مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 19-08-2006, 01:58   #14
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

قراءة الرمز الشعري في شعر المحاورة*

.
الرمز في شعر المحاورة

00 قبل أن نبدأ في بيان معنى الرمز ، وطريقة توظيفه ، وكيفيّة هذا التوظيف في شعر المحاورة ، يحسن بنا أن نشير أوَّلاً إلى أن السائد ، في تصوُّر الجمهور بعامّة ، عن شعر المحاورة ، أنّه شعرٌ قبليّ ، يعتمد على نصرة القبيلة ، وبالتالي فإنَّ نبوغ أيّ شاعر ، في قبيلةٍ ما ، يعدّ خطّ دفاع ، أو خطّ هجوم ، لتلك القبيلة ، وعلى هذا الأساس فهم الناس أنّ شعر المحاورة : شعر مخاصمة ومحاججة وتفاخر بين القبائل ، على ألسنة شعرائها ، والحقّ أنّ هذا موجودٌ ، ولا يمكن إنكاره ، وربما كرَّس بعض الشعراء لهذا التصوُّر من خلال بعض المحاورات الساخنة التي يتمّ فيها تداول الأبيات بطريقة مكشوفة ، وبسطحيَّة أقرب إلى فهم الجمهور السطحيّ ، ومن هنا جاء هذا التصوُّر ، وسادت هذه النظرة عن شعر المحاورة ، حتّى إن بعض العامّة يقولون ، من ضمن قواعدهم عن شعر المحاورة " الشاعر الذي لا يظلم لا ينتصر " ، ومعنى هذا أنّه على الشاعر إذا ما أراد التفوُّق على خصمه أن يكرس كلّ ما يمكن أن ينصره حتّى وإن كان ذلك ضربا من الادّعاء والكذب ، فبدل أن يكون أعذب الشعر أكذبه ، كما هو شائعٌ في مقولات النقاد عن الشعر ، تصبح المقولة في شعر المحاورة ، بحسب هذا التصوُّر ، " أخصم الشعراء أكذبهم "
هذه النظرة عن شعر المحاورة ، بحسب الفهم القريب ، لم تكن لتتغيّر لو لم تتغيَّر نظرة الشعراء لهذا الفنّ ، وأنّه فنٌّ قائمٌ على خاصيَّة " الفتل والنقض" ، حيث يقوم الشاعر الأوَّل بوضع شفرة ، تكون محور موضوع الحوار بينهما ، فيتعمَّد التعمية على خصمه ، وعلى الجمهور ، وفق طريقة رمزيَّة ، وهنا يجيء دور الشاعر الثاني ،لتبدأ لعبة الرمز بينهما ، فيأخذ الجمهور معاني متعدّدة ، كلٌّ بحسب فهمه ، ويأخذ الشاعر المعنى الذي يستنبطه من دلالة الرمز ، بينه وبينه صاحبه ، معتمدًا في فكّ شفرة الرمز على أحد العوامل المساعدة ، وهي كالتالي :

• إمَّا أن تكون هناك حادثةٌ قريبة يعلمها الشاعران ، ولا يعلمها الجمهور
• أو يكون موقفٌ خاصّ بين الشاعرين
• أو حادثة سياسيّة ، أو ثقافيّة ، أو اجتماعيَّة ، عامَّة تكون محور الرمز ، وفي هذه الحالة يكون الرمز مشتركًا بين الشعراء والجمهور ، وهو أقرب أنواع الرمز للفهم ، لأنّه مشاعٌ بين الناس ، غير أنّه يحتاج إلى متلقٍّ له قدرة على فكّ الرموز وفهمها داخل السياق الشعريّ ، كما يحتاج قبل ذلك إلى شاعرٍ بصير بتوظيف الرمز واختيار معجمه الشعريّ بدقّة ، وفي هذه يتفاوت الشعراء في اختيار الرمز وقدرته على التوظيف ، كلٌّ بحسب ثقافته وموهبته الشعريَّة .
أمَّا طريقة اختيار الرمز ، فغالبًا ما يختار شعراء المحاورة رموزهم من البيئة البدويَّة ، ومن المحيط الكونيّ ، فالجمل ، وما يرادفه من الأسماء ، رمزٌ يحمل دلالات عدَّة تشير إلى : الشاعر ، الحاكم ، الخصم ، وغيرها ممَّا يمكن أن يكون دالا عليها
والمطيَّة ، رمزٌ له دلالات عدّة ، قد تشير إلى : لعبة المحاورة ، القضيَّة ، اللجنة ، الحكومة ، القصيدة ، وغيرها من المعاني المؤنّثة ، ومن الرموز : البحر ، السيل ، البرق ، السحاب ، النجم ، سهيل ، والجدي و الثريَّا .
وممّا يلاحظ على شعر المحاورة أنّه ينتقي معجمه الشعريّ من نفس معجم الشعر الجاهليّ ، حتّى إنّ قارئ الشعر الجاهليّ لا تكاد تغيب عنه رموز البيئة الشعريّة : كالناقة ، والسيف ، والليل ، والبحر ، والثريّا ، والمطر ، والبرق ، وكلّ ما يتصل بها
وهذا يشير إلى أنّ طبيعة شاعر المحاورة البدويّة ، هي امتدادٌ لطبيعة الشاعر الجاهليّ ، وربما التقيا في أنهما لسان القبيلة وقناتها الإعلاميَّة .
وبما أنَّ الاحتفاء الليلة (*)، بشاعرين ، يعدَّان من عمالقة شعر المحاورة ، ومن أقدرهما على لعبة الرمز وإخفاء المعاني ، فإنَّه من المناسب أن نقف عندهما وقفة يسيرة لضيق المقام :
• مطلق الثبيتي : شاعرٌ احترف الشعر بنوعيه ، الفصيح والعاميّ ، وفي هذا ما يشير إلى أنّه قد وظّف ثقافته الشعريَّة في انتقاء رموزه ، ويحسب لمطلق أنّه الشاعر الذي انتقل بشعر المحاورة من نظرته الضيّقة ودائرته القبليَّة إلى نظرة أوسع ، فصارت المحاورة أشبه بالاتجاه المعاكس الذي يقدّم لنا مناظرة شعريَّة بين رؤيتين متباينتين حول موضوع ما ، ربما كان هذا الموضوع : سياسيا ، أو ثقافيَّا ، أو اجتماعيَّا ، وهذا هو المرجوّ من هذا الفنّ الشعري والموروث العريق ، لنستطيع من خلاله أن نقدّم رؤية عميقة لفنّ لا يقف على عتبة القبيلة فحسب . لقد كان مطلق الثبيتي شديد الحرص على أن تتّسع رؤية الشعراء لهذا الفنّ ، تدعمه ثقافته ودراسته التي وسّعت أفقه ، فاطّلع على مناهج الشعر ومدارسه ، ومن هنا ندرك سرّ حرص مطلق الثبيتي في محاوراته على أن يلتقي شاعرًا يعضده ويسنده في تقديم محاورات شعريَّة وفق هذه الرؤية التي لا تحفل إلاّ بعمق المعنى والإيماء والتلميح دون التصريح والمباشرة ، فكان صيَّاف الحربي أحد أبرز هؤلاء الشعراء الذين وجد مطلق الثبيتي فيهم بغيته وضالّته المنشودة .
• صيَّاف الحربي : شاعرٌ موهوب ، فطرته الشعريَّة جعلته في مقدّمة الشعراء الذين يجيدون لعبة الرمز ، وإخفاء المعنى ، بطريقة تجعل أبياته محلّ احترام الشعراء والجمهور ، فهو دائمًا ما ينتقي أبياته بدقَّة ، ويمكن للقارئ الفطن أن يضع يده على رموز هذا الشاعر من خلال تتبّع محاوراته ؛ ليكتشف أنّه شاعرٌ يرتكز في محاوراته على رؤية رمزيَّة تحاول إبعاد المعنى عن متناول الأفهام ، ولعلّ هذه ميزة ظاهرة في شاعريَّة صيَّاف ، ومن خلالها استطاع أن يضع لنفسه مكانة بين شعراء الردّ .
ومن أكثر ما يتميّز به ، أيضًا ، عشقه للغة التحدِّي ، فحين يكون الشاعر المقابل خصمًا عنيدا يكون هو في قمَّة حضوره الذهني والشعريّ ، وهذا ما جعل أمتع محاورات صيَّاف تلك التي يكون فيها مطلق الثبيتي طرفًا ؛ وهذا راجعٌ إلى إحساسه بمكانة الشاعر المقابل وضرورة التركيز في لغة الشعر التي تشير وتوميء تاركة لبديهة الشاعر التقاط مضمون الرسالة .
فمن الرموز التي كثيرًا ما يوظّفها مطلق الثبيتي في محاوراته رمز " الجمل " أو ما يتبعه مثل " الشداد" :
والبعير اللي يشيل الحمل عوَّد يرضع امّه = بعد قالوا شامخ النيبان مردوم السنامي
في حين يوظّف صيّاف الحربي ، إضافةً إلى رموز البيئة الصحراويَّة ، البحر ، وهذا الرمز ظاهرٌ في أكثر محاوراته التي ترتكز على تشفير المعنى :
الثبيتي كلّما شاف البحر يومي براسه
0000والبحر لو شاف مطلق فالجبل ما يلتفت له
غير أنَّ قراءة " الرمز الشعري " لا تقف عند حدّ دلالة اللفظ وحده ، ذلك أنّ القراءة الرمزيَّة تفتقر إلى عدّة عوامل مساعدة للوصول إلى قراءة منطقيَّة تستطيع تفكيك لغة الرمز بجلاء ، ومع ذلك فهي قراءةٌ ظنيَّة ، غير قطعيَّة ، لأنّها لا تلتفت إلى قصديَّة الشاعر والقطع بما يخبئّه خلف رموزه ، وإنما هي قراءة استكشافيَّة ، جماليَّة ، تقف عند حدود لغة الرمز وما يفرضه السياق ، من داخل لغة الحوار الشعري بين الشاعرين ، ومن ظروف خارجيَّة تحيط بجوّ المحاورة كأن تكون هناك قرينة تفتح مغاليق الرمز : كحدث سياسيّ ، أو موقف ظاهر بين الشاعرين ، أو ظاهرة عامّة تمثّل حدث الساعة .
وقراءة الرمز وفق المنهج النقديّ ، مُطبّقا على المحاورة الشعريَّة ، يكون من خلال الطرق الآتية :
• متابعة الرمز المتكرّر في محاورات الشاعر ومحاصرة دلالاته؛ لأنّ قراءة أيّ رمز شعريّ لابدّ وأن تكون من خلال تكراره في نتاج الشاعر ، لتتمّ محاصرة دلالاته ومعرفة نهجه وأسلوبه ومعجمه الشعريّ ، فإنّ كلّ شاعر له معجم شعريّ خاصّ يثيره الذهن ويكون أقرب إليه استعمالا من غيره في الألفاظ .
• معرفة دلالات الرموز بشكلٍ عامّ ، كدلالة الذئب ، والسيل ، والبرق ، وبشكلٍ خاصّ عندما ترد في السياق ا لشعريّ ، حيث تضيق مساحة دلالة اللفظ داخل البيت بناءً على السياق الوارد فيه
• الاستعانة بردّ الشاعر المقابل لمعرفة الرمز الوارد في البدع
• قراءة المحاورة بشكلٍ متكامل ، وهنا لا بدّ أن تكون المحاورة قائمة على " الرمز " والوحدة الموضوعيَّة ، ولا بدّ أن يكون الشاعران ، طرفا المحاورة ، على معرفة بما يدور بينهما من حوار رمزيّ ، حتّى لا تضطرب القراءة ، وهذا لا يعني – بالطبع - ضرورة أن تكون القراءة صحيحة ، ولكن لابدّ أن تكون منطقيَّة تتفق مع التأويل وتستجيب له ؛ ومثل هذه القراءة لاتكون ممكنة إلاَّ حين يرتكز الشاعران على موضوعيَّة في توظيف الرمز ودقّة في اختيار دلالاته
• وممَّا يساعد على قراءة الرمز معرفة ما يدور بين الشاعرين ، سواء كان في محاوراتهم ، أو في حياتهم الخاصَّة من مواقف وأحداث شخصيَّة بينهما ، غير أنّ هذا لا يمكن إلاّ عن طريق الأصدقاء والمقرَّبين ، ممَّا يجعل قراءة الرمز قراءة قصديَّة ، لا تأويليَّة ، بمعنى أنَّ ذلك يمكّن القريب منهما من الوصول إلى " المعنى" المدفون ، وليس قراءته وفق دلالات الرمز ، ممَّا يحيل المحاورة عنده إلى ألغاز شعريَّة محلولة .

ـــــ
* قٌدِّمت هذه الورقة في احتفال منتديات المرقاب الأدبيّة واحتفائهم بالشاعرين : مطلق الثبيتي - رحمه الله - وصيّاف الحربي شفاه الله وعافاه

الناقد الألمعيّ/ سعود الصاعديّ


اخر تعديل كان بواسطة » فوزي المطرفي في يوم » 19-08-2006 عند الساعة » 02:09.
فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس