ألقت بشعرها للريح، لم تكن أنثى كما توقع الراوي، كانت قصيدة حُرة، تتشعب أوردتها حروفاً تتغنجُ على المارة، تُلقي بأسرارها للينابيع فتتفجر عيون الأرض من تنهدات البوح، تتناثر كلمات لم تكونها ابجدية متعارفً عليها، تتسامى، تعلو، تصعد متوحدة بأعماقها الذهبية الى قمةٍ متفردة، لم يطأها فكر بشر، ولا خطرت بباب الظن من فلاسفة متبحرين.
في ظهيرة الثلاثاء، أي ثلاثاء وأي أسبوع وما التاريخ؟..لا أحد يعلم حقاً، كل ما تعرفه الفلاحة التي تقتات من موسم الورد، أنها سمعت غناءاً يترنم متهادياً الى الفضاءات ، يأتي من وراء الساقية، وحين لمحت الوردة تقف على غصنها منتصبة لتصغي قذفت بما تبقى من مشروبها النهاري الموشح بالبانوج الى سبيل الصوت، فتموجت نغمة شاردة، وعادت لسرب النغمات.
ثم أن الفلاحة إنشغلت برتق الملاءات الفضفاضة من جنس الكتان وهادنت أرواح النسيج لتليق في ألفة الحضور لجوهر الجوري أو المحمدي الصارخ بلونه ورائحته على الكون ، والمتعدي على قانون الهدوء النسبي في ما حول الأرض الخصبة في الناحية الملتاعة من فقد أخضرها تباعاً. أخذت في الأثناء ذاتها تُفكر في الحكاية التي ستطعم بها حديث الخميس في حضرة قريناتها العلويات وقد تنثر قارورة ملونة وتكسر الآنية قرباناً للصوت.
في التفكير ، لا يكون هناك صمت، حدثها النسيج فأرتاعت لوهلة ثم تمكنت منها، قال بحنكة السنين، في الحيرة تتشابك خيوطي الأولى ، أكون حكاية وحدي وليس لك ِ في مداعبة جروحي أن تنشغلي عني في ما عداي، سيتسع الهامش وتتوه الخيوط وتهرب الى قفطان الصوفي في محاولة لإنقاذ ذاتها من وقع الحلول لصوت القصيدة الثائر، في المواسم التي مضت منذ زمن لم تنشغل الحائكات بأصواتٍ سوى صوت حفيفي الأملس على أصابعهن الملتفة بحنان الوردة ، هذبن أشواك أفكارهن كي لا اذهب عنهن الى عداهن فأنتِ وما تريدين نهب الوقت الذي لا يعود إن ذهب، هذه سمته وجوهر حياته ، ستعودين للندم لكنه لن يفيد.
الصوت الأملس في انتثار سُحب المساء تمكن منها، لم تصغ للنسيج، وليس للموسم أن يستحوذ على اهتمام حيرتها الدفينة لوهلةٍ وحيدة، الأمر أبعد، أعمق مم قد يساير المعيشة أو يفكر في الدريهمات الملقاة على باقات الورد القصيرة الشغولة بصبر ٍ في قماطات كتانها للعرائس اللواتي انتظرن كل السوادات لتنجلي ويأتي الربيع بفرحاتهن المتتالية وأنوار الجيرة الممتدة على البيوت الطينية المتراصة بغير ما توافقٍ كبير في الأنحاء، وأستسلمت للكلمات المتناثرة هنا وهناك منشغلة بتكوين صدر لبيتٍ قد يكون لها.