مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 07-02-2006, 15:02   #11
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
.
السرجين المفضض – الشخصية الثانية
جبران خليل جبران
من مجموعة العواصف

.
.
أديب أفندي:

فتى في السابعة والعشرين من عمره، ذو أنف كبير وعينين صغيرتين ووجه قذر ويدين ملطختين بالحبر وأظافر محشوة بالأوساخ، أما ملابسه فممزقة الأطراف وعلى حواشيها بقع من الزيت والدهن والقهوة، وليست هذه المظاهر القبيحة من نتائج العوز والحاجة بل من مولدات إهماله واشتغال باله بالأمور المعنوية والمسائل العلوية والمواضيع الإلهية… وقد سمعناه يقول مستشهدا بأمين الجندي: إن القريحة لا تنصرف إلى شيئين، أي أن الأديب لا يستطيع أن يميل إلى صناعة القلم وإلى النظافة في وقت واحد.

أديب أفندي يتكلم كثيرا، ويتكلم دائما، فهو منصرف عن كل شيء إلى الكلام، وقد علمنا أنه صرف عامين في إحدى مدارس بيروت ودرس علم البديع على أحد الأساتذة المشهورين، ونظم الشعر وأنشأ الرسائل والمقالات لكنه لم ينشر منها شيئا لأسباب كثيرة أهمها انحطاط الصحافة العربية وغباوة القراء !

وقد انصرف أديب أفندي في الآونة الأخيرة إلى خفايا الفلسفة القديمة والحديثة، فهو معجب بسقراط ونيتشة في وقت واحد! ويميل إلى أقوال القديس أغسطينس ميله إلى كتابات فولتر وجان جاك روسو، وقد لقيناه مرة في عرس والناس حوله ينشدون الأهازيج ويشربون الخمر وهو يتكلم ببلاغته المشهورة عن مأساة هملت لشكسبير! ورأيناه مرة أخرى سائرا في جنازة وجيه والمشيعون يمشون إلى جانبه برؤوس منخفضة وملامح مكتئبة وهو يتكلم بفصاحته المعهودة عن خمريات أبي نواس وغزليات ابن الفارض!

لماذا يا ترى يعيش أديب أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟

ذاك سر من أسرار السرجين المفضض أعلنه لنا بعلزبول ونحن بدورنا نعلنه لكم:
منذ ثلاث سنوات نظم أديب أفندي قصيدة في مدح سيادة المطران يوحنا شمعون وأنشدها أمامه في دار حبيب بك سلوان، ولما فرغ من تنغيمها دعاه سيادة المطران ووضع يده على كفه وقال له مبتسما: عافاك الله يا ابني، فما أبلغك شاعرا وما أذكاك أديبا! فأنا أفتخر بأمثالك ولا أشك بأنك ستكون من رجال الشرق الكبار.

ومن تلك الساعة إلى الآن ووالد أديب أفندي وعمه وخاله ينظرون إليه معجبين ويتحدثون عنه مفاخرين قائلين:

- أولم يقل المطران يوحنا شمعون أنه سيكون من رجال الشرق العظام؟

.
.
وحوار:

- "لماذا يا ترى يعيش أديب أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟.."…أي علاقة - تلك التي يشير إليها جبران - بين الأديب الذي أسماه أديب أفندي وبين المكارين الأقوياء ممن لا تجاوز ثقافتهم الميناء والسوق وعالم الحمير..؟..
- أسألك سؤال وما تزعل؟
- اسألي..أسمعك وأمري لله.
- "لماذا يا ترى يعيش (اليحيائي) أفندي، وما الغرض من صرفه الأيام والليالي بين الكتب القديمة والأوراق البالية؟ ولماذا لا يقتني حمارا ويصير في عداد المكارين الأقوياء النافعين؟.."…بس أنت مش تقتني حمارا..سوق الحمير أقل من مواهبك..يعني ليه ما تريح نفسك من وجع الراس ومتابعة الكتب والجرايد ومنتديات الحوار وتنصرف إلى عملك الذي صرفت عليه سنوات الجامعة والذي يصرف عليك هو الآن؟!!
- أبدا…هواية..وتسلية..بعدين المقارنة هنا غير صحيحة لأنه لم يتنبأ لي أحد بأني سأكون من رجال الشرق العظام.
- أنا أتنبأ لك…
- بس أنتِ مش سيادة المطران يوحنا شمعون!!
- بس أنا أهم لك منه..أنا أحبك..
- أن تحبيني يا ست يجعل الأمر أسوء..لأنك تحولين الأمر برمته إلى فقه الإمنيات،..خرجنا عن إطار القصة..لكن ما رأيك بها؟!
- يعني..تناسب الفترة التي عاش بها جبران..وتناسب أفكاره، لاحظ كلامه عن البديع، يذكرنا فورا بمقاله الشهير: لكم لغتكم ولي لغتي..والغريب أن جبران لم يسع أبدا للخروج عن قواعد اللغة التي حاربها وإن سعى إلى أخراجها من القوالب الجامدة كما فعل ابناء جيله سواء في المهجر أو في لبنان ومصر يوم ذاك.
- عفوا أنا أسألك عن هذه القصة القصيرة ..وليس عن جبران..
- وأنا أحدثك عن النفسية التي خرجت منها هذه القصة.
- لكن ..ما معنى قولك: أن الكتابة هنا تناسب عصر جبران.
- أبدا..جبران توفي في ابريل عام 1931 قبل ظهور التيارات الحديثة في الكتابة..التيارات الداعية إلى الاختزال الكتابي، أو تلك التي تشدد على الاستبطان الذاتي على طريقة بروست مثلا..كما يجب أن لا تنسى أن جبران لم يكن كاتب قصة في المقام الأول.
- وإلى ماذا تردين شهرته في العالم العربي؟!!
- ليس في العالم العربي فقط..جبران شخصية عالمية (خصوصا) في أمريكا..يندر أن تخلو من اسمه دائرة معارف تزعم العالمية..وشهرته بكتبه الإنجليزية (النبي، المجنون، السابق، يسوع ابن الإنسان…الخ) أشهر بكثير من كتبه العربية، والغريب أن جبران كان أكثر حرصا على بلاغته الإنجليزية منه على فصاحته العربية، كانت ماري هاسكل تصحح له كتاباته الإنجليزية كما تعلم، ولم يكن يبالي كثيرا بالنقد العربي لكتاباته، وإن أحرجه كثيرا نقد العقاد لقصيدته الشهيرة المواكب.
- وأين تضعين قصته هذه عموما.
- أضعها في قالب الجودة في زمنه وأساليب ذلك الزمن في القص..لكن لا يمكن مقارنتها بامتيازات ديستوفسكي وهاردي وأو هنري وإدجار ألن بو وأمثالهم من القصاص الذين عاصرهم جبران أو كانوا قريبين من زمنه وبيئته الأمريكية، وأعتقد أنه لو أحضرها لنا أحدهم هنا دون أن يشير إلى أنها لجبران لأنتقصها الكثيرون ولعلك ستكون أحد هؤلاء الذين ترهبهم الأسماء الكبيرة فيقبلون لأجلها الأقل جودة متناسين الرائع المتاح لأن الكاتب ليس جبران خليل جبران.
- ربما.
- بل أكيد…على فكره هل مازلت عند رأيك القديم بشأن جبران.
- وهو؟!!
- ابدا ذاك المقال القديم الذي كتبته وأشرت فيه إلى ضعف جبران الجنسي بدلالة كتاباته.
- نعم لم يتغير شيء.
- أنت تظلمه.
- وأنت تحبينه.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس