلان رسمي.

كانت حصه واضحة جدا حين أبلغت أمي أن هناك من يرغب في خطبتها، وأنها تعرفه عن طريق أخته أولا، ثم عن طريق الهاتف ثانيا، وأن الشاب قد صارحها برغبته في التقدم لخطبتها رسميا، لم تبد أمي أي اعتراض، بل حددت موعدا لمقابلة الشاب، وبسبب غياب والدي في إحدى سفراته الطويلة طلبت من أخي الأكبر استقبال الخاطب، والتعرف عليه، ورغِبتْ حصه في تواجدي أثناء هذه المقابلة، ثم أصرت على حضوري حين اعتذرت بالمشاغل: هل يوجد شاغل أهم من مستقبل أختك؟!!، هكذا قالت لي.

بدا لي في العشرين من عمره، أنيق الهندام، أسمر البشرة، حسن الحديث، وكانت مقابلتنا أشبه ما تكون بزيارات المجاملة، لم نعده بشيء، وطلبنا منه الانتظار حتى نستطيع التعرف عليه اكثر، وكان الرجل متفهما لهذا كله، قلت له: أمهلنا أسبوع، حتى حضور الوالد، وعسى الله أن يقدم الخير للجميع، حين غادرنا سألتني حصه منفردة عن انطباعي عنه، قلت: يبدو أنه مناسب، لكن لا بد من السؤال، قالت: طيب، ثم فاجأتني ببعض المعلومات التي تعرفها عنه، وكان من ضمن معلوماتها أشياء عن عائلته، ثم عقبت قائلة: هذا لا يهم، نحن معتدلون في هذه الأفكار، المهم أن يكون متعلما وأن تكون أخلاقه عالية، أليس كذلك؟!! رددت بابتسامة ولم اعلق، أحسست أنها ترغب في موافقتنا.

بعد يومين، قال لي أخي بعد أن أجرى تحرياته: جيد، يعمل في وظيفة ممتازه، المستقبل أمامه واسع، مؤدب، متدين باعتدال، بعيد عن مساوئ المراهقين، ولكن هناك مشكله.. ولم افهم المشكلة بعد كل ما تقدم حتى قال لي بهدوء: عائلته، هم من وسط اجتماعي اقل، قلت: المال لا يهم، كلنا بدأنا فقراء، ابتسم لي متابعا: بل اقصد الأصل والنسب، وقدم لي بعض التفصيلات.

حين راجعت أوضاعنا الاجتماعية، وعصبياتنا القبلية، تأكد لي إننا نواجه عقبة كأداء وليس مشكلة صغيرة يمكن حلها بالاعتدال كما تتوهم أختي الصغيرة، عقبة لا يمكن الخروج منها إلا بتمرد عنيف يبدأ من حصه نفسها، تمرد سأكون أنا المعتدل الذي ترتجي عونه أول من يقاومه وربما بعنف شديد، ولكي يخفف أخي من اثر الصدمة ذكّرني بأن أمنا أيضا ليست من أصول عربية صريحة، ثم اخبرني أن الرجل وبهدف تعريفنا بعائلته يدعونا إلى العشاء في منزله، وافقت لأجل حصه مرة أخرى، فقد أصرت أن أقبل هذه الدعوة.

كان بيتهم كبيرا، ولأمر ما أحس الشاب أن الموافقة إن صدرت فستصدر مني وليس من أي أحد آخر، لذلك بالغ في مجاملتي حتى الإحراج، عرفني بأنسابه.. كان أحدهم اسود اللون (عبد، كما قالت لي نفسي حين رأيته)، وكان الحوار أثناء العشاء سيئا جدا بمقاييس بيتنا حيث نراعي ألفاظنا حتى مع اقرب الناس لنا، وحيث للوقار صولته الكبيرة، ودار الكلام كله حول ما نعتبره نحن سخافات، وأحاديث لا تنفع، ومزح ومداعبات سمجه، حتى طريقة إعداد الأكل وترتيبه على المائدة وديكور الصالون ونوعية الضيوف لم تناسبني.

حين خرجنا من المنزل، كان وجه أخي أقرب إلى العبوس، سألني عن انطباعي قلت له بنزق: قل لأختك (لا تورطنا) مع هؤلاء الناس…هؤلاء (ما يناسبونا) اطلاقا، هم من طبقة اجتماعية تختلف عنا، هم شيء مختلف، ولأني اعرف أمي قلت له: اطلب من الوالدة أن توجه دعوه لعائلته: أمه وأخواته، وافقت .. ووجهت لهم هذه الدعوة، وحين غادرت عائلة الشاب منزلنا، قالت أمي بهدوء..(لأ)..وكانت (لاؤها) كبيرة جدا، وحاسمة جدا..وبررتها بأسباب اجتماعية بحتة.

حين استنجدت بي أختي في اليوم التالي خذلتها بلطف شديد، اعتقدت أنها إذا أقنعتني فسنستطيع معا إقناع البقية برأينا (وكنت اقدر على ذلك لو أردته) لكن دون جدوى، في المساء اتصلتُ بأخينا دون علمها وقلت: حصه لن تتزوج من هؤلاء الناس أبدا. وأفهمته أن عليه بصفته أخوها الأكبر أن يعتذر للشاب بلباقة وأدب ودون إحراج.

بكت حصه، وحاولت دفعي كي أكون أقوى من التقاليد العائلية، وحاولت من جهتي إفهامها أن المجتمع أقوى منا بكثير، وأن أهلنا لن يرحمونا أبدا، وذكرت لها صادقا أن الاتصالات كانت قد بدأت من بعض أعمامنا مذكرة بأهمية المحافظة على التقاليد، وأهمية أن نكون كما كنا دائما واعيين لقراراتنا بزعمهم، وكيف أن هذه المكالمات تحمل في طياتها صورا غريبة من التهديد بل والتوعد، أخيرا وافقت مكرهة.. وخضعت لقرارنا مجبرة ومكسورة بلا حيلة، لم يكن من طبيعتها التمرد، كانت أقرب إلى والدي في طبيعته الصابرة منها إلى أمي في طبيعتها العنيفة..مع مرور الأيام أحسست أنها نسيت الموضوع وحاولنا معا كأخوة إشغالها بالعزائم والحفلات العائلية والموافقة على ذهابها لكل الأعراس الصيفية والمناسبات الخاصة، وبذلنا لها الكثير من أموالنا، وحين حضر والدي لاحقا لم نخبره بشيء، وتعاملنا مع الموضوع وكأنه لم يكن..

بعد سنتين تقدم لها ابن خالها، لم توافق عليه بداية، أصرت على الرفض، و أصر أبي وأمي على الموافقة بأسلوب الوالدين.. الإلحاح الشديد ومحاولات الإقناع المشوبة بعواطف الرحم والقرابة، وتحت الضغط المتواصل وافقَت، ورفضت أنا، كنت اعلم أنها توافق مجاملة لهم، وكنت اعلم أيضا ان ابن خالي شاب سيئ بأغلب المقاييس الفكرية والأخلاقية، شرحت وجهة نظري لوالدي قلت لهما : لا، أنتم تخطئون، لكن حصه خذلتني بموافقتها هذه المرة، رفضتُ حضور حفل الخطوبة أولا، ورغم انفي تواجدت في حفل الزواج حتى لا اظهر بمظهر المعارض، لكنهم جميعا كانوا يعلمون أنى قلت: لا، بعد سنتين انتهى هذا الزواج بالطلاق دون أبناء.

تزوجت حصه مرة ثانية لاحقا، وأنجبت طفلين رائعين، لكني مازلت اشعر أنها غير سعيدة، وما زلت أحاسب نفسي على خذلاني لها في تلك السنوات التي احتاجتني معها، هل أخطأت بحرماني لها من الرجل الذي احبها وأحبته؟ هل اصبت؟ لا ادري، ولا اعرف كيف كانت ستكون العواقب لو لم اعترض، لربما كانت اليوم اكثر سعادة، واكثر جمالا وفرحا.

سنوات مرت على هذه القصة، وحين زرتها مؤخرا طلبت مني أن أوصلها إلى السوق، وأصرت على أن انزل معها ونمشي من محل إلى محل، وعبرت أيضا عن رغبتها في أن نتعشى معا في مكان عام، فعلتُ هذا كله مجاملة لها، وأخذا بخاطرها كما نقول في الخليج، حين عدنا إلى بيتها قالت لي: لم تسألني لِمَ طلبت منك كل ذلك؟ قلت: عادي، اخوكي، وحبيتي تمشين معي، بس!!!، ضحكت وقالت: لا..ليس هذا فقط، لكني أحببت أن تشير إلي البنات والنساء في السوق، ليقولوا لبعضهن، وبينهن وبين أنفسهن: حظها هذي المره…زوجها حلو..، ما يدرون انك اخوي، ضحكت قائلا: القرد في عين أمه غزال، ابتسمت كما تبتسم الأمهات حين يفخرن بأبنائهن، وحين ودعتها قبلتني على خدي ويدي وهي توصيني بعاطفة جارفة ألا اقطعها من الزيارة.

حين تركتها وركبت سيارتي عائدا .. دمعت عيناي .
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس