.
النقــد:
النـقـد التمييز، مأخوذ من نقد الدراهم وهو فحصها لبيان زائفها من جيدها. ووظيفته تحليل الأعمال الفنية والأدبية والحكم عليها. ويحاول النقد تفسير هذه الأعمال، وتقويمها، والبحث في المبادئ التي يمكن من خلالها فهمها، بالإضافة إلى سعيه لتحقيق مستويات عالية بين الفنانين من أجل تشجيع تذوق الفن، كما يساعد أيضًا على جعل المجتمع على صلة بقيمة الأعمال الفنية الماضية والحاضرة. يؤدي النقد دورًا مهمًا في جميع أشكال الفن. وهذه المقالة تركز على أنواع النقد الأدبي.
أنواع النقد الأدبي:
يمكن تقسيم النقد إلى أربعة أنواع رئيسية. وتختلف هذه الأنواع تبعا للجوانب الفنية التي يريد الناقد التركيز عليها. فالنقد الشكلي يبحث في أشكال الأعمال الفنية وبنيتها. كما يمكنه المقارنة بين أحد هذه الأعمال وأعمال أخرى من الفئة ذاتها، كما هي الحال في المسرحيات المأساوية أو السوناتية الأخرى. وقد يكون النقد الشكلي أحيانًا ذاتيا ـ بمعنى أنه يهدف إلى النظر إلى كل عمل فني بشكل مستقل في حد ذاته. أما النقد البلاغي فيحلل الوسائل التي تجعل العمل الفني يؤثر في الجمهور. فهو يركز اهتمامه على الأسلوب ومبادئ علم النفس العامة. وينظر النقد التعبيري إلى الأعمال الفنية، كما لو كانت تعبر عن أفكار الفنان أو مشاعره؛ فهو يبحث في خلفية الفنان ودوافعه سواء الواعية منها أم غير الواعية. كذلك ينظر النقد التقليدي، نقد المحاكاة إلى الفن على أنه محاكاة للعالم. لذلك فهو يحلل الطرق التي يتبعها الفنانون لكي يظهروا الواقع وأفكارهم حول هذا الواقع.
ومن الممكن الجمع بين صنوف النقد الأربعة هذه؛ فمثلاً: من الممكن لناقد يهتم بالشكل أن يدرس كيف يؤثر هذا الشكل في الجمهور.
تاريخ النقد الأدبي:
عرف النقد الأدبي في معظم الثقافات الإنسانية، إن لم يكن كلها. فإذا كانت تلك الثقافات عرفت الأدب سواء كان شعرًا أم قصا أم تمثيلا في مراحل مبكرة فإن من الطبيعي أن يفرز ذلك آراء نقدية حول ما يقدمه المبدعون. وقد حفظ التاريخ أراء نقدية قديمة تعود للحضارة الفرعونية مثلاً حول الأنواع الأدبية التي عرفتها تلك الحضارة وبعض المسائل المتصلة بدور الكاتب وما إليه على النحو الذي ما زال مسجلا على برديات فرعونية قديمة.
النقد اليوناني/
كان لليونانيين دور بارز في تطوير فكر نقدي ما يزال مؤثرًا حتى اليوم بفضل تفاعل المفكرين والنقاد العرب المسلمين معه قبل قرون وانتقال ذلك من ثم إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة. فقد كان للفيلسوف اليوناني أفلاطون دور بارز في تطوير النقد الأدبي من خلال نظريته في المحاكاة التي حملها كتابه الجمهورية والتي بمقتضاها رأى أن الشعراء ذوو تأثير سلبي على النظام السياسي والاجتماعي الذي دعا إليه في كتابه فاضطر إلى استبعادهم من ذلك النظام. وقد طور أرسطو، تلميذ أفلاطون، نظرية المحاكاة ولكن في الاتجاه المعاكس حيث دافع عن الشعر الملحمي والمسرحية المأساوية. يقول أرسطو في كتابه فن الشعر إن الشعر محاكاة تثقيفية لا للأشياء ولكن للأفعال، ويعد كتابه أكثر الأعمال النقدية تأثيرًا في العصور القديمة، وما زال حتى الآن ذا أهمية كبيرة.
النقد الهندي/
في الهند ترافقت الكتابات النقدية الأولى مع ظهور أشعار الفيداس الدينية التي كتبت في الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن الخامس قبل الميلاد. غير أن تطور نظرية نقدية واضحة في الهند لم يحدث حتى القرن الرابع قبل الميلاد، وهو الفترة التي تعود إليها كتابات اليونانيين كأفلاطون وأرسطو. تلك النظرية جاءت مخالفة لما لدى اليونانيين من حيث هي تدمج الأدب بالدين والحياة اليومية ولا تؤسس لفلسفة نقدية مستقلة. بل إن الهنود في تلك الفترة ذهبوا إلى أبعد من اليونانيين حيث اعتبروا الشاعر مؤسسا للقيم الاجتماعية والأخلاقية. غير أنهم التقوا مع أرسطو في نقدهم المسرحي حين اعتبروا المسرح مصدرًا للتطهير العاطفي. يتضح ذلك فيما أسموه "علم المسرح" (ناتياساسترا) في القرن الثاني الميلادي. وفي القرن الثامن تطور تيار شكلي/ معنوي تحت مسمى "راسادهافاني" اختصر ما قبله وأسس لما بعده في النقد الهندي. وفي القرن السادس عشر تعرضت الهند للتأثير الإسلامي القادم من بلاد فارس فدخلت أشكال شعرية فارسية وانتهى المسرح الهندي القديم. ثم ما لبث التأثير الإسلامي أن تراجع تحت ضغط المؤثرات النقدية الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، المؤثرات التي تكثفت بظهور أدب هندي مكتوب باللغة الإنجليزية. غير أنه في الوقت الذي سعى فيه بعض النقاد الهنود المحدثين إلى تبني مفاهيم نقدية غربية أكد آخرون على أهمية العودة إلى الموروث الهندي القديم كما فعل الناقد نار اسيمهاياه في تأسيسه لمدرسة "دفانيالوكا" في جامعة ميسور بجنوب الهند.
النقد الصيني/
في الثقافة الصينية يعود أول أثر نقدي بارز حول الشعر إلى أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلادي على يد تشاو باي، وفي الفترات المتعاقبة استمر النقد في التطور مرتبطا بالشعر وبالأنواع الأدبية الأخرى من ناحية وبالفلسفات الدينية والكونفوشيوسية من ناحية أخرى. وفي القرن الثالث عشر أكد الناقد يان يو على أن ممارسة الشعر وسيلة لتطوير الذات وتبنى دعوة اتباعية تمثلت بدعوة الشعراء إلى الإفادة من فترات معينة من التراث الصيني القديم. وفي القرن السابع عشر وصل النقد الروائي والمسرحي إلى مرحلة متطورة على يد نقاد مثل فنج مينجلونج في القصة ولي يو في المسرح وجنج شنجتان. غير أن هذا النوع من النقد تراجع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليعود من جديد في القرن العشرين ضمن تطورات نقدية أخرى جاءت في سياق التفاعل مع المؤثرات الغربية الوافدة. ويعتبر لو شن في أوائل القرن العشرين من أكثر الكتاب أثرًا في تطور النقد الصيني، كما أن الثورة الشيوعية بقيادة ما وتسي تونج أحدثت تحولاً عميقا في الأدب والنقد الصيني ما يزال أثره مستمرًا حتى اليوم.
النقد العربي/
تعود الآراء النقدية الأولى في الحضارة العربية الإسلامية إلى العصر الجاهلي حين كانت تعقد أسواق العرب ويتبارى الشعراء فيقوم أحدهم، كما فعل النابغة الذبياني، بالتحكيم. وبمجيء الإسلام اتخذ الشعر موقعًا محددًا في خدمة الدعوة حين شجع الرسول ³ حسان بن ثابت على محاربة الكفار بشعره، وجاء القرآن الكريم ليضع قيمة عليا للشعراء المؤمنين في مقابل غيرهم. وعلى الرغم من مجيء مؤثرات أخرى لتلعب دورًا في تطوير الرؤية النقدية العربية في العصور التالية فإن الأسس الإسلامية ظلت قوية التأثير.
في القرن الثامن الميلادي دخلت الثقافة العربية عصر التدوين وجاءت عناصر أجنبيةعدة منها الفارسي والبيزنطي واليوناني والهندي فدخلت إثر ذلك مفاهيم جديدة وتغيرت مفاهيم موجودة. فجاء مفهوم "الأدب" بمعنى "الثقافة" أو "العلوم الإنسانية"، وجاء مفهوم "الكاتب" مميزًا عن "الشاعر". ومع هذه التطورات تحول النقد الأدبي إلى كيان مستقل بعودة الدارسين كابن سلام الجمحي إلى الشعر الجاهلي والإسلامي وتصنيف الشعراء في طبقات، ودراسة الخليل بن أحمد للعروض، فحدد أغراض الشعر العربي وفنونه. وفي القرن التاسع أخذت المؤثرات الفلسفية من خلال المعتزلة تتضح وكان على النقد أن يتفاعل معها مثلما يتفاعل مع التطورات الشعرية ذات العناصر الأجنبية كما عند أبي نواس ثم أبي تمام. فاشتعلت معارك القديم والجديد والصنعة والطبع، وكان لابد من مراجعة بعض الأسس النقدية/ البلاغية السابقة.
شغلت تلك القضايا نقاد القرنين العاشر والحادي عشر مثل ابن طباطبا وابن رشيق ثم عبد القاهر الجرجاني الذي تعد نظريته في "النظم" تتويجًا للتوجه الشكلاني الذي نلمح أسسه عند الجاحظ من قبل. وفي تلك الفترة لعب الفلاسفة المسلمون مثل الفارابي وابن سيناء وابن رشد دورًا كبيرًا في تطوير النظرية النقدية عبر مفاهيم فلسفية مستقاة من مصادر يونانية أرسطية كمفاهيم التخيل والمحاكاة التي استثمرها ناقد كبير في القرن الثالث عشر هو حازم القرطاجني في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء الذي أكد فيه على عدد من المفاهيم منها التخييل الذي عده مهمة الشعر وذلك باستثارة الصور في ذهن المستمع على نحو يستثير الدهشة.
في الفترة من القرن الثالث عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين لا نجد نقدًا أدبيًا عربيًا مميزًا. وكان من عوامل التغير التي أدت إلى انتعاش النقد الأدبي في بدايات الفترة الحديثة، ضمن عوامل النهضة الأخرى كالتعليم وغيره، دخول المؤثرات الغربية من خلال أعمال المستشرقين ومن خلال التفاعل مع المدارس الأدبية الغربية، كما نجد لدى طه حسين ومدرسة الديوان والمهجريين وغيرهم. فقد تبنى طه حسين رؤية استشراقية للموروث العربي الإسلامي وتبنى العقاد في مدرسة الديوان توجهًا نفسانيًا في دراسة شعر ابن الرومي ودخلت التيارات الاجتماعية من خلال نقاد مثل سلامة موسى. وفي منتصف القرن العشرين لعب نقاد مثل: محمود شاكر ومحمد مندور ومارون عبود أدوارًا مهمة في تطوير الحركة النقدية، ليعقبهم في الوقت الحاضر عدد أكبر من النقاد جاء نتيجة تطور النقد الأدبي داخل الدراسة الجامعية. وعلى الرغم من سعي بعض النقاد إلى تطوير رؤية أصيلة للنقد، كما نجد لدى شكري عياد، فقد ظل التيار المهيمن معتمدًا على تيارات النقد الغربي كما نجد في التيارات الشكلانية والماركسية والبنيوية والنفسية وغيرها التي تتضح في أعمال نقاد مثل محمود أمين العالم وعز الدين إسماعيل وكمال أبو ديب ومحمد برادة وعبدالعزيز المقالح.
النقد الغربي/
التيارات النقدية الغربية المشار إليها هنا تركت أثرًا بعيدًا في تطور النقد الحديث في مختلف الثقافات التي احتكت بها وبحكم الهيمنة الحضارية الغربية على العالم المعاصر. غير أن تلك التيارات تعود بدورها إلى جذور متعددة أبرزها الجذور اليونانية/ الرومانية المعروفة بالكلاسيكية. فقد بدأ النقد الأوروبي متفاعلاً مع المقولات الأفلاطونية والأرسطية وغيرها ثم تطور حسب تطور الثقافة الأوروبية ومستجدات الإبداع الأدبي. فظهر الصراع بين القديم والجديد في فترة مبكرة ثم هيمن النموذج الكلاسيكي على القرن الثامن عشر الميلادي إلى أن جاء النقد الرومانسي عند الألمانيين جوته وشليجل، والإنجليزي كوليردج وهازلت وغيرهم ليحل محل ماسبقه، وليمهد لنقد القرن التاسع عشر في عدد من البلدان الأوروبية، كما نجد لدى ماثيو آرنولد في إنجلترا الذي أكد على أهمية العلاقة بين الفن والمجتمع وسانت بوف في فرنسا الذي ركز على السيرة الذاتية.
أما في القرن العشرين الميلادي فقد تشعبت اتجاهات النقد الأدبي بين الشكلانية التي هيمنت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن عند الشكلانيين الروس في روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية كما عند شكلوفسكي، والماركسية التي تطورت على يد نقاد مثل الهنغاري لوكاتش والروماني لوسيان جولدمان، والنفسية التي أفادت من تنظيرات فرويد ويونج، إلى غير ذلك من تطورات عرف بها نقاد مثل تي إس إليوت وآي أي رتشاردز في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وميخائيل باختين في روسيا ونورثروب فراي في كندا ورولان بارت في فرنسا. وقد لعب علم اللغة الحديث كما طوره السويسري فرديناند دي سوسير دورًا هامًا في التأثير على الشكلانية والبنيوية. وفي الثمانينيات والتسعينيات هيمنت تيارات عرفت بتيارات "ما بعد البنيوية" مثل النقد النسوي والتقويضي (التفكيكي) وما بعد الاستقلالي والتاريخاني الحديث.
.