مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 14-12-2005, 10:59   #2
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : محمود درويش - حوار الشعر والنثر والانسان

.
.
محمود درويش: لا أستطيع ان أتكلم عن فلسطين الآن الا بكثير من الاحباط نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر... وتفجير مطعم أو صالة سينما لا يفيد القضية.


عبده وازن
جريدة الحياة
13-14/12/2005


ينتقل الشاعر محمود درويش في الحلقة الرابعة من هذا الحوار الى الكلام عن نشأته في الداخل الفلسطيني وعن مقولة «عرب 1948» وعن مواطنيته الفلسطينية الراهنة، متناولاً ظاهرة ياسر عرفات وعضويته في منظمة التحرير واتفاق أوسلو.

ماذا تعني لك مقولة «عرب 1948» ولماذا يُسمى الفلسطينيون بـ «عرب 48»؟ وأنت كنت منهم؟

- أنا منهم أجل. انني ولدت في قرية تدعى البروة ثم انتقلنا كعائلة الى لبنان خلال حرب 1948. شُرّدنا وهُجّرنا. اضطررنا على الهروب مع أهل القرية الى شمال فلسطين ثم الى لبنان وأول قرية لبنانية أتذكرها هي رميش ثم سكنا في جزين في البداية، الى أن هبط الثلج في الشتاء. وفي جزين شاهدت للمرة الأولى في حياتي شلالاً عظيماً. وقبل سنتين زرت جزين ولم أجد الشلال. ثم انتقلنا الى الناعمة قرب الدامور. وأتذكر الدامور في تلك الفترة جيداً: البحر وحقول الموز... كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد. كنا نتصرّف وكأننا سياح... فنحن خرجنا من القرى كي يتمكّن جيش الانقاذ العربي من مواصلة الحرب وتحرير الأراضي. وكنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود الى قرانا. لكن جدي وأبي عرفا ان المسألة انتهت فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية الى شمال الجليل. وقد بقينا لدى أصدقاء الى ان اكتشفنا ان قريتنا البروة لم تعد موجودة. فالعودة الى مكان الولادة لم يتحقق. عشنا لاجئين في قرية أخرى اسمها دير الأسد في الشمال. كنا نسمى لاجئين ووجدنا صعوبة بالغة في الحصول على بطاقات إقامة، لأننا دخلنا في طريقة غير شرعية، فعندما أجري تسجيل السكان كنا غائبين. وكانت صفتنا في القانون الاسرائيلي: «الحاضرون – الغائبون»، أي اننا حاضرون جسدياً ولكن بلا أوراق. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين.


> ولكن أين كانت نشأتك؟

- أنا نشأت في حيفا بعدما انتقلت العائلة الى قرية أخرى اسمها الجديدة بنى أبي فيها بيتاً. وفي حيفا عشت عشر سنين وأنهيت فيها دراستي الثانوية ثم عملت محرراً في جريدة «الاتحاد» وكنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية. ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة. كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا. ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي. وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت على الخروج.


> الى أين خرجت حينذاك؟

- الى موسكو.


> سنعود الى الكلام عن مدن محمود درويش. ولكن أسألك مرة أخرى: لماذا كنتم تسمّون عرباً وليس فلسطينيين؟ ولماذا ما زالت هذه التسمية قائمة حتى الآن؟

- الاسرائيليون سمّونا عرباً والعرب سمّونا فلسطينيين. لماذا عرب؟ للتمييز بيننا وبين اليهود ولمحو هديتنا الحقيقية. فهذه الدولة الاسرائيلية الجديدة تضمّ عرباً. والفلسطينيون للأسف لهم أسماء عدة: عرب 1948، فلسطينيو 1948، فلسطينيو 1967، فلسطينيو 1993 أو فلسطينيو أوسلو... أي ان عندنا أرقاماً وأننا «محقّبون» جيداً.


> هل ما زلت على تواصل مع ثقافة الداخل؟

- بمقدار ما يتاح لي من اتصال بالانتاج الثقافي والابداعي.

> لماذا نحسّ أن ثقافة الداخل يشوبها بعض «الفوات» عربياً وبعض الاغتراب؟

- هذه قضية تحتاج الى قراءة خاصة.


> ما رأيك بالأدب العربي المكتوب باللغة العبرية، خصوصاً أن ثمة أسماء ولو قليلة لمعت في هذه اللغة؟

- لم أقرأ من هذا الأدب إلا رواية مهمة هي «أرابيسك» للكاتب انطون شماس. الآن هناك ما يشبه «الموضة» وهناك أيضاً روائيون وشعراء شباب وجدد اختاروا العبرية للكتابة. ربما تسعى هذه البادرة الى الاندماج الثقافي في المجتمع الاسرائيلي. هذا لدى بعضهم. ولدى البعض الآخر قد يكون هذا الخيار نوعاً من المقاومة ضد الاسرائيليين في لغتهم نفسها. هكذا يقول هؤلاء. وقد يحسن البعض، بسبب تكوينهم ونشأتهم عبرياً، التعبير باللغة العبرية أفضل من العربية. هناك تفسيرات عدة. ولكن هذا خيار لدى أقلية محدودة.


> هناك أصوات شعرية وروائية اسرائيلية مهمة كما يظهر لنا من خلال الترجمات الأجنبية والعربية، وكيف ترى الى هذا الأدب؟ هل يجب علينا أن نقرأه كأدب عدوّ من خلال موقف سلبي مسبق؟

- بصراحة لم أعد أطلع في السنوات الأخيرة على الأدب العبري مثلما كنت أطلع عليها في السابق، عندما كنت أعيش هناك. انقطعت صلتي بهذا الأدب. ولكن هناك اسماء مكرّسة في أوروبا وأميركا، وهي تترجم في الوقت الذي تكتب فيه. ففي وزارة الخارجية الاسرائيلية مكتب لترجمة الأدب العبري الى اللغات الأجنبية. والدولة الاسرائيلية تشرف بنفسها على تسويق الأدب العبري عالمياً. وهذا يدل على الصلة بين المؤسسة والأدب. أمّا ان نقرأه أو لا نقرأه فهذا أمر آخر. وأود أن أشير الى أن سيدة اسرائيلية أسست داراً لنشر الأدب العربي مترجماً الى العبرية وترجمت حنان الشيخ وإلياس خوري ومحمد شكري وقصائد لي وآخرين. بعض الكتاب العرب رفضوا ان يُترجموا الى العبرية، بينما الاسرائيليون لا يحتاجون الى إذن خطي لكي يترجموا. فأنا تُرجم الكثير من شعري الى العبرية من دون ان أُستأذن. وفي المحصلة تبيّن أن الكتاب العرب لا يريدون أن يقرأهم الاسرائيليون وأن الاسرائيليين غير معنيين بقراءة الأدب العربي. فالفجوة في العلاقة بين الطرفين ما زالت قائمة وما زال كل طرف يقرأ الآخر من باب: اعرف عدوك. لم نصل بعد الى قراءة بعضنا بعضاً قراءة أدبية صرفاً أو للمتعة الأدبية، والشروط التاريخية لا تسمح لنا بذلك. انهم لا يجدون متعة في قراءتنا ولا نجد نحن بدورنا متعة في قراءتهم. وهذا الأمر يندرج في سياق الصراع المستمر بيننا وبينهم.


> ولكن لك قرار اسرائيليون كثيرون!

- لا أعرف إن كانوا كثيرين. لكنني أُقرأ من باب الاطلاع على المفهوم السوسيولوجي الفلسطيني وعلى سيكولوجية الشعب الفلسطيني. وأكاد أقول انني أُقرأ أيضاً قراءة أمنية من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك اليساريون الذين يقرأونني كنوع من التعبير عن التعاطف مع حقوق الفلسطينيين. اما ان أقرأ قراءة أدبية محضة فلا أعرف، بل قد أشك في ذلك.


شارون والوجدان الفلسطيني


> هناك بعض المسؤولين يقرأون شعرك!

- مثل من؟


> شارون! وذلك الوزير الذي سبب مشكلة كبيرة انطلاقاً من قصيدتك «عابرون في كلام عابر».

- الضجة الكبرى أثارها الوزير الاسرائيلي سريد وهو من حزب «ميريتس»، عندما أدرج بعض قصائدي في المدارس. لم تكن القراءة الزامية بل اختيارية وكما ان من حق الطالب ان يطلع على الشعر البولندي والهولندي والفرنسي يحق له أن يطلع على الشعر الفلسطيني أو العربي. والأمر يتوقف على رغبة المعلم والطالب معاً. والمسألة من أولها الى آخرها لم تكن تستحق تلك الضجة، وكادت الحكومة الاسرائيلية ان تسقط والفرق كان في ثلاثة أصوات. حينذاك سألتني احدى الصحف الاسرائيلية فقلت لها: كنت أعتقد انكم دولة تحترمون أنفسكم الى حد انكم تسقطون الحكومة لأسباب داخلية سياسية ولكن ليس لأسباب شعرية، كنت أعتبر انكم أقوى من ذلك. الوزيرة الجديدة وهي من حزب «ليكود» ألغت للتو قصائدي من البرنامج. أما ما قاله شارون عن شعري فقاله بعدما خرج كلامه عن سياقه. سئل شارون في مقابلة صحافية عما يقرأ، فقال انه يقرأ رواية لكاتب اسرائيلي. فقال له الصحافي ان هذا الكاتب يساري ويكرهك، فقال له شارون: إنني أميز بين الابداع والسياسة، صحيح انني ضد أفكاره وهو ضد أفكاري، لكنني مستمتع بروايته. وأضاف: أنا أقرأ حتى محمود درويش وأنا معجب بديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» لأن هذا الاعجاب قادني الى الاعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه. في هذا السياق جاء كلام شارون.



> هل تجوز المقارنة برأيك بين الشعر الاسرائيلي الحديث والشعر الفلسطيني الحديث مثلما فعل أحد الباحثين الفلسطينيين في «الداخل»؟

- من حيث المبدأ، أكاديمياً أو ثقافياً، قد يكون من الممكن المقارنة بين شعرين مكتوبين بلغتين مختلفتين، ومن وجهتي نظر متضادتين، على أرض واحدة. وقد تغري المقارنة هنا بالدراسة. ولكن لا أعرف أي منهج يمكن أن يعتمد وأي موضوع يمكن تناوله: الصراع على الهوية، الصراع على الذاكرة...؟ يمكن اجراء مقارنة بين علاقتين مختلفتين مع الأرض. وثمة بين الشعر الفلسطيني والشعر الاسرائيلي حال من الصراع، صراع في اللغة حول من يمتلك المكان واللغة وحول مَن يسيطر على موضوع المكان أفضل من الآخر. الصراع قائم.


> عندما تقرأ شاعراً اسرائيلياً يتغنى بأرض فلسطين، ماذا يكون شعورك؟

- يأخذني شعوري الى أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط واننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق. مثلاً هناك شاعر اسرائيلي كبير أحب شعره هو يهودا عميحاي، لم يدع مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض اسرائيل، إلا وكتب فيه قصائد وبعضها جميل جداً وتحرج الشاعر الفلسطيني حقاً. تحرجه في أي معنى؟ الشاعر الفلسطيني لم يشعر يوماً بأنه محتاج الى تقديم براهين على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائية وعفوية ولا تحتاج الى أي ايديولوجيا أو تبرير. الشاعر الاسرائيلي الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل اسرائيل، والذي يعرف أيضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، يبدو هذا الشاعر في حاجة الى شحذ كل طاقته الابداعية من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني. وبالتالي فهذه المسألة مخيفة فعلاً: من يكتب المكان في شكل أجمل يستحق المكان أكثر من الآخر؟ قد يكون هناك شعب لا شعراء له، فهل يكون من حق الآخر ان يحتله؟ الجدارة الأدبية لا تعطي حقاً للسلاح في أن يملك شرعيته. هناك مسائل صعبة. كأن تقول ان صاحب الحق الأكبر هو صاحب التعبير الأجمل. طبعاً يحاولون في اسرائيل دائماً تجريد الشعب الفلسطيني من قدراته الابداعية لكي يقولوا انهم جاؤوا الى أرض شعبها غير متحضر وغير متمدن، وانهم يحملون رسالة تحضير وتحديث أي رسالة كولونيالية. كيف يكون ردّي على شارون مثلاً: عوض أن يحسد الفلسطينيين على العلاقة بأرضهم يستطيع أن يشفي نفسه من هذا الحسد بأن ينسحب من أرضهم. ولكن من جهة أخرى، ان الشعر الفلسطيني بحسب مقولة شارون، استطاع أن يخترق الحصار السياسي والتاريخي.


> كيف تصف نفسك الآن، كمواطن فلسطيني؟

- أنا الآن في فلسطين، مواطن فلسطيني، محاصر بكل شروط الاحتلال والحصار والعزلة التي تفرضها اسرائيل. وأدافع عن حقنا في امتلاك مستقبل أفضل على أرض أوسع، مع الاحتفاظ بحريتنا في أن نحلم بشيء يبدو مستحيلاً مثل العدل والسلام والتحرر. لا استطيع ان أتكلم عن فلسطين في هذه اللحظة إلا بكثير من الاحباط. ففلسطين تتناقص جغرافياً، مع انها لا تزال في مكانها، لكن الواقع الاسرائيلي يقضمها كل يوم، ويحيط ما يريده أن يكون لنا وطناً نهائياً، بالاسوار والجدران. فلسطين تتناقص أيضاً في مدى مشاركة العالم في الدفاع عن حقها بالضغط على دولة ينظر اليها العالم بأنها فوق القانون، ويعاملها كقيمة أخلاقية غير قابلة للمحاسبة. والعالم العربي المحيط بفلسطين يتعرّض أيضاً للمزيد من الاحتلال أي انه «يُفلسطن» في شكل أو في آخر. صورة المستقبل القريب غير مشعّة إذا نظرنا اليها من منظور الحاضر. وللأسف المستقبل القريب أكثر وضوحاً مما ينبغي، لأن معالم الحل الاسرائيلي محددة ومعروفة: ان نعيش في كانتونات تثبت ان الأبارتايد أو التمييز العنصري ينتهي في بلد ويبدأ في بلد آخر. والبعد العربي للقضية الفلسطينية معرّض أيضاً للاحتلال والتهديد. فكل ما حولنا وما فينا يشير الى الحزن والغضب معاً. والاسرائيليون يعطون للنكبة عمراً جديداً، انهم يريدون للنكبة ان تستمر وان تتناسل. وكأن حرب 1948 ما زالت، كما يقول الاسرائيليون، مستمرة. واستمرارها يعني انهم يشعرون بأنهم لم ينتصروا تماماً، أي انهم في حاجة الى انتصار جديد. لكنّ هذا لا يعني أن الفلسطينيين تخلّوا عن حقهم، بل على العكس. لكن تجربة الشعب الفلسطيني في علاقته بأرضه تعني انه شعب غير قابل للخروج من التاريخ ولا من الجغرافيا كما يحاول الاسرائيليون أن يفعلوا. ضاقت الخيارات على الشعب الفلسطيني ولم يبق أمامه سوى خيارين، إما الحياة وإما الحياة. ومن حقه ان يدافع عن نفسه وأول سلاح هو أن حافظ على ذاته وحقه وهويته، وثانياً أن يلجأ الى الوسائل التي تحفظ صورته الانسانية والوطنية ولا تمدّ المحتل بما يريد لها من تشويش واضمحلال. مقاومة الاحتلال ليست حقاً فلسطينياً فقط بل هي واجب، والمقاومة تتخذ أشكالاً متعددة منها الصمود وعدم القبول بالمقترحات الاسرائيلية التي تعني الغاء الذات الفلسطينية، والبحث عن وسائل نضالية تخدم المصلحة الوطنية العليا.


> هل من علاقة لك بالسلطة الفلسطينية؟

- رسمياً أنا لا علاقة لي بأي سلطة، ولكن على المستوى الشخصي علاقتي ممتازة مع رئيس السلطة ورئيس الحكومة ومعظم الوزراء. ومهما كان هناك من مشكلات داخلية فما يجمع الفلسطينيين الآن هو السؤال الوطني، أكثر من أي سؤال داخلي. لكن ذلك لا يعني أن نغضّ النظر عن المشكلات الداخلية. والقضية الأساسية هي كيف نحل المشكلة الوطنية وهي مشكلة الاحتلال. لا أمارس دوراً كبيراً سياسياً بل أمارس دوراً ثقافياً. وينتابني شعور بالغربة، إلا ان واجبي الوطني يناديني كي أكون هناك. وهذا أضعف الإيمان. أنا إذاً هنا وهناك وأشعر بحزن وإحباط.


> عندما تكون في رام الله هل تشعر بأنك فعلاً في وطنك فلسطين أم ان وطنك استحال بقعة ما في ذاتك وشعرك وذاكرتك؟

- شعوري خجول جداً، ولغتي خجولة. لا أشعر كثيراً بأنني في الوطن. أشعر بأنني في سجن كبير مقام على أرض الوطن وكأنني لم أتحرر من منفاي. فمن كان يحمل الوطن في المنفى ما زال يحمل المنفى في الوطن. والحدود ملتبسة جداً، بين مفهومي الوطن والمنفى. الحرية شرسة جداً وجميلة جداً ويجب أن نبقى أسرى لها. وفي هذا الأسر، أسر الحرية نستطيع ان نتحرر. المجازات كثيرة هناك والاستعارات كثيرة والحدود بين الاشياء مختلطة. لا تعرف أحياناً حدود المعنى، وأحياناً تبحث عن المعنى ولا تجده. ولكن أهم أمر هو ألا نسقط الوطن من يدنا ولا من مخيلتنا. تعرضنا كثيراً لمحاولة الوقيعة بيننا وبين هذه البلاد. فالاسرائيليون يقيمون الجدران ليس بيننا وبينهم فحسب ولكن بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين ذواتنا، وهم محتاجون الى إقامة أسوار أخرى بين التاريخ والخرافة، بين الاسطورة والواقع، وهذا ما لا يفعلونه. إنهم متمترسون وراء أسطورة مسلحة برؤوس نووية. لم نسمع في التاريخ عن أساطير تتسلّح بهذا السلاح الفتاك.


> كيف ترى الى العمليات الاستشهادية أو الانتحارية التي تقوم بها بعض المجموعات الفلسطينية الأصولية؟

- هذا سؤال يتأرجح بين الاحساس بالمسؤولية والبعد الاخلاقي. من حق الفلسطينيين أن يقاوموا الاحتلال بوسائل تخدم قضيتهم. ولكن يجب أن يكون الفلسطينيون حريصين على التفوّق الأخلاقي للضحية، وأن يميزوا بين صورتهم وحقهم في العدالة وصورة المحتل. تحفظي الشديد هو على العمليات التي تمسّ المدنيين مما قد يقلّص الفارق بين الصورتين، فنصبح نحن والاسرائيليين كأننا جيشان في حرب. الاستشهادي يقدم حياته. ولا نستطيع أن نحاكم استشهادياً يهاجم موقعاً عسكرياً، ولكن نستطيع أن نقول له ان مهاجمة مطعم أو دار سينما لا تخدم قضيته ولا صورته.


> كيف تستعيد صورة الرئيس ياسر عرفات بعد مضي سنة على رحيله؟

- أريد أن أرى ياسر عرفات وقد رفض الغياب. أريد أن أراه رمزاً، ونحن محتاجون الى الرموز، رمزاً لتاريخ شعب وتحولات هذا الشعب من الغياب الكامل الى لاجئين فإلى مقاتلين فإلى مؤسسي مشروع وطني ثقافي، ثم الى حضور كثيف في خريطة العالم. ياسر عرفات من الذين استطاعوا أن يعيدوا اسم فلسطين الى الوعي العالمي. قدّم كل حياته للقضية ولم يعش لنفسه أبداً. أريد أن أرى هذه الصورة باقية. نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر. وأنا من الذين يقولون اننا لا نحتاج الى عرفات آخر. لا نحتاج الى رمزية عالية، نحتاج الى مدراء جيدين. كان عرفات يتمتع بمزايا لا يمكن أن تُورث وأن تُورّث. ومن الصعب أن نستنسخ شخصية مثله، وهذه الشخصية أنهت دورها ولم تعد قابلة للاستعادة. لكن تاريخه هو القابل للاستعادة، وكذلك تضحياته. انه سجل مضيء في ذاكرة الفلسطينيين. لكننا لسنا في حاجة الى عرفات جديد.


> يقول إدوارد سعيد انك لعبت دوراً سياسياً في منظمة التحرير مضيفاً عبارة «على مضض». ماذا تعني لك هذه العبارة، مع انك كنت شديد القرب من عرفات، مستشاراً وعضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة؟

- «على مضض» تعني انني لم أرغب، بيني وبين نفسي، في أن أكون عضواً في القيادة الفلسطينية. كنت أفضل أن أبقى في مجالي الحيوي فلا أحتل موقعاً يتعارض مع نزعات الشاعر الخاصة. كوني عضواً في اللجنة التنفيذية تسبّب في تأويلات مبالغ فيها لما أقول أو أكتب، وكأن هناك شعراً رسمياً أو مقالات رسمية. وهذا بعيد كثيراً من طبيعتي ومن حقيقة كتابتي الشعرية. ثم انني لا أصلح للعمل الرسمي والاداري والاجتماعات الطويلة والسهر الطويل والزيارات الرسمية والسفر المضني. لقد انتخبت وأنا غائب، سمعت الخبر في الراديو وكنت في النورماندي في فرنسا فبكيت. وأول مقال كتبته حينذاك عنوانه «قبل كتابة الاستقالة». لكن خضوعي لضغوط معنوية وأخلاقية عالية جعلني امتثل لهذه العضوية لفترة محددة، نحو خمس سنوات. وأقول مازحاً ان من حسنات أوسلو انها أتاحت لي الفرصة للاستقالة من اللجنة التنفيذية.


> ماذا عنى لك خروجك من المنظمة عام 1993؟

- شعرت بسهولة التنفس مثل شخص أطلق سراحه.


> سياسياً؟

- لا شخصياً. شخصياً شعرت انني بت أستطيع أن أنصرف الى همومي الخاصة، الى حياتي، الى شعري والى عشوائيتي أو فوضاي. صحيح أن في الانسان أكثر من شخصية، وأن فيّ السياسيّ والشاعر والكاتب، لكن طبيعة التعبير عن كل شخصية تختلف. طبيعة السياسي تختلف عن طبيعة الشاعر، ثم إن لهما لغتين مختلفتين، من دون أن يعني ذلك أن الشاعر متخلٍّ عن السياسة. فالسياسة فينا والسياسة تعني في وضعنا الفلسطيني أن نكون منتمين الى قضية وطنية. لا يستطيع الشاعر أن يتخلى عن السياسة التي فيه. لكن طبيعة التعبير عن العلاقة هي التي تختلف. أما على المستوى السياسي فكنت حائراً. قرأت نص اتفاق أوسلو قبل أن يذاع وعندما علمت بأنه وقّع بالحروف الأولية قدمت استقالتي وخضعت استقالتي لتأويلات كثيرة ومجحفة وظالمة، وبعضها غير أخلاقي. وكنت من الخلقية حتى انني لم أقل لماذا، كل ما قلته:إننا مقبلون على مغامرة لا أريد أن أكون جزءاً منها، وكانت هناك، للأسف، تفسيرات مزرية. مع ذلك، عندما قبلت المؤسسة الفلسطينية هذه الصيغة وأصبحت هي التي تمثل السياسة الرسمية الفلسطينية، قلت انني لا أستطيع أن أرفضها في المطلق، مرتاح الضمير، ولا أن أقبلها أيضاً، مرتاح الضمير. لذلك كان وضعي هو وضع المتحفظ والممتنع، وليس وضع الذي سيعارض. كان في قلبي نداء ما يقول انه قد ينتج عن ذلك شيء، خصوصاً ان هذا المشروع جاء بعد محاصرة سياسية خانقة لمنظمة التحرير في أعقاب حرب الخليج وانعدام الخيارات أمامها. كنت حائراً بين قلبي وعقلي، العقل كان يقول لي إن هذا الاتفاق لن يؤدي الى حل ولن يؤدي الى سلام حقيقي ولا الى دولة. فنص الاتفاق غامض والمرحلة الانتقالية معدومة الربط نهائياً، وليس لدى اسرائيل أي التزام بالانسحاب، وليس هناك من تسمية للأرض المحتلة بأنها محتلة. ولكن كنت أتمنى أن يكون فهمي مخطئاً، كنت أتمنى أن يكون الذين قبلوا على خطأ، ففي خطأي مصلحة للجميع. ولكن للأسف الشديد، كانت النتائج أسوا مما تصورت. لقد انتقلنا من منفى الى سجن كبير. وعرفات قضى سنوات في زنزانة، في غرفة. أين آفاق أوسلو؟ ما هي هذه الآفاق؟ ومع ذلك رضي القتيل ولم يرضَ القاتل.


> هل كان من حل آخر في رأيك؟

- هذا ما يحير فعلاً. كان من الممكن الوصول الى اتفاق آخر. لو عرف عرفات والمنظمة مدى حاجة اسرائيل الى اتفاق ما مع اسرائيل لكي يفتحوا بوابتهم أمام العالم العربي، لكانت مكافأتنا كحراس للبوابة أفضل وأكبر. ليتنا صبرنا أكثر، لو طلبنا مثلاً فك الاستيطان من غزة كنا سنحصل عليه. لكن الاستعجال كان يحجب القراءة الدقيقة للنصوص.


> ما أجمل خطاب كتبته لعرفات؟

- عرفات يقول ان أجمل نص كتبته له هو نص إعلان الدولة. وأعتقد شخصياً انه أجمل نص كتبته في هذا القبيل. والمفارقة انني كتبته بعد أوسلو. كنت حينذاك في باريس وجاء عرفات وطلب مني أن أكتب النص وكان موضوعه فكرياً، حول مشكلات العالم... وفي الاجتماع كان رؤساء العالم موجودين، وأستشهد أكثر من رئيس بالنص الذي قرأه عرفات، فقال لي «أرأيت كم ان خطابك جيد»، فقلت له: هذا أصبح خطابك أنت.


> كتبت النص على رغم اعتراضك على اتفاق أوسلو!

- اختلافي مع عرفات حول موضوع أوسلو لم يمسّ العلاقة الشخصية التي جمعتني به. والدليل انني ذهبت أو عدت الى الوطن في شروط أوسلو.


> والخطاب الشهير في السبعينات: «لا تسقطوا غصن الزيتون»؟

- لا لم أكتبه وحدي. كنا مجموعة وكتبناه معاً. لكن الصحافة ركّزت عليّ وكأنني أنا الذي كتبته.


حياة خاصة


> قلت لي انك لم تخرج من البيت منذ ثلاثة!

- وأحياناً أبقى أكثر.


> ماذا يعني لك البيت؟ ألا تشعر أحياناً بسأم ما، بوحدة ما...؟

- البيت يعني لي الجلوس مع النفس ومع الكتب ومع الموسيقى ومع الورق الأبيض. البيت هو أشبه بغرفة إصغاء الى الداخل ومحاولة لتوظيف الوقت في شكل أفضل. ففي الستين يشعر المرء بأنه لم يبق لديه وقت طويل. وشخصياً اعترف بأنني أهدرت وقتاً طويلاً في ما لا يجدي، في السفر، في العلاقات وغير ذلك. انني حريص الآن على ان أوظف وقتي لمصلحة ما اعتقد بأنه افضل وهو الكتابة والقراءة. يشكو كثير من الناس من العزلة، أما أنا فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني انه انقطاع عن الحياة والواقع والناس... انني انظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن انغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة.

> لم تعد حياتك صاخبة سياسياً مثلما كانت من قبل؟

- الصخب لا أستطيع ان أتحرر منه. مصيرنا الوطني والإنساني يعذب النفس ويعذب الفكر. ونحن الآن في لحظة تاريخية يسود فيها، لا أريد ان أقول، قانون الغاب، ولكن استبداد كوني لا يصيبنا وحدنا، لكننا نشعر به اكثر من سوانا، لأننا نحن الأضعف الآن في العالم. ولدينا أزمة حضور وأزمة علاقة بتاريخنا ومستقبلنا. والأخطر هو أزمة العلاقة بالمستقبل. من هنا، فهذا الصخب قوي جداً ولكن يجب ألا نرد عليه بصخب كتابي. فأنت لا تستطيع ان تصارع الصخب بصخب لغوي، فالصخب المادي أقوى من الصوت الذاتي. عليك ان تقاوم هذا الصخب بنقيضه، بل بلغة أهدأ وبالتأمل وبارتباط أعلى بالحياة، وبتمجيد جماليات الحياة وبالبحث عن الطاقة الكامنة في النفس البشرية... هكذا تستطيع ان تسمع صوتك. فالصخب الخارجي العالي يستطيع ان يبتلع صوتك. انني أقاوم الصخب بالسكينة.
.
.


> قلت مرة ان «البيت اجمل من الطريق الى البيت»؟ هل يذكرك هذا القول بكلام الشاعر الألماني هولدرلن عن «العودة الى البيت»؟

- كثيرون من الشعراء منذ هوميروس كتبوا عن ثنائية الطريق والبيت. كنت دائماً أميل الى تمجيد الطريق، والطريق بؤرة أساسية في الرؤيا الشعرية والصوفية. هذه الثنائية تتناوبها أوليات مختلفة. عندما كنت خارج الوطن، كنت اعتقد ان الطريق سيؤدي الى البيت وان البيت اجمل من الطريق الى البيت. ولكن عندما عدت الى ما يُسمى البيت وهو ليس بيتاً حقيقياً غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق الى البيت اجمل من البيت لأن الحلم ما زال اكثر جمالاً وصفاء من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت الى القول بأولية الطريق على البيت.


> إنها حالة عوليس إذاً؟

أجل، حالة عوليس الذي لم يجد نفسه ولا ما كان يتوقع، ولم يجد كذلك بينيلوب. وبحسب الحالة الراهنة عدت شعرياً الى التأمل أكثر في الدرب والسبب بسيط لأنني لم أجد البيت.


> متى توطدت علاقتك القوية بالبيت؟ في أي مرحلة من حياتك؟

- علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل الى صبابة والى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها. المنفى هو الذي عمّق مفهوم البيت والوطن، كون المنفى نقيضاً لهما. أما الآن فلا أستطيع أن أعرّف المنفى بنقيضه ولا الوطن بنقيضه، الآن اختلف الأمر وأصبح الوطن والمنفى أمرين ملتبسين.


> أي بيت أحببت خلال منفاك؟ وهل من علاقة بين البيت والمدينة التي تكون فيها؟

- لا شك في هذه العلاقة. فالبيت لا ينفصل عن محيطه. بيت في حيفا يختلف عن بيت في باريس أو القاهرة أو بيروت. نوافذ البيت مفتوحة على أصوات الخارج. أما البيت المجازي الذي يخلقه الشاعر لنفسه فإنما هو بيت داخلي يخترعه الشاعر نفسه. إنه عبارة عن بيت شعري. هكذا يتحول البيت الى بيت شعر وبيت الشعر يصبح مسكناً أو مأوى. لذلك أحب كثيراً عثور العرب على كلمة واحدة ذات معنيين البيت أي المنزل والبيت الشعري، وهذا تطابق جميل.


> أول بيت سكنته بعد خروجك من فلسطين أين كان؟

- أول رحلة لي خارج فلسطين كانت الى موسكو. وكنت طالباً في معهد العلوم الاجتماعية، ولكن لم يكن لي هناك بيت في المعنى الحقيقي. كان غرفة في مبنى جامعي.


> كم أقمت في موسكو؟

- سنة. وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. حاولت السفر قبلاً الى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي الى أرضها. كان هذا في العام 1968. كان لدي وثيقة اسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها. الأمن الفرنسي لم يكن مطلوباً منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية. كيف أحمل وثيقة اسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار انني فلسطيني. أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني الى الوطن المحتل.


> هل أحببت موسكو؟

- كانت أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. طبعاً اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها... تصور ما يكون رد فعل طالب فتيّ ينتقل من إقامة محاصرة الى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلاً لأتدبر أمور الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يومياً جعل فكرة «فردوس» الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبداً جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا.


> هل فقدت فكرتك المثالية عن الشيوعية في تلك اللحظة؟

- فقدت الفكرة المثالية لكنني لم أفقد ثقتي بالماركسية أو بالشيوعية. كان هناك تناقض كبير بين تصوّرنا أو ما يقوله الإعلام السوفياتي عن موسكو والواقع الذي يعيشه الناس، وهو مملوء بالحرمان والفقر والخوف. وأكثر ما هزّني لدى الناس هو الخوف. عندما كنت أتكلم معهم أشعر بأنهم يتكلمون بسرية تامة. وإضافة الى هذا الخوف كنت أشعر بأن الدولة موجودة في كل مكان بكثافة. وهذا ما حوّل مدينة موسكو من مثال الى مدينة عادية.


> الى أين سافرت بعد موسكو؟

- الى القاهرة.


> كم بقيت في القاهرة؟

- سنتين هما 1971 و1972.


> كيف كانت حياتك في القاهرة؟

- الدخول الى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية. في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي اليها. ولم يكن هذا القرار سهلاً. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. افتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة. خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، اسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون بالعربية. وأكثر من ذلك،وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها. فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين.


> هل التقيت طه حسين قبيل وفاته؟

- من سوء حظي أنني لم ألتقِ طه حسين، كان في وسعي أن ألتقي به، ولم يحصل اللقاء. وكذلك أم كلثوم لم ألتقِ بها. وحسرتي الكبرى انني لم ألتقِ هذه المطربة الكبيرة. كنت أقول انني ما دمت في القاهرة فلديّ متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات. التقيت محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ وسواهما والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم.


> هل عملت في القاهرة؟

- عيّنني محمد حسنين هيكل مشكوراً في نادي كتّاب «الأهرام»، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد. وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وادريس، الشخصيتين المتناقضتين: محفوظ شخص دقيق في مواعيده، ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة استاذ نجيب؟ كان ينظر الى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف ادريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية، وكان رجلاً مشرقاً. وفي القاهرة صادقت أيضاً الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جداً. وكذلك الابنودي. كل الشعراء والكتاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم. والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي.


> هل كانت القاهرة منطلقك الشعري الثاني بعد انطلاقتك الاولى في الأرض المحتلة؟

- نعم. ولكنني سأروي لك هذه الوقيعة: عندما كنت في القاهرة راحت الصحافة العربية وخصوصاً بعض الصحافة اللبنانية تهاجمني. وخصّت مجلة «الحوادث» غلافها مرة لي قائلة: ليته يعود الى اسرائيل. وراحوا يؤبنونني شعرياً معلنين انني انتهيت كشاعر. قبل أن أكتب، حكموا على ما سأكتب. في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ.


> ولماذا قامت هذه الحملة عليك؟

- كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذاً النظرة الى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب الى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل. ومن القصائد المهمة التي كتبتها في القاهرة هي قصيدة «سرحان سرحان يشرب القهوة في الكافيتاريا» ونشرت في صحيفة «الأهرام» وصدرت في كتاب «أحبك أو لا أحبك».


> ما هي المحطة الثانية عربياً في مسارك الشعري؟

- انها بيروت، بلا شك. فبعد القاهرة انتقلت الى بيروت مباشرة. وأمضيت فيها نحو اثنتي عشرة سنة الى حين الخروج. عشت فيها من العام 1970 الى العام 1982. حنيني الى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم الى بيروت. ولا أعرف ما هي أسبابه. وأعرف أن اللبنانيين لا يحبون مديح مدينتهم في هذا الشكل. ولكن لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً. ولسوء حظي انني بعد سنوات قليلة من سكني في بيروت، وهي كانت ورشة أفكار ومختبراً لتيارات أدبية وفكرية وسياسية، متصارعة ومتعايشة في وقت واحد، لسوء حظي أن الحرب اندلعت. واعتقد ان عملي الشعري تعثر حينذاك.


> لكنك كتبت قصائد جميلة في بيروت؟

- أعتقد أن أجمل ما كتبت ديوان «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق». ولكن بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل... كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض اصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم. وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد ان الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت. وانتقل الناس الى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة.


> هل شعرت يوماً انك طرف في الحرب اللبنانية؟

- لا، أبداً. أنا منذ البداية كنت أعبّر لأصدقائي ومعارفي عن تشاؤمي من نتائج هذه الحرب. وكنت أطرح السؤال الآتي: هل كان في وسعنا ألا نُستدرج كفلسطينيين الى هذه الحرب؟ كانت هناك أجوبة رسمية تقول أن دور الفلسطينيين في الحرب هو الدفاع عن النفس ومواجهة محاولة إقصائنا. ولكننا أخطأنا في بيروت عندما أنشأنا ما يشبه الدولة داخل الدولة.


> هل أزعجك هذا الأمر؟

- كثيراً. وكنت أخجل من اللبنانيين إزاء الحواجز التي كان يقيمها الفلسطينيون في الأرض اللبنانية ويسألون اللبناني عن هويته. طبعاً لكل هذه الأمور تفسيرات وتبريرات. ولكن كنت أشعر دوماً بالخجل. وكنت أطرح على نفسي أسئلة عدة حول هذه الأمور، حتى أمام أصدقائي المتحمسين للقضية الفلسطينية والحركة الوطنية. ومن هذه الأسئلة: ماذا يعني أن ننتصر في لبنان؟ هذا سؤال كان يلح عليّ دوماً. ولنفترض أننا انهينا الحرب وانتصرنا، فماذا يعني الانتصار هنا؟ أن نحتل لبنان ونتسلّم الحكم في لبنان؟ كنت متشائماً جداً. ولم أكتب عن الحرب اللبنانية إلا كتابة شبه نقدية.


> لكنك أسست مجلة «الكرمل» في بيروت وكأن لديك مشروعاً ثقافياً!

- هنا المفارقة.


> الوجود الفلسطيني في بيروت كان له بعد ثقافي وساهم في منح بيروت دلالة ثقافية عربية.

- تستطيع أن تقول هذا الآن، بعدما وضعت الحروب أوزارها، الحروب الفلسطينية – اللبنانية أو الحروب الأهلية... تستطيع من خلال رؤية محايدة أن تنظر الى الآثار الايجابية للتفاعل الفلسطيني مع الحياة الثقافية اللبنانية أو التفاعل اللبناني مع القضية الفلسطينية. هناك جوانب ايجابية فعلاً. هناك مركز الأبحاث الفلسطينية، مجلة «شؤون فلسطينية» ومجلة «الكرمل» وسواها... كنت أشعر بأن وجودي في بيروت سيطول ولم أكن أشعر بالحرج وكأنني مقيم في شكل شرعي. ولكن أن أكون مقيماً في شكل اجباري ومضاد لرغبة اللبنانيين عبر تعايشهم القسري معنا، فهذا كان يزعجني. وعندما خرجت القيادة الفلسطينية والمقاتلون الفلسطينيون من بيروت لم أخرج. بقيت في بيروت أشهراً عدة. لم أتوقع أن الاسرائيليين سيحتلون بيروت. ولم أجد معنى لخروجي في السفن مع المقاتلين. ولكن في صباح ذات يوم وكنت أسكن في منطقة الحمراء، خرجت لأشتري خبزاً وإذا بي أشاهد دبابة اسرائيلية ضخمة. دخلت اسرائيل قبل الإعلان عن الدخول. حينذاك وجدت نفسي وحيداً أتجوّل في الشوارع ولا أرى سوى الدبابات والجنود الاسرائيليين ورجالاً ملثمين. قضيت فعلاً أياماً صعبة جداً ولم أكن أعرف أين أنام.


> هل بقيت في الحمراء؟

- لا. قمت بحيلة. كنت أنام خارج البيت في مطعم، واتصل بجيراني لأسألهم ان كان الاسرائيليون سألوا عني. إذا قالوا: نعم جاؤوا، فكنت أدرك انهم لن يأتوا مرة أخرى، فأذهب الى بيتي، أتجمّم وأرتاح ثم أعود الى المطعم. الى أن حصلت الكارثة الكبرى وهي مجزرة صبرا وشاتيلا. عندذاك تيقنت من أن بقائي هناك ضرب من العبث والطيش.
عندما احتل الاسرائيليون بيروت عام 1982.



> وكيف خرجت؟

- رتّبت الأمر مع السفير الليبي في بيروت حينذاك، فهو كان في مقدوره أن يأخذني من منطقة الأشرفية التي كانت «الكتائب» تسيطر عليها، الى سورية. ولكن كان عليه أن يجد طريقاً ليأخذني من بيتي الى مدخل الأشرفية. اتفقنا مع ضابط لبناني أوجد لنا شارعاً كان سيمر به الرئيس الراحل شفيق الوزان، وكان هناك اتفاق بين الاسرائيليين والحكومة على ألا يتعرضوا لهذا الشارع. وفعلاً سلكنا هذا الطريق وخرجنا من بيروت. وعندما وصلنا الى طرابلس، ذهبنا الى مطعم لنأكل السمك بعدما مللنا أكل المعلبات. وبعدما دخلت الحمام لأغسل يديّ نظرت الى المرآة فرأيت أنفاً عليه نظارتان. لم أعرف صاحب هذا الوجه لثوانٍ. كأنني كنت أنظر الى وجه آخر. وعندما وصلت الى دمشق أقمت هناك أسبوعاً. وكان حصل حادث طريف جداً على الحدود السورية – اللبنانية. فالضابط اللبناني على الحدود الذي طلب أوراقي، وكنت أحمل جواز سفر تونسياً ديبلوماسياً، وجد ان اقامتي قد انتهت وهذه مخالفة قانونية. قلت له: صحيح، ولكن ألا تسمع الأخبار؟ ألا تعرف ان ما من سفارات أو دوائر تعمل؟


> الى أين سافرت من دمشق؟

- الى تونس. وكانت زيارة ورأيت خلالها الرئيس عرفات والأخوان في مشهد تراجيدي. رأيت كل الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطئ بحر. كان المشهد مؤلماً جداً ويستدعي كتابة رواية عن هذا المصير. لكن عرفات سرعان ما أعاد بناء مؤسسته. وقال لي للحين: واصل إصدار «الكرمل». كان مهتماً حتى بالجانب الثقافي. فقلت له أين أصدرها؟ قال لي: حيث تشاء، في لندن، في باريس، في قبرص... ذهبت من ثم الى قبرص كي أرتب شؤون الرخصة. وصدرت «الكرمل» من قبرص فيما كنت أنا أحررها في باريس وأطبعها في نيقوسيا وكان معاوني الكبير هو الشاعر سليم بركات.


> كم دامت إقامتك في باريس؟

- نحو عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، إذ كنت أسافر باستمرار. وكنت هكذا قريباً من منظمة التحرير في تونس.


> كيف كان انطباعك عن باريس؟

- كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكناً.


> هل ساهمت باريس في انطلاقك عالمياً وفتحت لك الآفاق الرحبة؟

- لا أعرف. لكنني أعرف بأن في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية. وإذا أردت أن أميّز شعري فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينات وما بعدها. هناك اتيحت لي فرصة التأمل والنظر الى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء. فأنت عندما ترى من بُعد، ترى أفضل، وترى المشهد في شمولتيه. علاوة على أن باريس جمالياً تحرّضك على الشعر والابداع. كل ما فيها جميل. حتى مناخها جميل. في باريس كتب وفي وصف يوم خريفي: «أفي مثل هذا اليوم يموت أحد؟». ومدينة باريس أيضاً هي مدينة الكتّاب المنفيين الآتين من كل أنحاء العالم. تجد العالم كله ملخصاً في هذه المدينة. وكانت لي صداقات مع كتّاب أجانب كثيرين. وأتاحت باريس لي فرصة التفرّغ أكثر للقراءة والكتابة. ولا أعرف فعلاً ان كانت باريس هي التي أصابتني أم ان مرحلة نضج ما تمت في باريس، أم انه تطابق العنصرين بعضهما مع بعض؟ في باريس كتبت ديوان «ورد أقل» وديوان «هي اغنية» و«أحد عشر كوكباً» و«أرى ما أريد» وكذلك ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» ونصف قصائد «سرير الغريبة». وكتبت نصوص «ذاكرة للنسيان» وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوماً من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغاً للكتابة على رغم انتخابي عضواً في اللجنة التنفيذية. وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية. مثلما كتبت نصوصاً كثيرة ومقالاً اسبوعياً في مجلة «اليوم السابع». كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى.


> عندما تركت بيروت حصل نوع من سوء الفهم بينك وبين بيروت... ماذا عن سوء الفهم هذا؟

- لم يحصل سوء فهم أبداً، بل كان لديّ حب عميق لهذه المدينة. لكنّ العلاقة بين المحبين ينتابها عتاب أحياناً. فعلاقتي ببيروت كانت علاقة حب. وقد شعرت في تلك اللحظة المأسوية بأن بيروت ستنسانا. هذا كل ما قلته وهو لا يجرح أحداً. وفعلاً مرّت بيروت لبضعة أيام في حال تراجع تجاه نفسها وتجاه الآخرين. أنت لبناني وتعرف اكثر مني. كانت بيروت محتاجة الى وقت أطول كي تتوازن. لكنها ما لبثت أن مرّت بحروب أهلية أخرى في غياب الفلسطينيين. وهذا دليل على أن الفلسطينيين لم يكونوا السبب الوحيد لهذه الحرب التي استحالت حروباً. لا. أنا لم أكتب عن بيروت سوى الحب. وكتبت بشجاعة العاشق المطمئن الى استعداد الحبيبة للاستماع إليه.


> مدينة عمان، هل هي لك بمثابة المستقر، اضافة الى رام الله؟

- بعدما أصبح في إمكاني أن أعود الى «جزء» من فلسطين وليس الى «جزء» شخصي بل الى «جزء» من وطن عام، وقفت طويلاً أمام خيار العودة. وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى. فأنا أولاً لن أكون مرتاحاً، ثم سأتعرض الى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال انني أفضل باريس على رام الله أو على غزة. وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة. وهاتان الخطوتان من أصعب الأمور التي واجهتها في حياتي: الخروج والعودة. اخترت عمان لأنها قريبة من فلسطين ثم لأنها مدينة هادئة وشعبها طيب. وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان.


> أليس من هدوء في بيتك في رام الله؟

- لا. التوتر عالٍ جداً في رام الله. ومشاغل الحياة الوطنية واليومية تسرق وقت الكتابة. انني أمضي نصف وقتي في رام الله والنصف الآخر في عمان وفي بعض الأسفار. في رام الله اشرف على إصدار مجلة «الكرمل».


> أين أصبحت «الكرمل» الآن؟ هل أكملت مشروعها؟

- كل مجلة يجب أن يكون لها تاريخ انتهاء. لا أعرف إن كانت «الكرمل» وصلت الى هذا التاريخ أم لا. لكنني أبحث فعلاً منذ سنوات عن طريقة لتجديد المجلة طابعاً وروحاً، من خلال تجديد محرريها. أي انني أبحث عن وسيلة للخروج لكي أعطي للجيل الجديد فرصة الاضافة والتطوير. لكنني أشعر حتى الآن بأن المجلة ضرورية ومطلوبة وتقوم بدورها الإبداعي والثقافي إضافة الى الترجمة.


> هل حاولتم التحاور مع المثقفين الاسرائيليين مثل بعض المجلات الفلسطينية في الداخل؟

- ليس كثيراً. هذه مسألة فردية. أنا لا أعترض على أي كاتب فلسطيني يحاور كاتباً اسرائيلياً معتدلاً ويجمعهما الحد الأدنى المشترك وهو القبول بالدولة الفلسطينية والحق الفلسطيني. ولكنني لا أقترح هذا الحوار كمقترح عام. وقد حقق زميلنا حسن خضر مساجلات مهمة مع بعض الكتاب الاسرائيليين وهي ليست حواراً مقدار ما هي مواجهة فكرية.


> هل تتدخل كثيراً في محتويات المجلة؟

- أقرأها حرفاً حرفاً. وأمارس دوري كرئيس تحرير. لأنني لم أقرر حتى الآن من هو رئيس التحرير المقبل. وهذا لا يتعلق بي وحدي بل بمجلس الأمناء وبمتطلبات الثقافة الفلسطينية في الداخل. فتوقيف مجلة مثل «الكرمل» يشكل تراجعاً كبيراً في الحياة الثقافية الفلسطينية. إننا في حاجة إليها. ولكن يجب أن يتسلّمها شخص سواي.


> هل ضجرت منها؟

- لا. لكنني أحررها منذ العام 1981 أي منذ أربع وعشرين سنة. وطبيعة الأشياء أن يتغيّر الأشخاص.


المرأة والمرأة – الأرض


> «سرير الغريبة» هو من كتب الحب الجميلة جداً وأعتقد انه استطاع ان يضع حداً لمقولة المرأة – الأرض أو الحبيبة – الوطن التي طالما تكلم عنها النقد إزاء شِعرك. كيف ترى الى هذه المقولة وهل من علاقة لها بـ «سرير الغريبة»؟ هل سئمت هذه المقولة؟

- لا لم أسأمها، ولكن هناك خطر من استمرار التمسك بالترمز. المرأة كائن بشري وليست وسيلة للتعبير عن أشياء أخرى. الوردة كائن جمالي من دون أن يرمز الى جرح أو دم. هذه محاولة لتطبيع علاقتي مع اللغة أو الكلمات والأشياء، ولتطبيع علاقتي أيضاً بالنظر الى الفلسطيني ككائن بشري أولاً، قبل أن يكون قضية. فالهوية الانسانية للفلسطيني سابقة للهوية الوطنية. صحيح اننا في صراع طويل يستلزم أن يقوم الشاعر خلاله بدور في بلورة الهوية الثقافية وفي حماية الروح من الانكسار، ولكن يجب ألا يلغي هذا الأمر حقنا الانساني في التأمل في طبيعتنا البشرية. فالفلسطيني إنسان يحب ويكره ويتمتع بمنظر الربيع ويتزوج... إذاً المرأة تحمل معاني أخرى غير الأرض. جميل أن تكون المرأة وعاء للوجود كله. ولكن يجب أن تكون لها شخصيتها كامرأة. عندما تعرضت في ديواني «سرير الغريبة» للنقد واتهمت بالتخلي عن ارتباطي بالقضية، قلت ان هذا تعميق للتجربة. ثم ان شعر الحب يمثل البعد الذاتي من أبعاد المقاومة الثقافية، فأن نكون قادرين على الكتابة عن الحب والوجود والموت والماوراء، فهذا يعمق من قيمتنا الوطنية وهويتنا. نحن لسنا خطاباً، نحن لسنا بياناً. وكما قلت أكثر من مرة وأكرر: الفلسطيني ليس مهنة بل كائن بشري يناضل ويدافع عن أرضه وحقه.


> هل يضيرك أن تُسمى مثلاً شاعر حب وليس شاعر غزل طبعاً؟

- أتمنى أن أكون شاعر حب أو أتمنى أن تسمح لي ظروفي التاريخية في أن أكون شاعر حب، لأن شعر الحب هو أجمل ما يمكن أن يكتب من شعر. والحب لا ينتهي. شعر النضال ابن مرحلة ما وهو ضروري، ولكنه لا يقدر على الاستمرار. الصراع عملية مستمرة، الصراع في معناه الايجابي، وهو يأخذ أشكالاً متعددة، منها صراع الانسان مع قلبه، الصراع بين العقل والقلب، نداء الغريزة، حق الرغبة في التعبير عن نفسها.


> هل عشت قصص حب وخيبات حقيقية؟ وهل كتبت انطلاقاً من تجارب عشق حية؟

- كل ما أكتبه في الحب أم في سواه، ناجم عن تجارب حية.


> هل هناك امرأة معينة كتبت عنها أو لها؟

- ربما. ولكن ليس كما يعبر عنها شعري. لماذا؟ لأنك إذا بدأت في كتابة قصيدة حب لا يمكنك ان تكتب عن المطلق في الحب، أنت تكتب عن امرأة معينة. لكن الكتابة تأخذ مجرى يخرج من سياق حادثة الحب. حينذاك تختلط ملامح المرأة التي تكتب عنها بملامح امرأة أخرى أو نسوة أخريات، وكذلك، بملامح الشجر والماء والتراب. النص يبدأ دائماً من المحدد ثم ينتقل الى الكلي. أما أن يكون لدي امرأة مثل «إلسا» حبيبة الشاعر أراغون فهذا صعب. ليس لدي «إلسا». هذا مع اعتقادي بأن «إلسا» كانت ذريعة للشاعر أراغون.


> سأنتقل الى الكلام عن «نوبل». ففي كل سنة يتجدد الكلام عربياً عن «نوبل» وتطرح دائماً أسماء عربية، وكان اسمك بارزاً هذه السنة من خلال الاحصاء الذي قامت به صحيفة «النهار» البيروتية وقد احتللت فيه المرتبة الأولى بحسب ترشيح بعض المثقفين العرب اسمك للجائزة! كيف ترى الى هذه القضية الاشكالية؟ هل فكرت بالجائزة يوماً؟

- لم أفكر بجائزة نوبل ولم أحلم بها وأشعر في داخلي بأن على الانسان أن يحلم بما هو ممكن وألا يتحول هذا الموضوع الى «وسواس». القضية غير شخصية وأشكر المثقفين الذين اختاروني للجائزة. ولكن كنت أتمنى ألا يكون اسمي مطروحاً بين الأسماء، لأنني لا أحب دخول هذه «البورصة». كل سنة ترتفع أسهم وتسقط أخرى. وعموماً هناك مشكلة في نظرة العرب الى صورتهم. الأدب العربي لا يحتل مكانته في العالم كما يظن الأدباء العرب. وجائزة نوبل ليست جائزة للأدب العربي. العرب فازوا بها بعد 87 سنة من تأسيسها وحازها نجيب محفوظ باستحقاق عالٍ. ومكانة العرب الأدبية ترتبط أيضاً بمكانتهم العالمية والسياسية وبحضورهم في العالم. ولا يمكن أن يستبعد هذا الشرط. يقيم العرب كل سنة زفة مما جعل القضية هذه محرجة حقاً. ومن حسن حظ العرب ان اعضاء اللجنة السويدية لا يقرأون العربية ولا يضحكون من إصرار العرب على انتزاع الجائزة. وإن فاز بها أي عربي فستكون الفرحة عربية. ولكن علينا أن نتصرف بلياقة أفضل وألا نصاب بمرض أو بهوس اسمه «نوبل». والمشكلة أن بعض الكتاب العرب إذا ترجم لهم كتاب يضعون نفسهم رأساً في قائمة المرشحين للجائزة هذه. وأنا أعتقد ان المرشحين لهذه الجائزة هم بالآلاف. وأي كاتب يمكن أن يُرشحّ الى هذه الجائزة. لكن هذا لا يعني شيئاً. فلماذا يقف العرب كل سنة في «طابور» الانتظار؟ إذا جاءت تكون جاءت وإذا لا فلا.. وعلى الذين يفكرون فيها يجب أن ينسوها، لعلها تتذكرهم.


> ماذا يعني أن يقول شاعر في حجمك ومرتبتك: «أنا لست لي أنا لست لي...»؟ هل هي الغربة التي يحياها الشاعر الذي فيك؟

- في آخر الأمر لا يبقى من الشاعر إلا بعض شعره، إذا كان استحق أن يصمد في غربال الزمن. أما هو فليس لنفسه، إنه منذور للغة ولتقديم مسوّغ وجوده على هذه الأرض. انه، في ختام الأمر زائل واللغة هي الباقية. «أنا لست لي» على المستوى الشخصي، ولكن ربما «أكون لي» على المستوى الشعري، وإذا كانت لي قيمة ما، فهي لن تكون لي، بل للغة وللآخرين.


> هل تخاف الموت؟

- لم أعد أخشاه كما كنت من قبل. لكنني أخشى موت قدرتي على الكتابة وعلى تذوّق الحياة. لكنني لن أخفيك أن الطريقة التي مات فيها الشاعر معين بسيسو في الفندق، وكانت غرفته مغلقة وعلى الباب إشارة «الرجاء عدم الازعاج» جعلتني أخشى هذه الاشارة أو اللافتة. فجثته اكتشفت بعد يومين. الآن كلما نزلت في فندق لا أضع هذه الاشارة على الباب. ولا أخفيك أيضاً انني لا أضع مفتاح باب البيت في القفل عندما أنام.


> أليست الفنون قادرة على هزم الموت كما قلت في قصيدتك «جدارية»؟

- هذا وهم نختلقه كي نبرر وجودنا على الأرض، لكنه وهم جميل
.
.
ماسبق هو الجزء الثاني والاخير من الحوار الذي نشرته جريدة الحياة على خمس حلقات..
أتمنى أن يكون للحوار صداه هنا أيضا في منتدى شعبيات/ مواسم: تعليقا، وتساؤلا، وحوارا، وبناءً..

.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس