مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
قديم 31-08-2005, 12:43   #3
عبدالواحد اليحيائي
كــاتـب
 
الصورة الرمزية الخاصة بـ عبدالواحد اليحيائي
 

رد : قراءات.. حوارات.. مباحث في السرد

.
النادي الأدبي بالرياض – جماعة السرد
لقاء يوم السبت 27/8/2005
قراءة لنصوص أدبية منشورة في مواقع الإنترنت
قراءة في نص " الهمال " للكاتبة كوثر الزهيري


الهمال* (قصة قصيرة)
القاصة: كوثر الزهيري


أول تباشير الفجر..ندىً خفيف يعلق بنافذته الزرقاء..يتمطى ويبتسم لوجهها الصبوح الغافي بجانبه..يتلمس غرتها فتُشرق كُوتا عسل مصفى..يقفز الى الأرض ساحبا الغطاء الخفيف..حاملا إياها ..معتنقا فضتها المكتنزة..قبل جبينها فأطرقت خجلا..ركضت الى المرجل لتوقد له الكانون كي يأخذ حمامه الصباحي..أخذت حفنة من النعناع البري وهمست للورق الأخضر بشيءٍ ما..ثم نثرته في الماء فاعترته موجة غليان..ابتسمت ..تعرف دائما متى سيغلي الماء..تشكلت سحابة النعناع على وجه الماء فارتعدت..وجمت..طل عليها وهي تناوله كأس الشاي الأسود..أحس ان بها شيء مختلف..لم تجب تساؤلاته..ثم وبصوتها الرخيم قالت ..
-لا تخرج للحقل اليوم يا ابن عمي..
-لم يا غالية..
-لا تخرج وحسب..
-دعي عنك الوساوس..
قام لحمامه فتحركت الأرواح الساكنة في النار وتطايرت السنة اللهب فأطفأت هي المرجل..وأخذت تسكب على شبابه المفتول قطرات الماء التي تشبثت بظهره المفصل بشغف..أشعلت بخور (الجاوي)..وحضرت له زوادة النهار ..بضع تمرات قرأت عليها أيات الحفظ وبعض الإذكارات وخبزة سمراء كلونه الجميل..ثم وعلى غير عادتها ارتمت في صدره فأحتضنها وقال لها ..
-سأعود..
هلت بشائر النور وزقزقت عصافير الحقول في طريقه..لمح الصيادين عائدين بأغنياتهم الهادرة ورائحة الملح الأليفة تعبق بالطريق..مُختلطة بهجس روائح الخبز الطازج من الفرن القريب..قرأ السلام على العابرين ونادى بالصباحات البهية..لخطوته تيقظت البراعم البكر..وألتف الخزامى المنثور في الطرقات على نفسه متتبعا قوامه الفارع وهو يحمل فأسه بخفة غصن ٍ أخضر..يتذكر الغالية فيشعر بأنه أسعد رجلٍ على أرض الديار..ها هو حقل ابيه المسافر للحج مع أخيه الأكبر يبدو لعينيه لامعا وجميلا..كم هو فخور بمزرعتهم الصغيرة..اخيرا تمكنوا من شراء قطعة ارضٍ خاصة بهم وبثمن بخس..لا بد انهم محظوظون..اليوم هو يومه الأول في حرث ملكه الخاص..دخل الى البوابة المشغولة من سعف النخيل..تجول قليلا ..وصل الى عين الماء الرقراقة..أهم ما يميز هذه الأرض ان بها عيناً لم تنضب أبدا..ما هذا أنه يسمع صوت غناءٍ يسلب الفؤاد..اقترب أكثر ليرى اوضح فالشمس لم تشرق بعد..فإذا بآية من الجمال المكتمل تقف الى النبع عارية وتناديه..شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..نادته باسمه فاستغرب..لصوتها رنة ساحرة ..اقترب اكثر وكل ما فيه ينبض..ظهرت له عينا الغالية..تراجع..نادته العارية ثانية فأقدم..وقف مبلبلا لا يعرف ماذا يفعل..أرسلت شعرها المنساب للخلف فتبدى عُريها ساطعٌ وصاعق..تيارٌ فتنة أودى به..قالت له..خاتمي سقط في النبع هلا أحضرته لي..لم يستطع الا الإمتثال..اقترب ثم ابتعد ثانية فعاجلته قائلة سأمنحك نفسي بعد ان تُحضره..لم يعد يرى الا جسدها المنساب كما لم ير من قبل..كاملٌ ومتسق ..مقوسٌ وخاضع ..ذهب للغطس بحثا عن خاتمها..وأشرقت الشمس..
أذن المغرب والغالية لا تفتأ تسكن للنوافذ تترقب صوت سلامه على الجيرة ولم يأتِ حتى انتصاف الليل..استعانت بالعشيرة في البحث عنه..لم يره أحد منذ الصباح..لا أثر له..
...
الفلاحات اللواتي يحضرن سلال التمر في مواسمه ..يتحدثن عن شابٍ يلاحق فتاة عارية في مزرعة تُدعى (الهمال)*..كلما بدأت تباشير الفجر سمعوا غناءها وصوت أنين شابِ يغرق..
يقلن ايضا وهن يساومن على السلال أن الغالية رُزقت بصبي وهجرت ديارهم ولم يُرى طفلها في الناحية أبدا..كما أن هناك وسط المزارع الكثيرة..أرضٌ صغيرة بها نبع لا ينضب..مُخضرة تماما ولا فلاح لها معروضة ً للبيع بثمنٍ بخس..


* الهمال..المزرعة المهجورة المهملة التي لا فلاح لها..
.
.

وقراءة لـ(عبدالواحد اليحيائي)..


كوثر كعادتها قاصة،
هي مشغولة بالأسطورة..

مشغولة بها وأيضا بالإنسان وآلامه حين تكتب سواء في (الهمال) أو غيره من النصوص..
الإنسان بهمومه اليومية، وأشيائه الصغيرة، وعوالمه مع الأشخاص والأفكار في ظل شبكة العلاقات التي تربط ذاته بالآخرين، والنخيل والبحر والبسطاء من الناس هم شخصيات النص عند هذه القاصة.

ما الذي يرد على الذهن حين نقرأ الكلمة – أسطوره - ؟!!
السطر في الكتابة..
و(السطار) في العامية بمعنى (الصفعة)..
والاستقامة قد ترد أيضا..
والعظمة المرهبة (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا)..
والأكاذيب المتتالية (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين)..
تلك بعض المعاني المترادفة..
أي المعاني المتغيرة حسب السياق الذي تجئ فيه وإن كان اللفظ واحدا في الغالب..
ولعل السطر المكتوب عبر التاريخ وقدرته على الإيحاء صدقا وكذبا هو الخيط الذي ينتظم هذه المعاني جميعا.

والأسطورة شيء غير الخرافة..
لأن مدار الأسطورة في الغالب على حقيقة محرفة..
ومدار الخرافة على كذبة متحققة إن في العقل أو النقل..
مع الأسطورة نحن في حضرة إنجاز نحلم به وقد يكون..
ومع الخرافة نحن في محضر أمنية لا تكون..
الأسطورة كذبة إيجابية..
والخرافة كذبة سلبية.

تفسر الأسطورة روح الأمة في بواعث أعمالها..
كما قد تفسر بواعث عقلها حين ينشئ ويقرر مستلهما من الصواب والخطأ بين الخرافة والأسطورة.

يكفي تعريفا بالاسطورة.. ولنعد إلى أبطال النص: الغالية، وابن عمها، والعارية على طرف العين التي لا تنضب أبدا (ولنلاحظ أن القاصة لم تقل أنها جنية)، والهمال (المزرعة المهجورة كما شرحت القاصة لاحقا)، والغالية امرأة محبة لزوجها، مشغولة بتفاصيل حياته، مهمومة بهمه، قد يشغلها الوسواس القصير حتى تأمر بلطف:

-لا تخرج للحقل اليوم يا ابن عمي..
-لم يا غالية..
-لا تخرج وحسب..
-دعي عنك الوساوس..


ونحن خلال هذا الحوار كله مشغولون بالتفاصيل الصغيرة: النعناع البري وورقه الأخضر وسحائبه، قطرات الماء المنسكبة على شباب مفتول، بخور الجاوي وزوادة النهار.. الخ. تفاصيل تضعنا (في جو) القصة، وتملؤ أنفسنا بالرحمة والمحبة المنبعثة من قلبين صغيرين، أحدهما مشغول بالحبيب ممثلا في إنسان جميل، والآخر مشغول بالحبيب ممثلا في أرض تملكها للمرة الأولى فهي كيانه وأمله وحلمه الجميل بعد سنوات انتظار:

ها هو حقل ابيه المسافر للحج مع أخيه الأكبر يبدو لعينيه لامعا وجميلا..كم هو فخور بمزرعتهم الصغيرة..اخيرا تمكنوا من شراء قطعة ارضٍ خاصة بهم وبثمن بخس..لا بد انهم محظوظون..اليوم هو يومه الأول في حرث ملكه الخاص..دخل الى البوابة المشغولة من سعف النخيل..تجول قليلا ..وصل الى عين الماء الرقراقة..أهم ما يميز هذه الأرض ان بها عيناً لم تنضب أبدا..

وهنا ترد علينا مفاجأة..
الشخصية الثالثة في النص..

أنه يسمع صوت غناءٍ يسلب الفؤاد..اقترب أكثر ليرى اوضح فالشمس لم تشرق بعد..فإذا بآية من الجمال المكتمل تقف الى النبع عارية وتناديه..شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..نادته باسمه فاستغرب..لصوتها رنة ساحرة..

هل هو الإنسان في مواجهة الفتنة..؟!!
وعلينا أن لا ننسى أن الفتنة واقفة على عين لم تنضب أبدا..
عين الرغبة مع وجود أمل جميل يتمثل في الغالية، إلى بحث عن حلم (ولنا أن نقول وهم) أجمل متمثلا في المرأة العارية التي تغني بصوت عذب، داعية ابن العم للهبوط في عين لا تنضب أبدا، ونعلم أن ابن العم قرر النزول إلى العين لأنه رغب في المكافأة:

..قالت له..خاتمي سقط في النبع هلا أحضرته لي..لم يستطع الا الإمتثال..اقترب ثم ابتعد ثانية فعاجلته قائلة سأمنحك نفسي بعد ان تُحضره..لم يعد يرى الا جسدها المنساب كما لم ير من قبل..كاملٌ ومتسق ..مقوسٌ وخاضع ..ذهب للغطس بحثا عن خاتمها..وأشرقت الشمس..

ونعلم إذ نواصل القراءة أنه لم يعد..
وأن الغالية انتظرت كثيرا وهي حبلى بطفل لم ير أباه ابدا..
ونعلم أن الفلاحات ما فتئن يتحدثن عن شابٍ يلاحق فتاة عارية في مزرعة تُدعى (الهمال)*..كلما بدأت تباشير الفجر سمعوا غناءها وصوت أنين شابِ يغرق..

وينتهي المشهد على مزرعة مخضرة دائما كقلب الإنسان حين يحب..
ونبع لا ينضب كأمله كحلمه وأمله الخالدين..
وهمال معروض للبيع ولا من مشتري كخيبة الرجاء في حلم لم يتحقق.
همال هو في واقعه أضغاث أحلام.

كل ما سبق في لغة سلسلة جميلة، وسرد متتابع كل ما فيه يغري بالمواصلة، وحديث يرويه الراوي فتسمع وترى وتشم أيضا، فأنت مع القاصة في قلب الحدث، في البيت، وفي الطريق إلى المزرعة، وأمام البئر، تتأمل جمال الغالية، ويشغلك جمال الفاتنة، وقد تعقد المقارنة بين الغالية والفاتنة عند البئر وتحتار كما احتار ابن العم، ولعلك تدعه وتعود إلى الغالية إن لم يغرك أن تمنحك العارية الفاتنة نفسها، وإن لم تنادك تلك العين التي لا تنضب، وذاك كله بلا شك قدرة تجعل من القصة حياة، ومن الحياة فكرة، ومن الفكرة مسؤولية تجعلنا بعد القراءة غيرنا قبلها، وذاك من مهام سرد قصصي قصير بلا شك، وقد أحسنت القاصة مهمتها كأجمل ما يكون الإحسان.

هل من ملاحظات..؟!!
لا بد...
لكنها قليلة.

فقد كنت حقا سأكتب أن الوصف هنا هزيل ورجعي أيضا:

شعرها يسبح للماء من طوله..ساقاها موز مقشر..يداها مرمر لامع..صدرها فضة مجلية..

لكني تراجعت، اليست البلاغة مراعاة الكلام لمقتضى الحال، وأي وصف نرتجيه أجمل من هذا في بيئة كبيئة النص؟ الوصف هنا هو ابن بيئته وذاك جمال آخر، أن يتحول القاص إلى قلب بطله فيصف ما يراه بعين البطل لا بعين الراوي، وقد فعلت القاصة هنا ذلك وأحسنت، فالملاحظة هنا هو صد للملاحظة.

وتبقى أشياء صغيرة قد تحيلها القاصة إلى فقه التصحيح قبل النشر:

- ارتمت في صدره فاحتضنها.. وهي تقصد بالتأكيد ارتمت على صدره..
- مختلطة بهجس روائح الخبز.. ولعل الاصح أن هاجس تجمع على هواجس..
- ولم يرى طفلها في الناحية أبدا.. والصواب: لم يُرَ..
- وهناك بعض الجمل التي أرى أنها بحاجة إلى إعادة تركيب مثل: اقترب أكثر ليرى أوضح..

أشكركم جميعا.
.
.

عبدالواحد اليحيائي غير متواجد حالياً   اضافة رد مع اقتباس