الأخت العزيزة الجازي:
أولا ألف ألف الحمدلله على سلامتك،ونورتي شعبيات بعودتك،مع تمنياتي لكل الأخوات والأخوة في هذا المنتدى بدوام الصحة والسلامة من كل باس.
* يا ألله يا الجازي ..عمر طويل،وماضي بعيد أثرته بفتح هذا الموضوع،ماضي يتضمن نقطة تحول كبرى في حياتي على كافة الأصعدة،لازال أثرها ممتدا حتى لحظة كتابتي هذه الأحرف،نقطة التحول تلك هي لحظة إلتقائي بفايق عبدالجليل رحمه الله.
في بداية محاولاتي االشعرية،كتبت أنواع عديدة من أشكال الشعر،فبدأت بكتابة الشعر العمودي تأثرا بالبيئة والمحيط،ثم الفصحى،ومن بعد ذلك نوع من الشعر معروف في الخليج يسمى الزهيري،ثم عدت لكتابة القصيدة النبطية،إلا أنني لم أجد ذاتي في كل الأشكال السابقة،ولم أجد مايغري توقي للدهشة فيها،إلى أن بدأت بكتابة قصيدة التفعيلة تأثرا بالشعر العامي في الوطن العربي من العراق ،ومصر،ولبنان،وعمّق تعلقي بهذا الشكل قراءاتي لبعض شعراء الخليج الذين كانوا يكتبون قصيدة التفعيلة،إلا أن أنضج تلك التجارب في ذلك الوقت كانت لبعض الشعراء أذكر منهم: بدر بن عبدالمحسن و أحمد السعد من السعودية،وإبراهيم بوهندي وعلي عبدالله خليفة وعلي الشرقاوي وفتحية عجلان من البحرين،وأحمد راشد ثاني من الإمارات،وجاسم صفر وعلي ميرزا من قطر، وعبدالرحمن النجار ونايف المخيمروفايق عبدالجليل من الكويت.
شدتني قصيدة التفعيلة بعالمها الثري والخلاق،والدهشة التي تنثرها في الحضن عند تساقط الثمر من نخيلها،فبدأت أكتبها "بالسر" إلا عن أحد أصدقاء ذلك الزمان البعيد،وأقول بالسر لأن قصيدة التفعيلة كانت بمثابة الإثم في نظر المحيطين بي من أهل وأصدقاء،بل أنها محط إستهجانهم وسخريتهم،وكان الوحيد الذي أطلعه على ما أكتب هو ذلك الصديق وإسمه زيد،لم يكن يكتب الشعر ولكنه يملك ذائقة رفيعة،وصريح جدا في رأيه حول ما أقرأه عليه،وذات مرة قال لي :مسفر ما الذي يدريك أنك تسير في الطريق الصحيح فيما يتعلق بكتابتك هذا الشكل من الشعر؟!وأردف:أنا قد أبدي إعجابي بما تكتب وقد يشدني وقد أراه جميلا،وقد أبدي رأيي فيه،ولكنني لست شاعرا،وأنت بحاجة لرأي شاعر يكتب هذا الشكل ليقيّم تجربتك ويقوّمها. فقلت إن من يكتبون هذا الشكل قلّة (وذكرت له أسماء الشعراء الذين يكتبون هذا الشكل في الكويت وعلى رأسهم فايق)ولا اعرف كيفية الوصول لهم.بعد أيام قليلة جاءني البيت وأخرج ورقة من جيبه،ورفع سماعة الهاتف وأخذ يضغط أزرار الهاتف وينظر للورقة كلما ضغط زران أو ثلاثة،وأنا لم أكن مهتما بما يفعل،لأنني ظننت أنه يطلب رقما يريده هو،وبعد لحظات سمعته يطلب محادثة فايق عبدالجليل،هنا إلتفت إليه وكلي دهشة واستغراب،وحاولت بلغة الإشارة أن أستفهم منه عما يجري،وهو يرد علي بلغة الإشارة أن أصمت،وفجأة ناولني سماعة الهاتف لكي أتحدّث،هنا أحسست بالإرتباك والخوف والحرج،وصديقي يشير إلي بعصبية أن أتحدث،وطبعا كان فايق على الطرف الآخر من الخط،لا أتذكر حتى هذه اللحظة كيف بدأ الحديث بيننا ولكني أخبرته أنني أريد أن أسمعه بعض محاولات شعرية لعلي أحظى بشرف توجيهه لي،فرفض فايق أن أقرأ عليه قصائد من خلال الهاتف،وقال أنه يفضل أن يلتقيني في أي يوم أشاء خلال ساعات تواجده في مقر المسرح الكويتي،حيث كان وقتها أمينا للسر في ذلك المسرح،إنتهت المكالمة وأحسست حينها بالإحباط لأنه رفض أن يستمع لقصائدي من خلال الهاتف،وفسرت ذلك بأنها مجرد محاولة للتخلص مني،إلا أن صديقي أخذ يشرح لي منطقية تصرفه،بل انه زاد في تشجيعي حين قال لي أن تصرفه يدل على عكس ما أظن،تصرفه يعني أنه مهتم فعلا بالإستماع إليك،فلو كان يريد التخلص منك،لتركك تقول قصائدك من خلال الهاتف وربما يكون حينها مشغولا عن الإستماع لك بدون أن تعلم،ومن ثم قد ينهي المكالمة بأي جملة تشجيع مجانية والسلام.
المهم أنه وبإلحاح مستمر من صديقي ذهبنا للمسرح الكويتي بعد عدة أيام من المكالمة السابقة ومعي بعض قصائد لا تتعدى أصابع الكف الواحدة،وكنت خلال الطريق أشعر بالخوف والقلق،وكنت أقول لصديقي أحس أن مصيري متوقف على لحظة إلتقائي بفايق،فأما أن أتوقف تماما عن كتابة الشعر،أو أن ذلك سيكون دافعا لي للإستمرار بثقة وحماس أكثر،ناهيك عن مجرد الحالة التي قد تعتريني بمجرد الوقوف أما هامة شعرية باسقة كفايق عبدالجليل،وكان صديقي طوال الطريق يحاول التخفيف علي،عن طريق تبسيط الأمر،وكان يحاول ذلك عن طريق "التنكيت" حينا وهو يجيده بالفعل،وحينا عن طريق نقاش الأمر بعقلانية معي،المهم وصلنا للمسرح وأخذنا أحدهم إلى مكتب فايق بعد الإتصال به وإعلامه أن هناك من يريد لقاءه،فجأة وجدت نفسي وجها لوجه امام فايق عبدالجليل،ومر في ذهني سريعا الكثير من إبداعات هذا العملاق ،وإسمه اللامع على مستوى القصيدة والاغنية والمسرح،للحظة خلت أن قدماي لن تسعفاني على الوقوف،ومن حسن حظي أن طلب منا الجلوس بعد أن رحب بنا، وأحسست أن هذا هو فعلا الطلب المناسب في الوقت المناسب،لأنني كنت أتصوّر أنني سأقع على الأرض لو تأخر لحظة أخرى في ذلك.كان فايق رائعا في إحتوائه للآخر،بسيطا في تعامله،يشعرك ومنذ الوهلة الأولى بالأريحية التي تملأ روحه،حديثه سلس يطرزه غالبا بخفة دم غير مبتذله،دقيق الملاحظة،فطن،يطرح العمق بأسلوب يبدو سهلا وفي متناول يد العقل،مما جعلني أحس أن كثيرا من الرهبة زال،وبدأت أسمعه أحدى المحاولات بعد ان طلب ذلك،كان متكأ على طاولة المكتب عندما بدأت أقرأ القصيدة،وفي منتصفها إستند بظهره على الكرسي ،ممعنا النظر بي ومسندا رأسه بكفه،وبعد أن إنتهيت صمت ،ثم حدق في السقف مليا،وأنا على أحر من الجمر أنتظر تعليقه وكذلك صديقي،وبعد لحظات ظننتها عمرا،نظر إلي وقال:عندك غيرها؟! أجبته بالإيجاب،وبعد أن أنتهيت من قراءة المحاولة الثانية،أشار علي بيده أن أكمل،وهكذا إلى أن أنتهيت من قراءة كل المحاولات التي كانت معي. فقال: الله الله الله،صمت طويلا بعدها،ثم أخذ يسمعني من الثناء والإطراء مالم أكن أحلم بقليله،ثم قال هل لديك الكثير من هذا الشعر؟! قلت ليس بالكثير،ولكنه كم لا بأس به عددا.قال :أريدك أن تجمع كل ما تعتقد أنه جيد لديك من هذا الشعر،وتزودني به لأقرأه.
كانت تلك اللحظة من أهم لحظات عمري على الإطلاق،أذكر إنني خرجت مع صديقي من المسرح غير مصدق،وكأنما أرجلي تسير في الهواء لا على الأرض،وما أن خرجنا من المسرح وابتعدنا بالسيارة قليلا،حتى أخرجت رأسي من نافذة السيارة،وأخذت بالصراخ والتصفير وأخذت ارمي القصائد في الشارع مرددا الدنيا شعر الدنيا شعر،أحبك يافايق أحبك،وصديقي يكاد يغشى عليه من الضحك تارة،وتارة ينصحني بالتعقل،بعدها طلبت من صديقي أن لايعود بنا إلى البيت،وان ندور في الشوارع،ونتسكع في السالمية،ونرمي كل البنات بكل ورود الكلمات الجميلة،ونشاغب شلل الشباب التي كانت تتوزع كمجموعات على الكورنيش،وكان تلك الليلة ليلة مشهودة بالنسبة لي أنا وصديقي.
وبعد أيام اخذت مجموعة من القصائد لفايق عبدالجليل،ثم هاتفني بعدها بيوم،وطلب أن ألتقيه،وذهبت أنا وصديقي وأسمعني الكلام الذي كان قاله سابقا وزاد عليه الكثير من المدح،معبرا عن فرحته الكبيرة بموهبتي،وقال منذ زمن لم تشدني موهبة،ولم أقرأ منذ فترة طويلة بداية بهذا النضج ،وصعقني حين قال لم أقدم يوما شاعرا،لأنني لم أجد موهبة تستحق،موهبة تستحق أن أقرنها بإسمي،لكنني على استعداد أن أكتب مقدمة الآن على قرأته لك،وليس فقط على ما سأقرأه،وهذا دليل كما قال على إيماني بنضج موهبتك الشعرية،وأن ما أقوله من ثناء على تجربتك ليس كلاما مجانيا أو للمجاملة.
وفعلا صدر الديوان الأول لي متوجا بمقدمة رائعة لفايق عبدالجليل،وليس هذا فقط ،بل أنه هو من أخذني مع مخطوطة الديوان إلى مالك دار النشر التي كان ينشر عن طريقها فايق دواوينه،ذات السلاسل للنشر والتوزيع،د.عبدالعزيز المنصور،وقال له أريد نسخة من عقدكم معي،وعندما أحضروا صورة من العقد،قال للدكتور عبدالعزيز،أريدكم أن تكتبوا الآن نفس هذا العقد،ولكن بدلا من إسمي ضعوا إسم مسفر الدوسري،فنظر إليه الدكتور،ومن هو هذا؟! فأشار فايق إلي!!هنا فتح الدكتور عينيه حتى أقصاهما دهشة،وأخذ ينظر إلي تارة،وتارة أخرى إلى فايق،والحقيقة أن دهشتي لم تكن أقل من دهشة الدكتور حينها،بعد لحظات قال الدكتور ولكن يا أستاذ فايق كيف لنا أن نغامر كدار نشر بإسم غير معروف؟!ثم كيف تكون شروط العقد معه هي نفس شروط أحد أهم الشعراء لدينا في الدار؟!فقال له فايق:فقط ثق بي ولن تندم،أنا أراهن على هذا الشاعر،فلم يملك الناشر أمام إصرار فايق سوى ان يوافق،فكان ديوان "صحاري الشوق" وهو الديوان الاول لي.
*بالنسبة للأغنية،فايق طلب مني طلبا ذات يوم حين قال :أرجوك يامسفر ..أرجوك لا تدخل الأغنية.فقلت له :لماذا ؟!قال: على الاقل واحد فينا يبقى للقصيدة!!أوجعني ذلك الطلب كثيرا،ففايق حينها كان متورطا في الاغنية،دخلها كضيف ولم يستطع الفكاك من إغرائها،وكان ذلك على حساب كتابتة للقصيدة،وكان يطلب مني أحيانا أن أسمعه آخر ما كتبت،ويعلق بعدها قائلا عزائي الوحيد في عدم تفرغي للشعر هو أنك مازلت تكتبه وبالشكل الذي أحبه،فكأنما تكتب نيابة عنا الأثنين،لذلك كان يشدد علي بأن لا أكتب الأغنية حتى لا يسحرني إغراء الشهرة فيها وأهجر الشعر.لذا كنت ولا زلت لا أملك الحماس لكتابة الأغنية،مع عدم معارضتي لغناء ما كتب كقصائد أصلا.
* حدث أن أتصل بي الأستاذ خالد الشيخ،وقال أن لديه نصا غير مكتمل لفايق عبدالجليل قام بتلحينه،وأنه عانى الامرين في سبيل أن يجد شخصا يكمله،بالرغم من محاولة بعض الشعراء وكتاب الأغنية ذلك،إلا أنه وكما يقول لم يقتنع بتلك المحاولات،ومن ضمن هؤلاء الشاعرة هتان،التي أشارت عليه أن يعرض العمل علي،وقالت له إذا كان هناك من يستطيع تكملة هذا النص كما تريد فهو مسفر الدوسري،لأن روحه قريبه جدا من روح فايق.
قلت له يا أستاذ خالد أنا لأستطيع أن أكتب كلاما على موسيقى جاهزة مسبقا،فهذا بحاجة لكاتب غنائي محترف،وأنا أصلا ليس لي علاقة في كتابة الأغنية من قريب أو بعيد،وبعد نقاش بيننا قال:أنا سأرسل لك العمل ملحنا وما عليك سوى ان تستمع إليه،وتحاول تكملة الكلام،ومن ثم نرى ماذا سيحصل،وفعلا أرسل العمل ،وقمت بكتابة أحد الكوبليهات،وسعد الاستاذ خالد بما كُتب وقام بغناء الأغنية في أحد إلبوماته الاخيرة.
بل أن هذا شجعه على أن يطلب مني كتابة كلام لأغنية جاهزة أخرى،ولكنه كان غير مقتنعا كثيرا بالكلام،وتم ذلك أيضا في نفس الألبوم.
*سؤالك عن غياب المرحوم الشاعر فايق عبدالجليل،يعيد فتح النوافذ "المواربه" على هذا الجرح، على المستوى الشعري غياب فايق مؤثر جدا ،فأعتقد أن وجود فايق الآن مهم أكثر من أي وقت مضى،خصوصا في هذه المرحلة التي يكتنفها غبار الشعر،فأصبحنا بالكاد نرى ثمة خيال لمهرة شعر هنا،ومهرة أخرى هناك،ومن ثم تختفي تحت جنح الغبار الذي يغطي ساحة الحــ(ر)ـب،أقصد ساحة الشعر،وعلى المستوى الشعري أيضا غياب فايق مؤثر عندما نتحدث عن قصيدة التفعيلة،فهو أحد أهم روادها،وأكثرهم إيماناً بقدرتها وفعلها السحري،فلا شك أن وجوده في هذه المرحلة بالذات حيث أصبحت هذه القصيدة كالوطن الذي هاجره كثير من مواطنيه،وقل عدد السياح الذين يزورونه،أعتقد أن وجود فايق في هذه المرحلة سيشكل علامة فارقة في عودة المهاجرين وجذب السياح،وإعادة الجمال للمرافىء،والخضرة للغابات،والأشرعة لحضن البحر،والموسيقى لأصابع البيانو،والأغاني لحناجر البحارة،والحب لقلوب العشاق الصغار،والأناشيد لطابور الصباح المدرسي،باختصار وجوده سيعيد الحياة الطبيعية لهذا الوطن الجميل(قصيدة التفعيلة).أما على المستوى الشخصي ففايق حاضر لا يغيب.
* أنا غير متيقن من أن السياسة أم الشعر أم كليهما معا كانا السبب في غياب فايق عبدالجليل،ولكني متيقن أنه خطورة فايق تكمن في شاعريته وليس في مبادئه السياسية،أما بالنسبة لي فأنا لست نظرا سياسيا ولا تستهويني السياسة إلا بالقدر الذي يجعلني فادرا على تفسير مايجري حولي ليس من أحداث سياسية فقط وإنما من حياة يومية معاشة.
سعدت بوجودك،منتظرا عودتك مرة أخرى ولكن ليس بهكذا أسئلة تفتح النوافذ على مصراعيها لكل جهات الزمن