الموضوع: حَـكَـايـا
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 09-10-2006, 23:35   #7
فوزي المطرفي
فـعـل مــاضي!
 

رد : حَـكَـايـا رمَـضَـانِـيِّة



.
كان الشيخ الأديب طه حسين طالبًا بالجامعة المصرية القديمة, حين كانت متشرفة برياسة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد رحمه الله. وتقرر إرساله في بعثة إلى أوربة, فأراد حضرة صاحب العظمة السلطان حسين رحمه الله أن يكرمه بعطفه ورعايته, فاستقبله في قصره استقبالاً كريمًا, وحباه هدية قيمة المغزى والمعنى.
وكان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف, خطيبٌ فصيح متكلمٌ مقتدر, وهو الشيخ/ محمد المهدي خطيب مسجد عزبان. وكان السلطان حين رحمه الله مواظباً على صلاة الجمعة, في حفلٍ فخمٍ جليل يحضره العلماء والوزراء والكبراء.
فصلّى الجمعة يومًا ما, بالمسجد القريب من قصر عابدين العامر. وندبت وزارة الأوقاف ذاكَ الخطيب لذلك اليوم. وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان, وأن ينوه بما أكرم ( الشيخ طه حسين ), وحق له أن يفعل. ولكن خانته فصاحته, وغلبه حبّ التغالي في المدح, فزلّ زلة لم تقم له قائمة من بعدها. إذ قال أثناء خطبته:" جاءه الأعمى, فما عبس في وجهه وما تولّى"!
وكان من شهود هذه الصلاة والدي الشيخ/ محمّد شاكر, وكيل الأزهر سابقًا رحمه الله. فقام بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة, وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر, فأعادوها.
ذلك بأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضًا لا تصريحًا. لأن الله سبحانه عتب على رسوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابنُ أم مكتوم الأعمى, وهو يحدث صناديد قريش يعوهم إلى الإسلام, فأعرض عن الأعمى قليلاً حتى يفرغ من حديثه, فأنزل الله عتاب رسوله في سورة كريمة. ثمّ جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل, يريد أن يتملق عظمة السلطان رحمه الله, وهو عن تملقه غنيّ والحمد لله. فمدحه بما يوهم للسامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته, بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله. وأستغفر الله من حكاية هذا. فكان صنع الخطيب المسكين تعريضًا برسول الله صلى الله عليه وسلم, لا يرضى به مسلم, وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.
ثمّ ذهب الوالد رحمه الله فورًا إلى قصر عابدين العامر وقابل محمود شكري باشا رحمه الله, وهو له صديق حميم, وكان رئيس الديوان إذ ذاك. وطلب منه أن يرفع الأمر إلى عظمة السلطان, وأن يبلغه حكم الشرع في هذا بوجوب إعادة الصلاة التي بطلت بكفر الخطيب.
ولم يتردد شكري باشا في قبول ما حُمّل من الأمانة, وأعتقد أن عظمة السلطان لم يتردد في قبول حكم الشرع بإعادة الصلاة.
وكاد الأمر أن يقف عند هذا الحد, لأن قوانينكم هذه التي تدينون بها لا تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفه السفهاء ولا من حمق الحمقى والأدعياء.
ثمّ دخل فيه دخلاء السوء, ممّن يحرصون أشد الحرص ـ فيما زعموا ـ على حقوق الأفراد, ويغلون أشد الغلوّ في هضم العلماء وهدمهم, حتى يشغلوهم بأنفسهم عن نصر دينهم والذبّ عن حوضه. وكان ذلك الخطيب متصلاً ببعض المستشارين الكبار, اتصال التبع بالمتبوع, يؤدي لهم كثيرًا من الخدمات. فأشاروا عليه بأن يرفع دعوى جنحة مباشرة على أبي, لأنه سبّه سبًا علنيًا في المسجد وفي ديوان السلطان. وأشفق من لم يعلم أن ينال أبي من ذلك السوء. وثار البلد,وكثر اللغط, ووقف رجال كرام من رجال القضاء الأهلي في ذلك مواقف مشرّفة, بين مسلم وقبطيّ كانوا يدًا واحدة في الذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنكار أي مساس ولو من بعيد بمقامه الكريم.
ولم يعبأ والدي رحمه الله بقضية الخطيب, ولا بمن وراءه من الكبار. بل وكل عنه صديقه الأستاذ الكبير/ محمّد بك أبو شادي, وكان موقف أ[ي في القضية أنه لن يحتكم في حكم الشرع في جريمة هذا المجرم إلى علماء الأزهر, لأن حكم المساس برسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تعريضًا معروف للدهماء, ولا ينكره جاهل أو متعنت أو غبي. وإنما نقطة البحث الصحيحة فيها عربية لغوية صرفة: آلذي صدر من الرجل الجاني المدعي أنه مجني عليه تعريض بالمقام الكريم مقام الرسولَ الأعظم, بدلالة اللغة والاستعمال أم ليس بتعريض؟ ولا يحتاج الفصل في هذا إلى علماء الأزهر, خشية أن يظن بهم ما هم برءاء منه من العصبية. بل هي نقطة عربية لغوية, يكفي فيها رأي بعض المستشرقين الإفرنج, ممّن لا يظن بهم العصبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, بل هم مظنة الضدّ من ذلك.!
فكان تصميم الوالد رحمه الله وعزمه, على أنه إذا وصلت القضية إلى المحكمة, وعُرضت, أن يطلب ندب خبراء مستشرقين؛ ليحددوا بخبرتهم في لغة العرب دلالة كلام الخطيب من الوجهة العربية: أهو تعريض أم لا؟؟؟ ثمّ يكون الفصل القضائي طبقًا لما يقرره الخبراء.
ثمّ دخلت الحكومة في الأمر, خشية ما يكون من وراء هذه القضية من أحداث وأخطار. وطوى بساطها قبل أن ينظرها القضاء.
ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا, قبل أن يجزيه جزاءه في الأُخرى. فأقسم بالله: لقد رأيته بعيني رأسي, بعد بضع سنين,وبعد أن كان متعاليًا منتفخًا, مستعزًا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء, رأيته مهينًا ذليلاً, خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة, يتلقى نعال المصلين يحفظها, في ذلة وصغار. حتى لقد خجلت أن يراني, وأنا أعرفه وهو يعرفني, لا شفقةً عليه, فما كان موضعًا للشفقة, ولا شماتةً فيه, فالرجل النبيل يسمو على الشماتة, ولكن لما رأيت من عبرة وموعظة.!

*

من كتاب: كلمة الحق, للعلاّمة الشيخ/ أحمد محمّد شاكر( إمام أهل الحديث في عصره رحمه الله ).
.

فوزي المطرفي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس