.
الخَطَابة:
فن الخطابة أحد الفنون النثرية، وظيفته الإقناع، يختلف عن غيره بحضور المتلقي. فهو نص مُشافَهٌ به، ولذلك، لابد من توفر مواصفات في النص وفي مؤديه ليتحقق الإقناع والتأثير في الجمهور المتلقي. وقد اهتم النقاد العرب بمواصفات المؤدي وهو الخطيب، ومواصفات الأداء أي الإلقاء، ومواصفات النص الملقى. فتطلبوا في الخطيب جهارة الصوت وجمال الهيئة وحُسن النبرة وسلامة جهازه الكلامي من العيوب، كما أوصوا المؤدِّ ي بحسن الإلقاء وتوزيع مواضع الوقف توزيعًا جيدًا، وأن يقلل مما يُنفَر منه مثل التنحنح والسعال، وبعض الحركات المثيرة كالعبث باللحية والحركات المشينة.
واشترطوا في الخطبة سهولة اللغة، بحيث يتحقق الإقناع، وأن يراعى في لغتها مناسبتها؛ فطالبوه بألا يستعمل ألفاظ الخاصة في مخاطبة العامة ولا كلام الملوك مع السوقة، بل يعطي لكل قوم من القول بمقدارهم. كما طالبوا الخطيب أن يراعي المتلقين واحتمالهم لمواصلة التلقي، ومن ثم يضع الإيجاز موضعه، والإطالة موضعها، أي يراعي في النص الملقى طولاً وقصَرًا استعداد المتلقين للتلقي، وعبروا عن ذلك بقولهم: لكل مقامٍ مقال.
وتتنوع الخطابة بتنوع موضوعاتها؛ فهناك الخطابة الدينية والخطابة السياسية والخطابة الاحتفالية والخطابة القضائية.
الخطابة عند العرب/
شاركت الخطابة الشعر في الإقناع والتأثير، إلا أنها كانت دونه في الانتشار والذيوع، وذلك لقابلية الشعر أن يُحفَظ وأن يُتناقَل وأن يُتداوَل في غير لحظة إذاعته، بخلاف الخطابة إذ هي صعبة الحفظ لنثريتها، وحاجتها للمشاهدة لتكون خطبة.
الخطابة في العصر الجاهلي/
كانت مهمة الخطابة في الجاهلية النصح والإرشاد، والمنافرة والمفاخرة والدعوة للسلم وحقن الدماء. ومسرحها الأسواق والمحافل والوفود على الملوك والأمراء. ومن أشهر خطباء الجاهلية قس بن ساعدة وسهيل بن عمرو الذي أسلم وحسن إسلامه، وكذلك لبيد بن ربيعة وهَرم بن قُطْبة الفَزاري وغيرهم كثير. وما وصل إلينا من تلك الخطب يغلب عليه السجع وهو على خطب الكهان أغلب.
الخطابة في الإسلام/
اعتمد الإسلام الخطابة لحاجته إلى الخطابة أداةً في التبليغ وتفنيد حجج الخصوم، وإعلان قيم الإسلام ومُـثُله وآدابه وأحكامه، فأصبحت وسيلة الدعاة المفضلة، بل صارت شعيرة من شعائر بعض العبادات. فهي جزء من صلاة الجمعة الأسبوعية وصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء. وهي القناة لإبلاغ المسلمين عندما يحزبهم أمر أو يُلم بهم خَطْب أو تظهر الحاجة لاستنهاض الناس واستنفارهم.
وبتقدم التاريخ العربي الإسلامي وتعدد الفرق الإسلامية، كانت الخطابة أداة الدعاية ومصارعة الخصوم، فاشتهر عدد من الخطباء حُفظت خطبهم وظلَّت تُتداول وتحفظ في مدونات الأدب والتاريخ.
في صدر الإسلام كان الرسول ³ أخطب العرب قاطبة، وأشهر خطبه تلك التي خطبها في حجة الوداع. وبالمثل كان الخلفاء الراشدون خطباء مفوهين، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
وأصبح للخطبة تقليدٌ ومنهج، فهي تبدأ بحمد الله والسلام على رسوله، وتبعد عن السجع وتوُشَّى بآيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبويَّة والأثر مع الاستعانة بالأمثال والأشعار والحكم.
في العصر الأموي ازدهرت الخطابة وبلغت ذروتها، وتنوعت أغراضها بين السياسي والديني والعقلي. وكان للأحزاب السياسية دور كبير في نهضة الخطابة، إذ كانت سلاحًا من أسلحتهم في الدعوة لأحزابهم ومبادئها. ويُعدُّ من أشهر خطباء الخوارج قَطَريّ بن الفجاءة وأبوحمزة الشاري الخارجي. ومن أشهر خطباء الشيعة الحسين بن علي والمختار الثقفي. أما لدى الزبيريين فإن عبدالله بن الزبير كان خطيبهم غير مدافع. وبالمثل كان الحزب الأموي الحاكم يوظف الخطابة لأغراضه السياسية، وكان الحجاج الثقفي وزياد بن أبي سفيان سيّدي المنابر غير منازعَيْن.
وبجانب الخطابة السياسية، ازدهرت خطابة المحافل حين تفد الوفود على الخلفاء والولاة. ومن أشهر هؤلاء الخطباء سحبان وائل صاحب الخطبة التي سُمِّيت بالشَّوهاء، والأحنف بن قيس.
وكذلك نهضت في هذا العصر الخطابة الدينية والوعظية والمنافرات، ومن أشهر من سادوا في هذا المجال الحسن البَصْري وواصل بن عطاء وخالد بن صفوان وغيرهم.
وقد اشتهرت بعض الخطب مثل: خطبة زياد البتراء لعدم ابتدائها بالتحميد وعدم افتتاحها بالتمجيد. والخطبة الشوهاء لخلوها من الاقتباس من القرآن، وعدم تضمنها للصلاة على النبي ³.
في العصر العباسي نشطت الخطابة السياسية؛ إذ اتخذت أداة في بيان حق العباسيين في الحكم. وكان الخلفاء العباسيون أنفسهم من أبرع الخطباء، مثل أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور. ثم لما ماتت الأحزاب السياسية بقضاء العباسيين عليها، أخذت الخطابة السياسية تضعف وتضمحل، وكذلك الخطابة المحفلية، إذ لم تعد وفود العرب تفد على قصور الخلفاء بعد قيام نظام الحجابة في الحكم. أما الخطابة الدينية فقد ظلت على ازدهارها. ويعد من أعلامها صالح بن عبد الجليل واعظ المهدي وابن السماك واعظ الرشيد. وبنهاية العصر العباسي الأول تتوارى الخطابة: سياسيُّها ومحفليُّها ووعظيُّها لتصبح الرسالة المكتوبة هي الأداة الأقدر على المخاطبة والتعبير. انظر: الرسائل.
والخطابة، وإن كانت فنًا قديمًا، فما زال لها حضورها في المحافل السياسية والمنابر الدينية.
فن الخطابة في الأدب الغربي/
ظهرت جملة من الدعاوى القضائية عندما قامت الديمقراطية في سيراقوسة في جزيرة صقلية في عام 466ق.م. وقد أقام هذه الدعاوى المنفيون السابقون الذين صادر الطغاة ممتلكاتهم. كان العديد من هذه الدعاوى يعود إلى عدة سنوات خلت، وكثيرًا ما كانت تفتقر إلى الدليل الموثق. وكان المدّعون بحاجة إلى المساعدة في عرض قضاياهم. وأول من قدّم مثل هذه المساعدة إغريقي من صقلية يُدعى كُوراكس. وقد اعتُبر كوراكس مُؤسس فن الخطابة. فقد أوجد منظومة من القواعد لمخاطبة الجماهير في عام 460 ق.م بمساعدة تلميذه تيسياس. وقال كوراكس إن الخطبة ينبغي أن تضم عادة خمسة أجزاء: 1ـ المقدمة 2ـ السَّرْد 3ـ المناقشات 4ـ الملاحظات الثانوية 5ـ الخُلاصة.
ومن بين أساتذة البيان الأوائل: بُروتاغوراس الذي طوّر مبادئ المناظرة، وجورجياس الذي ركَّز على الأسلوب، وهيبياس الذي اهتم باستخدام الذاكرة بالدرجة الأولى، ولسياس الذي أظهر كيف تجتمع الأناقة الكاملة مع البساطة.
امتدت دراسة الخطابة إلى أثينا. فخلال القرن الرابع قبل الميلاد، كان مُعظم سكان أثينا الذكور ينضمون إلى الجمعية العامة، حيث تُناقش السياسات في إدارة شؤون العدل. وفي المحاكم كانوا يضطلعون بدور المحلّفين. وكانت مسؤولية القرار تقع في كل قضية على عاتق المحلّفين، إذ لم يكن هناك قُضاة. وكان المدعون والمدعى عليهم على حدٍ سواء يترافعون أمام المحكمة مدافعين عن قضاياهم. وقد أدى ذلك إلى دراسة الخطابة.
الخطباء الكلاسيكيون/ كان بيركليس أول خطيب إغريقي مفوه. وقد أخبر ثيوسيديديس عن خُطبه في مؤلفه المشهور تاريخ البيلوبونيز. وأشهر خطب بيركليس الخطبة الجنائزية. أما أشهر خطباء الإغريق فكان ديموسثينيس. وأشهر خطبه الخطب الفيليبية وهي خطب هاجم فيها فيليب الثاني المقدوني بوصفه رجلاً يهدد الاستقلال الإغريقي. وكان أرسطو هو الكاتب الإغريقي المبرّز في فن البيان. وقد حدد فن البيان بأنه المقدرة على اكتشاف الوسائل المتوفرة للاقناع في كل حالة. أكد أرسطو على اتباع ثلاث طرق للبرهنة: 1-الطريقة الأخلاقية؛ وتعتمد على تأثير شخصية الخطيب. 2- الطريقة العاطفية؛ وتعتمد على تأثير استخدام الخطيب للمناشدة العاطفية. 3- الطريقة المنطقية؛ وتبين مدى تأثير استخدام المبادئ الأصولية المتبعة للمحاجّة بالبرهان.
ويحتل شيشرون المقام الأول بين الخطباء الرومان المهمين الأوائل. وتعتقد بعض المراجع أن شيشرون هو الذي كتب ريتوريكا أدهيرينيوم حوالي عام 86ق.م. وفيها يُقرر أن الخطيب ينبغي أن يقسم إعداد الخطبة إلى خمس خطوات وهي: 1- الاستنباط: تحليل موقع الخطبة والجمهور، وكذلك مادة الموضوع ودراستها بالإضافة إلى انتقاء مواد الخطبة. 2- الترتيب: ترتيب مواد الخطبة وفق ما نسميه الآن مُقدمة، ومناقشة وخُلاصة. 3- الأسلوب: استخدام وتجميع كلمات للتعبير عن الأفكار بوضوح ودقة وحيوية وبطريقة ملائمة. 4- الذاكرة: طرق تذكر المادة. 5- الإلقاء: العرض الشفوي.
ويطور شيشرون في كتابه الأول الخطيب حوالي عام 55 ق.م. موضوع الخطبة فيقول "إن الخطيب العظيم ينبغي أن يكون على درجة كبيرة من العلم، وإن الاهتمام الذي يناسب الخطيب هو لغة القوة والأناقة المتلائمة مع مشاعر البشرية ومعارفها. ويؤكد الكتاب الثاني أهمية الاستنباط والترتيب مع الانتباه الخاص إلى مراعاة فن الخطابة. ويتناول الكتاب الثالث الأسلوب والإلقاء. وهنا يبين شيشرون أن الخطيب يجب أن يتكلم "بصورة صحيحة، وجلية وأمينة وموفية بالغرض".
ألف كوينتليان كتابه تدريب الخطيب حوالي عام 90ق.م. وهو كتاب كامل لتدريب الخطباء الجماهيريين. ولا يزال هذا السفر يُعد واحدًا من أكثر الأعمال إحاطة بتدريب الخطباء.
الخطباء المتأخرون/ مع مجيء النصرانية، حل الواعظ محل الخطيب السياسي. وكان من أشهر الواعظين الأوائل بُول وجون كريسوستوم وأوغسطين. وكان من أبرز خطباء الإصلاح الديني سافونارولا في نهاية القرن الخامس عشر. ومارتن لوثر وجون كالفن خلال حركة الإصلاح في القرن السادس عشر. ازدهر فن الخطابة السياسية مرة أخرى في القرن الثامن عشر أثناء الثورة الفرنسية، حيث كان الكونت ميرابو يخطب في العامة، يحثهم على مواجهة السلطة الملكية.
كما أنجبت بريطانيا العديد من الخطباء المتميزين، ومن بين هؤلاء إدمُوند بُيرك، وبنجامين ديزرائيلي، ووليم جلادستون، وونستون تشرتشل.