شعبيات - مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة - البدر و المطر وجهان لعملة نادرة رائعة .. قراءة نقدية !

مصوت بالعشا · 28-05-2002, 01:43

المطر ..

أمل البدوي في صحراء يحفها السراب و الخوف و الضما من كل جانب .. فلا حياة بلا مطر ، ولا خصب بلا مطر، ولا بداوة أو رعي دونما مطر .. و لا استمرار للإنسان لولا المطر . إنه الحياة بشرطها الأول ..

ولكن ..

ألا تلاحظون معي أن أكثر مفردة تظهر في شعر بدر هي المطر ؟ ..

فإذا تغزل ظهرت ،
وإذا افتخر ظهرت ،
وإذا مدح ظهرت ،
وإن رثى تظهر ...
وعندما يتأمل لا تكاد تفارق بيتاً ، أو مقطعاً ، إلا وتعود في البيت أو المقطع الآخر ..

ولكن ..

ما هي دلالات ، و إيحاءات ، كلمة " مطر" في نسق بدر الشعري ، وما هو الكم النفسي و البيئي التي تكتظ بها تداعيات هذه الكلمة في مخيلة بدر الشعرية ، و ماهي بواعثها النفسية و الدلالية ؟ ..

دعونا نرى :

يقول البدر :
الزهر والعشب ..قلبي يا مطر
الضما .. والجوع .. بعدك .. والدهر

أنه الخصب ، التوالد ، البقاء ، الامتداد : ( الزهر و العشب قلبي يا مطر ! ) ، وغيابه يعني الضد : ( الضما .. والجوع .... والدهر ! ) ..

وهنا يبدو بدر مرتبطاً ارتباطا حميمي ببيئته .. فالماء شرط الحياة لدى كل إنسان و خلال كل الأزمنة ؛ غير أنه لدى البدوي ، ساكن الصحراء ، يحمل مدلولاً أعمق ، وأكثر إلحاحاً منه لدى الإنسان الآخر . فهو يصارع من أجله ، ويرحلُ لاهثاً إلى حيث يكون ؛ فهو وطنه المتنقل ، وعشيقه الأبدي ، وكنزه الذي لا يمل من البحث عنه .. وهو دائما ، حتى وإن كان أعاصير، رحمة ، أما فقدانه فغضب بلا شك . يقول :
لاح الجبين .. وجذبني نوض براقه
حيثه ربيعي .. وورد الخد مصيافي

والغصن لولا المطر ما أخضرت أوراقه
يا كيف عشب الوسم يترك وينـعافي

ويقول :

قلت : المطر ؟ ، قالت : من اليوم ديمه!
لا به رعد لا برق ماغير هتـــــــــــــــان

هنا يرسم بدر صورة "المطر" في هيئتها النموذجية ، أو المثالية ، في ذهنية إنسان الجزيرة ، أو كما يرغب أهل نجد أن تكون : فهو يريده : ديمه . والديمه عند العرب : المطر المتواصل دون صلف ، والمتصل لأكثر من ثلثي الليل ، أو اليوم . والديمه تمثل في الحالة المطرية ، بسلاستها و رقتها ، وانعدام الصوت : الرعد ، والبرق : الضوء الكاشح .. صورة العطاء دون مقابل ، وهنا دون إزعاج . أما الصورة الرمزية التي يحرص البدر دائماً على إثراء أبعادها ، فجاءت في السؤال الاستفهامي : ( قلت المطر ؟ ) ، والموجه إلى عشيقته . هنا قد يصبح " المطر" مزاج العشيقه ، أجواءها المحيطة بها ، الوضع النفسي لها … المهم بالنسبة لنا أن المطر في بعده الرمزي هنا هو (( ما يرغب أو يود الشاعر أن يكون )) ، وهذا ما أكد عليه جواب العشيقة : " ديمه ، لا به رعد لا برق ما غير هتان ! " ..

ولأنه ـ على ما يبدو ـ يحب الكويت ، لم يجد أجمل من أن يجعلها " محبوبة المطر"، وكأنه ، من الناحية الشعرية البدرية تحديداً ، قد وشحها أعظم و أجمل و أغلى وشاح . يقول :

أقول الوسم وش خلى سحابه ينحدر للشرق
ترك كل الجهات ولا تغير في محاديره

نويت اعارض غيومه وأسافر مع غريب الطرق
أبا أدري هو صحيح إن المطر محبوبته ديره !

ليجد في النهاية :

وبانت لي الكويت .. ولا تبين في المحبة فرق
أنا في دار خلاني .. ولي غير النسب جيره !

عرفت الوسم وش خلى سحابه ينحدر للشرق
ترك كل الجهات .. ولاتغير عن محاديره ! ..

فالمطر أعلن عشقه للكويت ، وبدر أيضاً ! ..

هنا لابد من الإشارة إلى "نرجسية الشاعر " ، التي يقول عنها أدونيس : ( أنها إنبعاث بركان أي شاعر) ، وهي أن الشاعر هنا ، أصبح مع المطر ، وجهان لعملة واحدة ، فهو المطر ، والمطر هو ، المطر النماء ، وبدر النماء .. المطر الخصب وبدر أيضاً ، وكلاهما انقادا لعشق الكويت ! ..

وبدر يذهب بالمطر إلى أبعد من الحياة ، إلى الموت أيضاً ، فيعشقه ميتاً ، تماماً كما كان يعشقه وهو حي . يقول :

حطو القبر في الجال ..
وادي الهوى لاسال ..
يمرني سيله ..
واسقي عظامي منه
وينبت في غصن الطلح ..
قلبي ورق أخضر ..

والمطر في لغة البدر مفردة لا تستعصي على أجواء القصيدة ؛ فهي حاضرة دائماً ، تتشح بالسواد حين تبكي ، وتلبس أرق و أعذب و أجمل حللها عندما تحتفلُ و تفرح ، وترتفع حتى عنان النجوم ، كالغيوم ، حينما يكون المجال الفخر . فهي تلبس لكل حالة لبوسها :

في الرثاء يقول في الأمير فهد بن سلمان رحمه الله :

مالنا فيك ياالطيب نصيب
الله اللي كتب هذا السفر

جيت دار الفنا مثل الغريب
ورحت عنها مراويح المطر !

وهل هناك أقسى و أمر وأدهى على ابن الصحراء من مراويح المطر ، أو مراويح السحاب ، أو قل : نهاية الحالة المطرية ؟!..

وفي عذوبة وجمال العشيقة ، والمطر ، والحياة ، يقول البدر :

الغت مواعيد النهار ..
شمس بدت مثل النهار
ريح المطر .. لون الخضار ! ..
حبيبتي أحلى البياض
وأحلى السمار ..

وعند بدر ، علاقة المطر بالأرض ، هي علاقة عشق ، وحب ، تلحقها حياة و خصب ونماء و استمرار . يقول :

عشق جمع مابين قاع ٍ وغيمه
سَـيل على صدر الثرى دمع الأمزان ! ..

وعلاقة المطر بالإنسان ، عند بدر ، علاقة ُمشاعية ، حقٌ للجميع ، بالقدر والكمية و النوعية . هذه العلاقة ، وإن كانت رائعة إنسانياً ، إلا أن " المشاعية " في الشعر تلغي ندرته ، وبالتالي تميزه ، فلا ميزة بلا ندرة . ليصبح "المطر" ، وللمرة الوحيدة عند بدر ، ظاهرة قميئة . يقول :

وانا احسب إن الشعر صعب المواريد
ماهو غديرٍ ينضحه كل قصاد !

يوم امتلا هالجو حشو ومفاريد
راع الجمل معذور لو كسر إشداد

فغدير المطر يعطي الحياة للجميع ، ولكنه لا يعطي ذروة معانيها و الشعور بها : الشعر ! ..

وختاماً ، ومن خلال هذه العجالة ، فإننا يمكن أن نقول ، وبمنتهى الإرتياح و المصداقية ، أن بدر في إبداعه الشعري ، كان ، و المطر ، وجهان لعملة واحدة ، أما النتيجة فهي تماماً نتيجة ما يحمله المطر من ثراء و خصب و نماء ..

28-05-2002, 01:43	#1
مصوت بالعشا عضو	البدر و المطر وجهان لعملة نادرة رائعة .. قراءة نقدية ! المطر .. أمل البدوي في صحراء يحفها السراب و الخوف و الضما من كل جانب .. فلا حياة بلا مطر ، ولا خصب بلا مطر، ولا بداوة أو رعي دونما مطر .. و لا استمرار للإنسان لولا المطر . إنه الحياة بشرطها الأول .. ولكن .. ألا تلاحظون معي أن أكثر مفردة تظهر في شعر بدر هي المطر ؟ .. فإذا تغزل ظهرت ، وإذا افتخر ظهرت ، وإذا مدح ظهرت ، وإن رثى تظهر ... وعندما يتأمل لا تكاد تفارق بيتاً ، أو مقطعاً ، إلا وتعود في البيت أو المقطع الآخر .. ولكن .. ما هي دلالات ، و إيحاءات ، كلمة " مطر" في نسق بدر الشعري ، وما هو الكم النفسي و البيئي التي تكتظ بها تداعيات هذه الكلمة في مخيلة بدر الشعرية ، و ماهي بواعثها النفسية و الدلالية ؟ .. دعونا نرى : يقول البدر : الزهر والعشب ..قلبي يا مطر الضما .. والجوع .. بعدك .. والدهر أنه الخصب ، التوالد ، البقاء ، الامتداد : ( الزهر و العشب قلبي يا مطر ! ) ، وغيابه يعني الضد : ( الضما .. والجوع .... والدهر ! ) .. وهنا يبدو بدر مرتبطاً ارتباطا حميمي ببيئته .. فالماء شرط الحياة لدى كل إنسان و خلال كل الأزمنة ؛ غير أنه لدى البدوي ، ساكن الصحراء ، يحمل مدلولاً أعمق ، وأكثر إلحاحاً منه لدى الإنسان الآخر . فهو يصارع من أجله ، ويرحلُ لاهثاً إلى حيث يكون ؛ فهو وطنه المتنقل ، وعشيقه الأبدي ، وكنزه الذي لا يمل من البحث عنه .. وهو دائما ، حتى وإن كان أعاصير، رحمة ، أما فقدانه فغضب بلا شك . يقول : لاح الجبين .. وجذبني نوض براقه حيثه ربيعي .. وورد الخد مصيافي والغصن لولا المطر ما أخضرت أوراقه يا كيف عشب الوسم يترك وينـعافي ويقول : قلت : المطر ؟ ، قالت : من اليوم ديمه! لا به رعد لا برق ماغير هتـــــــــــــــان هنا يرسم بدر صورة "المطر" في هيئتها النموذجية ، أو المثالية ، في ذهنية إنسان الجزيرة ، أو كما يرغب أهل نجد أن تكون : فهو يريده : ديمه . والديمه عند العرب : المطر المتواصل دون صلف ، والمتصل لأكثر من ثلثي الليل ، أو اليوم . والديمه تمثل في الحالة المطرية ، بسلاستها و رقتها ، وانعدام الصوت : الرعد ، والبرق : الضوء الكاشح .. صورة العطاء دون مقابل ، وهنا دون إزعاج . أما الصورة الرمزية التي يحرص البدر دائماً على إثراء أبعادها ، فجاءت في السؤال الاستفهامي : ( قلت المطر ؟ ) ، والموجه إلى عشيقته . هنا قد يصبح " المطر" مزاج العشيقه ، أجواءها المحيطة بها ، الوضع النفسي لها … المهم بالنسبة لنا أن المطر في بعده الرمزي هنا هو (( ما يرغب أو يود الشاعر أن يكون )) ، وهذا ما أكد عليه جواب العشيقة : " ديمه ، لا به رعد لا برق ما غير هتان ! " .. ولأنه ـ على ما يبدو ـ يحب الكويت ، لم يجد أجمل من أن يجعلها " محبوبة المطر"، وكأنه ، من الناحية الشعرية البدرية تحديداً ، قد وشحها أعظم و أجمل و أغلى وشاح . يقول : أقول الوسم وش خلى سحابه ينحدر للشرق ترك كل الجهات ولا تغير في محاديره نويت اعارض غيومه وأسافر مع غريب الطرق أبا أدري هو صحيح إن المطر محبوبته ديره ! ليجد في النهاية : وبانت لي الكويت .. ولا تبين في المحبة فرق أنا في دار خلاني .. ولي غير النسب جيره ! عرفت الوسم وش خلى سحابه ينحدر للشرق ترك كل الجهات .. ولاتغير عن محاديره ! .. فالمطر أعلن عشقه للكويت ، وبدر أيضاً ! .. هنا لابد من الإشارة إلى "نرجسية الشاعر " ، التي يقول عنها أدونيس : ( أنها إنبعاث بركان أي شاعر) ، وهي أن الشاعر هنا ، أصبح مع المطر ، وجهان لعملة واحدة ، فهو المطر ، والمطر هو ، المطر النماء ، وبدر النماء .. المطر الخصب وبدر أيضاً ، وكلاهما انقادا لعشق الكويت ! .. وبدر يذهب بالمطر إلى أبعد من الحياة ، إلى الموت أيضاً ، فيعشقه ميتاً ، تماماً كما كان يعشقه وهو حي . يقول : حطو القبر في الجال .. وادي الهوى لاسال .. يمرني سيله .. واسقي عظامي منه وينبت في غصن الطلح .. قلبي ورق أخضر .. والمطر في لغة البدر مفردة لا تستعصي على أجواء القصيدة ؛ فهي حاضرة دائماً ، تتشح بالسواد حين تبكي ، وتلبس أرق و أعذب و أجمل حللها عندما تحتفلُ و تفرح ، وترتفع حتى عنان النجوم ، كالغيوم ، حينما يكون المجال الفخر . فهي تلبس لكل حالة لبوسها : في الرثاء يقول في الأمير فهد بن سلمان رحمه الله : مالنا فيك ياالطيب نصيب الله اللي كتب هذا السفر جيت دار الفنا مثل الغريب ورحت عنها مراويح المطر ! وهل هناك أقسى و أمر وأدهى على ابن الصحراء من مراويح المطر ، أو مراويح السحاب ، أو قل : نهاية الحالة المطرية ؟!.. وفي عذوبة وجمال العشيقة ، والمطر ، والحياة ، يقول البدر : الغت مواعيد النهار .. شمس بدت مثل النهار ريح المطر .. لون الخضار ! .. حبيبتي أحلى البياض وأحلى السمار .. وعند بدر ، علاقة المطر بالأرض ، هي علاقة عشق ، وحب ، تلحقها حياة و خصب ونماء و استمرار . يقول : عشق جمع مابين قاع ٍ وغيمه سَـيل على صدر الثرى دمع الأمزان ! .. وعلاقة المطر بالإنسان ، عند بدر ، علاقة ُمشاعية ، حقٌ للجميع ، بالقدر والكمية و النوعية . هذه العلاقة ، وإن كانت رائعة إنسانياً ، إلا أن " المشاعية " في الشعر تلغي ندرته ، وبالتالي تميزه ، فلا ميزة بلا ندرة . ليصبح "المطر" ، وللمرة الوحيدة عند بدر ، ظاهرة قميئة . يقول : وانا احسب إن الشعر صعب المواريد ماهو غديرٍ ينضحه كل قصاد ! يوم امتلا هالجو حشو ومفاريد راع الجمل معذور لو كسر إشداد فغدير المطر يعطي الحياة للجميع ، ولكنه لا يعطي ذروة معانيها و الشعور بها : الشعر ! .. وختاماً ، ومن خلال هذه العجالة ، فإننا يمكن أن نقول ، وبمنتهى الإرتياح و المصداقية ، أن بدر في إبداعه الشعري ، كان ، و المطر ، وجهان لعملة واحدة ، أما النتيجة فهي تماماً نتيجة ما يحمله المطر من ثراء و خصب و نماء ..