00 سعادة مطلَّقة 00
سعادةُ مطلَّقة..
دخلت غرفتها.. أسرعت بسبابتها اليمنى لتشعل النور لترى أثاث المكان وكأنه يرحب بها، ولجت بهدوء المحبين ، أخذت تذرع الغرفة بلا شعور، لم تصدق! أهي تحلم أم أنها فعلاً أصبحت "مطلَّقة". عندما ملأ المصباح بنوره رئة الغرفة، كان أول ما رأت أريكتها الخشبية، تركية الصنع، ذات اللون العوديّ، ملقىً عليها بعض مناشف صغيرة، ويبدو واضحاً لها خدشٌ طويلٌ على إحدى أرجل الأريكة، وبجانب سريرها كوميدينةٌ صُفَّ على هامتها تحفٌ بلاستيكية، وبروازٌ لصورة أبيها المتوفى، ومزهريةٌ قد انصدع خزفها، تطل من فمها سبع ورداتٍ صفر إحداهنَّ منتوفة الأوراق. قامت بفتح أدراج الكوميدينة فإذا بها بعض أوراقٍ صفراء، وعلبة مكياجٍ فرنسية الصنع قد فُقِدَ غِطائها، وبعض أقلامٍ قد جفَّ حبرها، وقصاصات لمجلاتٍ قديمة قد تلاشت بعض ألوانها. جلست على طرف سريرها الأيمن، وراحت يدها تمسح عليه، وكأنها تمسح على رأس يتيمٍ أو مسكين، تغازل كشاكيشه المتدلية مع أطرافه، وتحاكي ألوانه الممزوجة ببعض، وتسلي أناملها اليمنى بثقوبه المتفواتة بالحجم، تقبض بكفها وتردد: - الحمدلله، وأخيراً انعتقت. ثم قفزت من فوق سريرها، وأقبلت على دالوبها الفردي، الذي قد تقشرت ألوانه، وفُقِدَت إحدى أدراجه السفلية الصغيرة، متضحةً على واجهته بعض الرضوض، التي كان يحدثها أبناء أخوتها وأخواتها الصغار عندما كانوا يتواجدون في غرفتها بعد زواجها المنبوذ، ففي أغلب بيوتنا نحن السعوديون، تنتقل ملكية غرفة الفتاة المتزوجة إلى شخص آخر، وذلك قبل زواجها بفترة ليست بالطويلة حين التقت بخشب الدالوب نثرت على واجهته قبلاتٌ حارةٌ تاركةً على خشبه المطلي بدهانٍ بنيّ أثار الروج الشاهد على احتراقها، وشوقها لغرفتها، ثم أدارت ظهرها للدالوب... فالفرحة لا تسعها. تسريحتها الصغيرة بحاجةٍ أيضاً إلى وبل حنانها، وهطَّال شوقها، سعت إليها بهدوء، فهي لم تعاملها كما عاملت بقية أغراض الغرفة، فتسريحتها تُقلُّ على كتفيها المخدوشين بقايا عطورات مقلدة الصنع نفد أغلبها وضُيِّعَت أغطية بعضها... وقفت لتقوم عينيها بوخز صورتها المطلة عليها من المرآة... مرآةٌ خُطَّ عليها بقلم كُحلٍ عريض عبارةٌ تقول: "زواج سعيد يا نجاح".. كانت قد خطَّتها ابنة عمها "نجلاء" حين خروجها إلى بيت زوجها ليلة عرسها. رفرفت أصابع يدها اليمنى لتحطَّ على حافة التسريحة، لتقوم أظفارها الطويلة بحك ظهر تسريحتها... وأخذت تهذي: - مرآتي.. لقد سهرت أقضم تفاحة الزمن المخلوع من عمري الشجيّ، مرآتي.. لقد شربت من خمرة الوجع حتى ثملت، لكن.. أزف إلكي ريحان البشرى.. لم يعد سهم الذكريات يقتفيني، ولم أعد أريد أن أُسمع المدينة صوت الوجع. سكتت برهةً قصيرة ثم أضافت: - أيها الصبر... ما أمرَّك على ريقي، كم كانت أيام زواجي تمد لي فوق جناح كل ليلٍ رغيف العزاء على صفيح العمر اليتيم. توقفت خناجر أظفارها عن العبث بظهر التسريحة قليلاً ثم سحبت أصابع كفها محدثةً صريراً خاطفاً أحدثه جلد باطن أصابعها. كان الطلاق بالنسبة لها مولدٌ جديد لها. تتناسل الأفكار في بالها الفتيّ: - سأعيد ترتيب غرفتي.. لا.. لابدَّ من إعادة تعتيقها، ورسم جدرانها جديد. تزاحمت حمامات الأفكار بين يديها، فلم تعد تدري كيف ستبدأ، وبما سنبدأ، فهي الآن تريد أن تشطب ماضيه التعيس من صفحات حياتها، لديها رغبة مُلحَّة على أن تدفن تاريخه العابس تحت كعبها المخملي، وتعلن دفن جثَّته في سابع النسيان ، وبالإضافة إلى مهمة طارئة لإتمام مراسم الخلاص من أتفه أمرٍ يذكِّرها به. استدارت ناسيةً كل ما خلفها من ذكرى الوهن، والقمع الزوجي، لتقذف بنفسها على السرير المجاور لنافذتها، لتقوم باللهو بخصلةٍ من شعرها الكستنائي، وتلصق عينيها بالسقف الجبسي الأبيض، وتدقق في زخارفه المتموجة، وألوانه الشاحبة من آثار الزمن. بعد لحظات انسلخت من جلد الوقت الذي كانت لاهيةً بخصلة شعرها، وعيناها تتجولان في السقف، انطلق رنين هاتفها النقال في فضاء غرفتها الصغيرة، وتوزعت ذبذباته المغناطيسية كقطعان الظباء، لتنحشر في حدود مربع المكان. نهضت والتقطته من فوق تسريحتها القابعة بجانب باب الغرفة، رقم لأول مرةٍ يغزو هاتفها ويطل عبر شاشته الضوئية، لكزت زرَّه الأحمر، وعادت تتأمل بقايا غرفتها. - انتهت - ماجد سليمان |
رد : 00 سعادة مطلَّقة 00
ماجد .. لم تُتاح لي الفرصة من قبل لِقرائة قصائدك التي أتوقعها مُغلفة بِأناقة الحرف وعزفه المنفرد .. ولكن .. أرتمت عيناي على جمالٌ آخر .. يُحاكي الأنوثة المغموسة في أوجاعِها .. بعد أن تنفست الحرية وأشعلت قناديل السعادة .. مُعلِنتاً مولد أُنثى جديد .. سردٌ جميل .. نقل القصة إلينا بِتفاصيلها الصغيرة صوت وصورة ..فعشناها !! سلمت يمينك ياماجد همس |
الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +4.
الوقت الان » 03:26. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع ما يكتب في الموقع يعتبر حقوق محفوظة لموقع شعبيات- شبكة الاقلاع